
الحالة السورية لا تنتج إجابات، بل تفيض بالأسئلة كأنها الجرح ذاته. كلما اقتربنا من طرح سؤال جديد، بدا كأننا نفتح شقاً آخر في نسيج الحكاية. الإجابات، حين تظهر، تأتي عمياء أو خرساء، تمشي في الظلام أو تُقنع نفسها أن العتمة طريق. في سوريا، الأسئلة تعرف وجهتها، أما الإجابات فغالباً بلا بوصلة، أو تنحاز عمداً للتيه. الواقع هنا لا يختلف عن الفرضيات التي نبنيها عنه في الفضاء الرقمي: كلاهما متشظٍّ، مراوغ، ويصعب الإمساك به. ما يُعاشُ على الأرض، وما نتابعه على الشاشات، يتبادلان الأدوار حتى يغدو الواقع نفسه احتمالاً قابلاً للتعديل، وساحةً تُعاد هندستها بالرغبة أو بالذعر.
في هذه المتاهة، لا تبدو المشكلة في غياب الحلول فحسب، بل في أن الأسئلة نفسها باتت بلا أرض، بلا أفق، تُطرح لا لتُجاب، بل لتبقى معلّقة كأعلام فوق خرائب، تشير إلى أننا ما زلنا هناك: في عين العاصفة، نحترف طرح الأسئلة لأن الجواب الوحيد المتاح لا يزال… وجعاً.
على سبيل المثال لا يُقرأ “انتقاد الدولة” في المشهد السوري الرقمي، كما هو، بل كما يُخشى أن يكون. لم يعد نقد الدولة يُفهم بوصفه ممارسة سياسية مشروعة، بل بات تفكيكاً رمزياً لسلطتها ومركزيتها وتعدياً على شكلها الحالي، أو اصطفافاً مع عدو متخيل. السبب لا يكمن في قداسة الدولة، بل في ضياع معانيها عند المدافعين الشرسين عنها باختزالها في النظام الذي يحكمها. لم نعد نُفرّق بين الدولة ككيان نظري يُفترض به أن يحتضن الجميع، وبين السلطة كنظام مصلحي يستنزف الجميع. هذا الالتباس المفاهيمي أصبح أداة قمع غير مرئية، تشتغل بأيدي من يخشون على ما يرونه استقراراً أكثر مما يؤمنون بوطنهم أو مستقبل الدولة كما يجب أن يكون.
ربما تبدو سوريا اليوم مختبراً حقيقياً للطامحين بإنجاز أبحاث عن مواقع التواصل الاجتماعي، فتأطير عاصفة اللايك والترند تجاوز مسألة تعريف الجماعة كونها مجرد بنية اجتماعية أو سياسية موروثة من التاريخ أو من نظام الولاءات الدينية.
لا يوجد مشارك في الشأن العام السوري إلا وتعرض مؤخراً في الفضاء الرقمي إلى هجوم يعكس حدة الانقسام الحاصل في المجتمع، حيث تتناسل التعليقات والانفعالات مثل شلالات بلا رقيب ولا سياق، وهناك يتحوّل أي انتقاد للسلطة إلى “طعنة في الخاصرة” تعبير ألطف من “طعنة في القلب”، فيُستدعى على الفور أرشيف الماضي، جرحه، مظلوميته، كي تُفهم الكلمات لا بحسب نواياها، بل بحسب موضع قائلها من الخريطة السياسية والطائفية. وهكذا، تُجتث السياسة من مضمونها، ويُختزل الفضاء العام إلى شعور مزمن بالتهديد. والتعدِّي الشخصي.
النتيجة؟ لم نعد نملك دولة نحاسبها، بل كيان نخاف عليه من السقوط. لم نعد نملك لغة مشتركة لنقد الواقع، بل جدراناً رقمية تتبادل فيها الصراخ، الشتائم، القوالب الجاهزة من حيث الانتماءات. وهكذا، بدل أن نُعيد بناء الدولة، أعدنا إنتاج القبيلة الرقمية، لكن هذه المرة بشيفرة وذاكرة تحرسها الخوارزميات.
في الفضاء الرقمي السوري، لا تبقى الحوادث المحلية حبيسة مكانها الجغرافي أو لحظتها. فحادث فردي، أو مشادة عابرة في أي مكان، سرعان ما يُنتزع من سياقه الواقعي ليُعاد تشكيله في قالب مشحون، يخدم سردية جاهزة ومُعدّة مسبقًا: “نحن مهددون”، “الآخر قادم”، أو “الخطر بات على الأبواب”، “اللصوص في كل مكان”. هذا التوسيع الانفعالي للحادثة يحوّل الواقعة المحدودة إلى جرس إنذار جماعي، تتجاوب معه “القبيلة الرقمية” على امتداد الجغرافيا، من الساحل إلى الداخل، من السويداء إلى أقصى الشمال الشرقي من البلاد. فتنساق بعيداً عن الحدود التي أرادها طارحها باعتبارها اعتداء على الدولة والسلطة أو تأييداً لها.
هذه القبيلة لا تحتاج إلى من يعبئها تنظيميًا؛ فالشحن يجري بكل وسيلة، عبر الصور، والتعليقات، ومقاطع الفيديو التي تقتطع الواقع وتعيد تقديمه كدليل جديد على سردية الخوف القديمة. وبهذا، تتحول المنصة الرقمية إلى مكبر صوت لهوية جماعية تتغذى على الذعر، وتتماهى سريعًا في رد فعل موحّد، يُنتج موجات تضامن داخلية بقدر ما يعمّق خطوط الانقسام مع الآخرين. المأساة لا تتضخم هنا بفعل حجمها، بل بفعل قابلية الجمهور للانفعال، ورغبة القبيلة في تأكيد سرديتها. وبهذا المعنى، يتحوّل كل حدث جزئي إلى لبنة في بناء سردية كليّة، كل مرة، ومن جديد، من دون أدنى مقاومة للسياق أو العقل.
هل هذه الحالة تقتصر على سوريا؟ قطعاً لا، فهناك تجارب عالمية متعددة وبعيدة عن منطقتنا، تجلّت بها بوضوح هذه المسألة، فمثلاً، في الهند، تقوم “الطائفة الرقمية الهندوسية” بتسويق قوميتها من خلال صور “المقدس المهان” و”الأقلية المهددة” في خطاب رقمي مكثف يُعاد تصنيعه يومياً. ما يؤدي أحياناً إلى جرائم قتل في الواقع بتحريض رقمي. وفي هذا الاتجاه تستثمر جماعات يمينية هذه الأدوات لتأطير الهندوس كضحايا دائمين ومظلومين، والمسلمين كأعداء داخليين. الطائفة الرقمية هنا تتحول إلى كيان تعبوي يُشارك فيه الملايين على أساس سرديات مصطنعة تُبثّ بوتيرة سريعة ومدروسة. ليس بعيداً عن الهند تبدو ميانمار على الخريطة حيث تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دوراً مركزياً في التحريض على مسلمي الروهينغا، باعتبارهم خطراً ديمغرافياً دينياً، ما يتسبب بتفاعل هائل، مدفوع بالخوارزميات، لشيطنة جماعية قادت وتقود إلى محاولات دائمة لتنفيذ التطهير العرقي، يحيث يُدفَع أبناء أقلية الروهينغا لركوب البحر بحثاً عن مخرج طوارئ في ظل التفاعل الرقمي الجماعي من الآخر الداعي لقتلهم.
في الولايات المتحدة، يتشكّل ما يمكن وصفه بـ”الطائفة السياسية الرقمية” حول الشخصيات مثل دونالد ترمب، يظهر هذا جلياً في مجتمع “ماغا” Make America great again حيث تتكون مجتمعات رقمية مغلقة مبنية على لغة الكراهية والتمييز وسرديات المؤامرة. لتعيد هذه الطائفة إنتاج نفوذها رقمياً من خلال جيوش إلكترونية تروّج لرواياتها، وتحشد أنصارها بشكل لحظي عند كل أزمة. وتهاجم عند الحاجة – بطبيعة الحال- الخصوم السياسيين.
ربما تبدو سوريا اليوم مختبراً حقيقياً للطامحين بإنجاز أبحاث عن مواقع التواصل الاجتماعي، فتأطير عاصفة اللايك والترند تجاوز مسألة تعريف الجماعة كونها مجرد بنية اجتماعية أو سياسية موروثة من التاريخ أو من نظام الولاءات الدينية. بل تحوّل التعريف إلى بنية رقمية يُعاد إنتاجها وتغذيتها باستمرار عبر المنصات، الشبكات، والمحتوى التفاعلي. فيتم إعادة ترميمها أو بناء سرديتها الجديدة عبر صور الجثث، لقطات المجازر، والهاشتاغات التي تُصاغ بلغة الانفعال والانقسام.
وفي هذا السياق يمكن رؤية تحول سوريا – ككيان مفكك ومجروح – إلى مختبر ميداني معقَّد للقبيلة الرقمية، حيث لا يلعب السياسي الدور الحاسم، بل الناشط الرقمي، ليُعاد إنتاج الطائفة خلال “الترند اليومي”، وفي هذا يتم بناء وإعادة تشكيل المتخيل الجماعي أو إرجاعِه لمربع الخوف الأول من خلال التكرار التفاعلي للصور، والرسائل العاطفية التي تتكاثر وتتناسل بشكل متسارع، فتُختزل المعاناة، وتُنمّط الضحية، ويُجنّد الأفراد ضمن هويات إلكترونية تتغذى من الغضب والخوف.
ثنائية “الضحية والجلاد” هي الأكثر رسوخًا وانتشارًا في البنية الخطابية للقبيلة الرقمية في سوريا. حيث يتسابق الفاعلون الرقميون إلى تأطير أحداث معينة مهما بلغت شدة تعقيدها- ضمن هذا القالب الثنائي الصارم.
في عصر ما بعد الدولة وما بعد المؤسسات، بات هذا المنطق يصاغ ويسوّق ويُفعّل في الفضاء الرقمي، حيث تتحوّل المظلومية إلى منتج مغري وقابل للترويج، وحيث يُبنى الآخر كتهديد دائم وليس كشريك محتمل. الحديث هنا ليس عن طائفة تتعبد أو تحتفل، بل عن طائفة يتم تحميلها رقمياً لتشارك وتُعزَّز عبر الخوارزميات، وتتغذى من التفاعل اللحظي مع صور الموت ونداءات الثأر. إنها طائفية “داتا”، طائفية شبكات لا طقوس، تُبنى بالمحتوى لا بالمعتقد، وتُعاش في العالم الرقمي أكثر مما تُمارَس في الواقع.
في فضاء “القبيلة الرقمية” التي تتشكل على منصات التواصل الاجتماعي، تتأسس الطائفية المعاصرة في الحالة السورية بوصفها حيّزًا متجانسًا ومنغلقًا، لا يتسامح مع الاختلاف ولا يعترف بالتعدد. أو الرأي الآخر، في هذا الحيّز، تُبنى الهويات وتُعاد صياغتها من خلال ثنائيات حادة جداً لكنها سهلة الهضم في ثقافة سرعة التلقي التي تمتاز بها وسائل التواصل، من هذه الثنائيات “الضحية والجلاد”، “الوطني والعميل”، “المؤمن والكافر”، “النقي والخائن”. إنها ليست مجرد أدوات وصف للواقع، بل تُستخدم كآليات لإنتاجه لأغراض محددة تهدف لإعادة ترتيب العلاقات داخله، وتحديد من يستحق الحضور والتأييد، ومن يُطرد خارج الجماعة، أو يُصنّف كخطر يجب التنديد به وتدميره رمزياً أو فعلياً.
ثنائية “الضحية والجلاد” هي الأكثر رسوخًا وانتشارًا في البنية الخطابية للقبيلة الرقمية في سوريا. حيث يتسابق الفاعلون الرقميون إلى تأطير أحداث معينة مهما بلغت شدة تعقيدها- ضمن هذا القالب الثنائي الصارم. يتم اجتزاء السياق، إزاحة المعاني، وتحويل الضحية إلى هوية جمعية، يتم تكرار صورتها وتعزيزها لتصبح مرآة وجود الجماعة نفسها، أي أن الجماعة لا تُعرّف بذاتها بل باضطهادها. الضحايا في هذا السياق لا يُعرضون بوصفهم أفرادًا، بل بوصفهم تمثيلات رمزية لكيان طائفي أو جماعة أيديولوجية. وبهذا، تتحول صورة الجثة، أو الصورة البكائية، أو صرخة الطفل، إلى أداة تعبئة، تُعاد مشاركتها آلاف المرات، ليس فقط لتوثيق الجريمة، بل لإعادة إنتاج الهوية الجمعية ولرسم صورة الآخر كجلاد ومجرم دائم لا يتغيّر، والأهم أنه غير قابل للتغيير. وفي المقابل، يتم تجريد “الجلاد” من كل إنسانية، وتحميله صفات ثابتة تتكرّر كأنها قوانين طبيعية: هو القاتل، السادي، الخائن، العميل، الحاقد. هذه العملية لا تُقصي الآخر فقط، بل تُحوّله إلى عنصر غير قابل للفهم أو التواصل أو الشراكة، بل فقط للإدانة أو الانتقام على هيئة كيس ملاكمة.
في منطق الفرز والإقصاء أيضاً، وفي مكان أكثر وضوحاً “الدفاع عن خيارات السلطة” تتداخل – في الحالة السورية- ثنائية “الضحية والجلاد” مع ثنائية “الوطني والعميل”، إنها أدوات، تُستخدم كأداة ضبط داخلية للجماعة الرقمية نفسها. فكل من يُبدي تمايزاً، أو يرفض اللغة الحادة، أو يحاول تفكيك الخطاب السائد، يُعرَّف فوراً على أنه “عميل”، “مندس”، “مرتزق”، “متهاون”، “كاره للدولة”، “مفرِّط بدم الآخرين”. الوطنية هنا لا تُبنى على رؤية سياسية، أو مشروع مدني، بل تُحدد من خلال الولاء للمنظومة الخطابية المغلقة التي تروّجها القبيلة الرقمية بشكل منغلق ومفتوح معاً وأحياناً بخطابين متناقضين. وكل من يخرج عن هذه المنظومة يتعرض للطرد الرمزي، أو للعقاب الرقمي، كحملات التشهير، النبذ، والتخوين. وبهذا، يتحول الفضاء الرقمي السوري من حيّز نقاش وتعدد مفترض في فضاء بعد ثورة، إلى فضاء تأديبي تُفرَض فيه هوية جمعية صارمة على الجميع، ويُقصى من يرفضها. لذلك لجأ كثير من السوريين إلى إغلاق التعليقات في حساباتهم عبر التواصل الاجتماعي، أو الاكتفاء بعدم التعبير عن الآراء أوالمشاركة.
إن خطورة هذا النموذج الحاصل اليوم في الإقصاء والهجوم، لا تكمن فقط في كونه شعبوياً وسريع الانتشار، بل في كونه يُنتج هوية قابلة للتكرار والتسليع، أشبه بـ”ماركة” على شكل ترند نفسي، يتم بيعها في الأسواق الرقمية. لذلك، فإن مواجهته “الترند” لا تكون بالرقابة أو القمع أو “فلترة المحتوى”، بل بخلق اقتصاد رقمي موازٍ: سرديات مضادة، وشهادات إنسانية مشتركة، ومنصات توثيق تنأى عن الانفعال والتحريض. هذه ليست دعوة لخوض معركة ضد المحتوى، بل خوض معركة من أجل المعنى.
في زمن القبائل الرقمية، يصبح السؤال السياسي أكثر إلحاحاً وتعقيداً، خاصة في السياقات الهشة والقابلة للتفكك مثل سوريا. فالمجتمع السياسي، كما يُفترض به أن يكون، لا يتأسس على الهويات الضيقة الاقصائية، بل على العقد الاجتماعي، المواطنة، القانون، والمصلحة العامة. غير أن هذا النموذج يصطدم في الواقع السوري بانتشار الطوائف الرقمية بوصفها حوامل جديدة لهويات متخيلة، تتجاوز حدود الجغرافيا التقليدية، وتعيد إنتاج الطائفية بصيغ أكثر مرونة وخطورة. تتغذى ويُعاد إنتاجها عبر الفضاء الرقمي، في “قبائل رقمية” تتداعى وتتماهى عاطفياً وسردياً، رغم ابتعادها الجغرافي. وبمثال واضح، يمكن لمشاعر الغضب أو الخوف الطائفي التي تنتجها حادثة في السويداء أن تجد صداها الآني في الجولان أو لبنان أو غير ذلك من جغرافيا، ليس لأن هناك رابطاً تنظيمياً مباشراً بين هذه المناطق، بل لأن هناك بنية سردية وعاطفية رقمية متشابهة، تسمح لهذا التفاعل والتجمع أن يحدث بسلاسة.
إننا أمام مشهد جديد لا يرتبط بتقسيم جغرافي أو حضور مادي مباشر، بل بقدرة الفضاء الرقمي على خلق ما يمكن تسميته بـ”المجتمع المتخيل”. هذا المجتمع لا يحتاج إلى مؤسسات تقليدية أو رموز واضحة، بل يكفيه تكرار التعليقات الملتهبة، الصفات التي تعزز الانقسام ليؤسس كيانات انفعالية قائمة على الانتماء والتماهي والإقصاء، والانقسام الحاد بين “نحن” و”هم”. وهذا يكون باتجاهين متعاكسين وفقاً لثنائية “الضحية/ الجلاد”.
في هذا الإطار، يُصبح من الضروري مساءلة هذا الشكل الجديد من الانتماء: كيف تتحوّل الجماعة السياسية إلى مشروع رقمي؟ كيف يُعاد إنتاجها كسوق للتضامنات القلقة والهويات المذعورة؟ والآراء المتجانسة؟ وكيف يمكن تجاوزها، لا بنفيها أو إنكارها، بل بنزع سلاحها السياسي؟ وطرد فكرة قتل الآخر وتشويهه من داخلها، وبمعنى آخر أكثر وضوحاً أي محاولة الانتقال بها إلى مجتمع سياسي حقيقي غير إقصائي أو تخويني.
المصدر: تلفزيون سوريا