تعزيز الديمقراطية والدبلوماسية… تسع سنوات على محاولة انقلاب فاشلة

   محمد مصطفى كوكصو

                                                                             

تُحيي الجمهورية التركية هذه الأيام الذكرى التاسعة لمحاولة الانقلاب الفاشلة التي نفّذتها منظمة فيتو الإرهابية (FETÖ) ليلة 15 يوليو/ تموز 2016. لم تكن هذه المحاولة مجرّد انقلاب عسكري، بل كانت مؤامرةً مزدوجةً تستهدف بنية الدولة واستقرارها، بتخطيط وتنفيذ من جماعة تتستر بالدين والتعليم، وتتبع أجندات تجسّسية مشبوهة بقيادة فتح الله غولن، الذي توفي في 20 أكتوبر/ تشرين الأول 2024 في الولايات المتحدة، حيث كان يقيم منذ 20 عاماً. سعت هذه المحاولة المشؤومة إلى إعادة تركيا إلى عصور عدم الاستقرار والانقلابات، وتقويض مكانتها الإقليمية والدولية. إلا أن وقفة الشعب التركي البطولية في تلك الليلة التاريخية أفشلت المؤامرة، وأكّدت أن إرادة الشعوب الحرّة أقوى من الدبابات والمخطّطات الظلامية.
خرج المواطنون الأتراك إلى الشوارع والميادين بصدور عارية، متحدّين آليات الانقلاب، ومدافعين عن إرادتهم الديمقراطية. وبدعم من قوات الشرطة وعناصر الجيش الوطنيين، وبقيادة سياسية حازمة وشجاعة، أفشل الانقلاب في ساعاته الأولى، وحُفظت مؤسّسات الدولة من الانهيار. لم تكن المحاولة الانقلابية تستهدف فخامة الرئيس رجب طيب أردوغان والحكومة المنتخبة فحسب، بل كانت تستهدف النموذج الديمقراطي وكل الدولة التركية. وقد برهنت الدولة التركية في مناسبات عديدة على متانة مؤسّساتها، إذ شرعت في تنفيذ إصلاحات جذرية شملت أجهزة الأمن والدفاع والعدالة والتعليم، بهدف تحصين الدولة من الاختراقات، وضمان ولاء المؤسّسات للدستور وللشعب. فكّكت البنية التنظيمية التي أقامتها “فيتو” داخل المؤسّسات الرسمية، وسُنّت تشريعات جديدة لضمان الشفافية والمساءلة وتطوير معايير التوظيف داخل أجهزة الدولة، بما يمنع تكرار التجربة المؤلمة.

بعد تسع سنوات على محاولة الانقلاب الفاشلة، دخلت تركيا مرحلةً جديدةً من التوازن السياسي والازدهار التنموي

وفي التعليم داخلياً، أعادت الدولة التركية هيكلة قطاع التعليم عبر ضمّ المؤسّسات التي كانت تحت سيطرة منظمة فيتو إلى وزارة التربية الوطنية، ممّا عزّز السيادة التعليمية ومكّن من استعادة السيطرة الكاملة على البنية التحتية التربوية، أما خارجياً، فقد برزت مؤسّسة المعارف التركية فاعلاً دولياً في مجال التعليم، إذ تولّت إدارة المدارس التي كانت تستغلها “فيتو” في عدّة دول، ووسّعت أنشطتها لتشمل 586 مؤسّسة تعليمية في 55 دولة، ضمن علاقات رسمية مع 108 دول، مقدّمة التعليم لأكثر من 70 ألف طالب.
اليوم، بعد مرور تسع سنوات على تلك الليلة العصيبة، يمكن القول إن تركيا دخلت مرحلةً جديدةً من التوازن السياسي والازدهار التنموي، مستندةً إلى الإرادة الشعبية التي أفشلت الانقلاب وعزّزت الاستقرار. هذا التحوّل لم يكن سياسياً فقط، بل انعكس أيضاً في أداء الاقتصاد، الذي واصل النمو والتعافي رغم التحديات الكبرى خلال السنوات الماضية، بما في ذلك محاولة الانقلاب، وجائحة كورونا، وزلزال فبراير 2023. فقد تجاوزت قيمة الصادرات التركية 260 مليار دولار في عام 2024، ومن المتوقّع أن تتخطّى 270 مليار دولار خلال العام الحالي، مدفوعةً بتنوّع الأسواق وتوسيع الإنتاج المحلّي، في حين ارتفعت حصّة الفرد من الناتج المحلّي الإجمالي إلى أكثر من 15 ألف دولار.
كما عزّزت تركيا مكانتها وجهةً سياحية عالمية، إذ استقبلت البلاد خلال العام الماضي أكثر من 60 مليون سائح، وكانت ولا تزال الوجهة المفضلة لملايين الزوار من مختلف أنحاء العالم، وفي مقدمتهم الأشقاء في المنطقة العربية. ولم تغفل الدولة عن مواجهة الحملات الفردية التي تهدف إلى تشويه صورتها، بل واصلت تعزيز علاقاتها مع الشعوب العربية التي تربطها بها أواصر الدين والتاريخ والمصير المشترك، في إطار نهج دبلوماسي يقوم على الاحترام والتفاهم المتبادل. وستظلّ تركيا مستقبلاً حاضنةً مرحّبةً بأشقائها من السياح العرب، في سياق رؤية تنموية منفتحة وشراكات شعبية متجذّرة.
وفي موازاة ذلك، تستمرّ تركيا في تعزيز استقلالها في قطاع الطاقة، مع انطلاق عمليات تشغيل الغاز الطبيعي المكتشف في البحر الأسود، ومواصلة جهود التنقيب في البحر المتوسط، ما يفتح آفاقاً واعدةً لتحقيق أمن الطاقة الوطني. وفي مجال الصناعات الدفاعية، حقّقت تركيا نقلةً نوعيةً جعلتها من الدول الرائدة في هذا القطاع. وشهدت السنوات الماضية بروز نماذج متميّزة مثل الطائرات المسيّرة بيرقدار، والمقاتلة الوطنية “KAAN”، والمسيّرة النفاثة كيزل ألما، إلى جانب دخول “تي سي جي أناضولو” (TCG Anadolu) الخدمة أوّل حاملة طائرات تركية محلّية الصنع. واليوم بفضل التطوّر في التكنولوجيا المتقدّمة ومعدّات الأمن الإلكتروني، تصدّر الصناعات الدفاعية التركية إلى 180 دولة.
ودبلوماسياً، عزّزت تركيا من شبكة بعثاتها حول العالم، التي باتت تضم 262 بعثة دبلوماسية، لتصبح ثالث أكبر تمثيل دبلوماسي عالمياً. وتواصل أنقرة نهجها القائم على الحوار، والاحترام المتبادل، وعدم التدخّل في شؤون الدول الأخرى، وتولي اهتماماً خاصاً بالمنطقة العربية، والخليج العربي بشكل خاص، انطلاقاً من رؤية استراتيجية تعتبر أمن الخليج جزءاً من أمنها القومي.
وتُعدّ تركيا من أبرز الداعين إلى إصلاح النظام العالمي القائم، رافضةً احتكار القوى الكبرى مصائر الشعوب، كما عبّر عن ذلك فخامة الرئيس أردوغان مراراً بمقولته الشهيرة: “العالم أكبر من خمسة”. فتميّزت السياسة الخارجية التركية خلال هذا العقد بمبدأ “التوازن النشط”، فهي تجمع بين الثبات الأخلاقي في المواقف، كما في دعم القضية الفلسطينية ورفض ازدواجية المعايير الغربية، وبين واقعية منفتحة تُبقي قنوات الحوار والدبلوماسية مفتوحةً مع مختلف القوى، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وروسيا.
وقد مكّنت هذه السياسة تركيا من أداء أدوار دبلوماسية فاعلة، كان أبرزها وساطتها في تبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا، ورعايتها اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود عام 2022، وهو ما جنّب العالم أزمة غذاء كبيرة. واستطاعت تركيا الجمع بين الأطراف المتنازعة عبر استضافتها جولات تفاوض مباشرة بين الوفدين الروسي والأوكراني في إسطنبول، مؤكّدةً بذلك موقعها طرفاً موثوقاً به يسعى إلى إيجاد حلول سلمية في ظلّ حرب معقّدة تتجاوز حدود الإقليم.

عزّزت تركيا من شبكة بعثاتها حول العالم، التي باتت تضم 262 بعثة دبلوماسية، لتصبح ثالث أكبر تمثيل دبلوماسي عالمياً

وخلال العامين الماضيين، شكّلت القضية الفلسطينية أولويةً قصوى للسياسة الخارجية التركية، فبذلت أنقرة جهوداً دبلوماسية متعدّدة، من بينها دعم الدعوى المقدّمة من جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، لتأكيد موقفها الثابت في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية ورفضاً للانتهاكات في قطاع غزّة. وتواصل تركيا تحرّكاتها السياسية بالتنسيق مع الأطراف الدولية والإقليمية بهدف التوصّل إلى وقف دائم لإطلاق النار. كما تعمل تركيا في تعزيز علاقاتها الثنائية ودعم الاستقرار في عدد من الدول الشقيقة مثل سورية وليبيا والسودان والصومال وأفغانستان، من خلال تعاون سياسي وإنساني وتنموي، يعكس التزامها بمسؤولياتها الإقليمية وعمق روابطها التاريخية.
ويبرز في هذا الإطار التعاون الوثيق مع دولة قطر، الذي تجلّى في التحرّك السياسي والإغاثي المشترك، إذ لعبت قطر دور الوسيط الرئيس في محادثات التهدئة، فيما دعمت تركيا المسار التفاوضي. وشكّل هذا التنسيق الثنائي نموذجاً متقدّماً في الاستجابة الإنسانية والدبلوماسية. وقد تميزت العلاقات التركية القطرية بتكامل المواقف وتبادل الدعم في أوقات الأزمات. وأخيراً، أدانت تركيا بشدّة أيّ اعتداء ينتهك سيادة دولة قطر الشقيقة، فأكد فخامة الرئيس رجب طيب أردوغان أن تركيا ستقف دوماً إلى جانب أشقائها القطريين.
وختاماً في ذكرى هذه الليلة التاريخية، نستذكر بكلّ فخر شهداء الوطن الذين واجهوا رصاص الغدر بصدورهم، ودافعوا عن كرامة الدولة وديمقراطيتها. كما لا ننسى وقفة دولة قطر الشقيقة، بقيادة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، الذي كان أول زعيم يبادر بالتواصل مع فخامة الرئيس أردوغان لرفض الانقلاب ودعم الشرعية، في موقف يُجسّد عمق العلاقات الأخوية بين الشعبَين الشقيقَين.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى