
في مشهد سياسي محتقن، تصاعدت أزمة المجلس الرئاسي اليمني، إذ تحوّلت إلى صراع إرادات بين قوى المجلس، الأمر الذي عكس نفسه على أطر السلطة التوافقية، وعلى أداء الحكومة المعترف بها دولياً، فضلاً عن تصعيد حالة غير مسبوقة من الاستقطاب السياسي في المناطق المحرّرة، إذ تتحرك سياقات الأزمة الحالية بين أهداف تثبيت سلطة الرئيس وإصلاح الحكومة، وبين مطامح إعادة هيكلة المجلس.
من نواحٍ عديدة، تتعدّد مستويات الأزمة وأسبابها في حالة المجلس الرئيس، بحيث تدفع، من وقت إلى آخر، إلى تصعيد الصراع والتنافس بين قواها السياسية، وبمقتضى أهداف المتدخّلين، فمن جهة، تفرض إدارة معادلة النفوذَين، السعودي والإماراتي، ضغطها على بنية السلطة وعلى تفاعلات قواها السياسية وعلاقاتها البينية. ومن جهة ثانية، يفرض ترسيم النفوذ جغرافياً بين الوكلاء ثقله على السلطة التوافقية وعلى أدائها السياسي والوظيفي، ومع أن السعودية والإمارات استطاعتا من خلال صيغة المجلس التقاسمية ضمان نفوذ وكلائهما، وأيضاً كبح التصعيد المتبادل، فإن استمرار تآكل بُنَى السلطة المركزية أدّى إلى شلل المجلس الرئاسي، ناهيك عن إعاقة الحكومة عن مواجهة التحدّيات الاقتصادية، ما عمّق الفجوة بين السياسات السعودية والإماراتية جرّاء تباين المسؤوليات وطبيعة التدخلات لدعم وكلائهما. وبموازاة ذلك، جذّرت تنافسات قوى المجلس وتناقضاتها الإيديولوجية من حدّة التوترات البينية، وكذلك مفاعيل سياسة المحاصصة في تكريس التنافس على السلطة وعلى المناصب في مؤسّسات الدولة، كما أن غياب آلية واضحة لإدارة المجلس تحدّد طبيعة صلاحيات الرئيس ومهامه، مقابل سلطات نواب الرئيس، ظل مدخلاً للصّراع تجري تغذيته من قوى المجلس وتحالفاتها، وإذا كان توافق السعودية والإمارات ظلّ العامل الحاسم في خفض التوترات البينية وضمان استمرارية المجلس شكلياً على الأقل، فإنّ افتراق أولويات الحلفاء نقل الأزمة السياسية إلى مستوى جديد، تمظهر بتصعيد صراع الزعامات واستخدام أوراق سياسية وعسكرية واقتصادية لتقييد صلاحيات منافسيهم.
تتحرك سياقات الأزمة الحالية بين أهداف تثبيت سلطة الرئيس وإصلاح الحكومة، وبين مطامح إعادة هيكلة المجلس
سياسياً، أفضت توافقيات الإكراه، وطبيعة التمثيل السياسي، إلى فرض المجلس الرئاسي سلطة قوى، لا سلطة دولة، فقوّض هذا إمكانية تحوّلها إلى سلطة وطنية جامعة، إضافة إلى تكريس قيادات المجلس ممثلاً للقوى السياسية، والأهم لنفوذ حلفائها الإقليميين. ومع أن صناعة الزعامات ظل استراتيجية المتدخلين، فإن تصعيد الصراع بين رئيس المجلس الرئاسي، رشاد العليمي، ونائبه، العميد طارق محمد صالح، يتخذ دلالاتٍ تتجاوز الخلاف بشأن صلاحيات الرئيس والنواب إلى استثمار وظائفهما ونفوذهما على الصعيدَين السياسي والعسكري، إذ يقوم الانتخاب السياسيّ للزعامات على طبيعة الأدوار المستقبلية للمتدخلين، فإلى جانب ثقلهما العسكري المتأتّي من انتمائهما للمؤسّسة العسكرية الرسمية، بما في ذلك سلطتهما على التشكيلات العسكرية الموالية لهما، فإنّ انتماءهما لحزب المؤتمر الشعبي العام، أهم الأحزاب السياسية في الوقت الحالي، يمكّنهما من استقطاب قاعدته الاجتماعية المشتتة بين أجنحة متعددة، إضافة إلى أنهما من أبناء المناطق الشمالية، ما يمنح المتدخلين القدرة على ضمان استمرارية نفوذهما على كامل اليمن.
وإذ كانت أولويات السعودية في الوقت الحالي تتمحور في إصلاح المجلس، وضمان استمراريّته، فإنّ ثبيت سلطة حليفها، رئيس المجلس الرئاسي، ممثلاً لنفوذها ولتحالفاتها يمثل خيارها الرئيسي في تدعيم مركزها السياسي قوةً مهيمنة في اليمن. وبالنسبة للإمارات، فأفضلية تثبيت النفوذ هي استثمار ورثة علي عبد الله صالح المباشرين، دعامةً لتحالفاتها السياسية في اليمن، إلّا أن مزايا وجود حليفها في المجلس الرئاسي، وإن كان وريثاً غير مباشر لأسرة صالح، يمكّنها من اختراق آلية صنع القرار في المجلس. والأهم الدفع بإعادة هيكلته، وذلك بنقل الخلاف إلى سلطة الرئيس وصلاحياته، وطرح مطلب تدوير المنصب خياراً سياسياً محتملاً، وإن تناقض ذلك مع آلية نقل السلطة إلى المجلس بموجب بيان الرئيس عبد ربه منصور هادي. سياسياً أيضاً، تعوّل الإمارات وفي مواجهة نفوذ حلفاء السعودية، على استثمار أجنحة “المؤتمر” لمضاعفة تمثيلها السياسي، وذلك بالدفع بمطالب تمثيل مجلس المقاومة الوطنية التابع للعميد طارق في الحكومة. عسكرياً، يتيح تمركز حليفها في المناطق الساحلية من تعز لها إمكانية تسييج نفوذها مستقبلاً في جغرافيا مستقلة، تحت مسمّى محافظة “الساحل الغربي”، وذلك باقتطاع مديريات الساحل التابعة لمدينة تعز من ذباب وحتى باب المندب، والمديريات المتاخمة من مدينة الحديدة. في المقابل، تراهن السعودية على ثقل سلطة رئيس المجلس وانتمائه الجغرافي لتحجيم مطامع حليف الإمارات وإعاقة أجنداتها. على الصعيد العسكري أيضاً، تتحرك السعودية في اتجاه تأسيس قوات عسكرية جديدة تابعة لها، “قوات الطوارئ” والدفع بها إلى مدينة شبوة، منطقة نفوذ المجلس الانتقالي الجنوبي، حليف الإمارات، إلى جانب محاولة إعادة انتشار القوات السلفية الموالية لها في المناطق المحرّرة.
أفضت توافقيّات الإكراه، وطبيعة التمثيل السياسي، إلى فرض المجلس الرئاسي سلطة قوى، لا سلطة دولة، فقوّض هذا إمكانية تحوّلها إلى سلطة وطنية جامعة
وربما تسهم الخطوة السعودية اللافتة، سواء من حيث التوقيت أو الأهداف، في إعادة مجلس النواب المعترف به دولياً إلى الواجهة السياسية، وأيضاً استخدامه أداةً في توجيه الأزمة السياسية الحالية، وإعادة ضبطها، والتي تعكس، في المقام الأول، أهداف السعودية، وذلك بدفع مجلس النواب لأول مرّة منذ أكثر من عقد إلى اتخاذ خطوات عملية في ممارسة دوره الرقابي بوصفه سلطة تشريعية ورقابية، الأمر الذي تبلور بتشكيل لجانٍ برلمانية للنزول إلى المناطق المحرّرة، وتقييم عمل السلطات المحلية إدارياً ومالياً واقتصادياً، وتقييم أدائها. ومع أن هذه الخطوة متأخّرة، يرتبط توقيتها السياسي أولاً بسياق الأزمة المتصاعدة في سلطة المجلس الرئاسي، وأيضاً بالأهداف السياسية، إذ تهدف السعودية إلى أن يؤدّي تقييم اللجان البرلمانية إلى إصلاح الحكومة اقتصادياً وتعزيز سيطرتها على الموارد الاستراتيجية، والدفع إلى تعزيز صلاحياتها الإدارية والسياسية، ومن ثم الفصل بين السلطات المتداخلة لأطر المجلس الرئاسي وبين الحكومة، كسلطة تنفيذية مباشرة، وكذلك الضغط على نفوذ حلفاء الإمارات، إذ إنّ ضعف الحكومة يتأتى من هيمنة السلطات المحلية في إدارة الدولة، والقيام بأدوار الحكومة الوظيفية اقتصادياً وإدارياً ومالياً، والأهم احتكار السلطات المحلية للموارد السيادية، وإعاقة توريدها إلى خزينة الدولة، كما أنّ التحديات الكارثية التي تواجها الحكومة في الوقت الحالي والمتمثلة بافتقارها للسيولة المالية، وانهيار العملة المحلية، مقابل اعتمادها على الدعم السعودي، حوّلها عبئاً دائماً على السعودية، مقارنة بالإمارات، التي لا يشكل إصلاح الحكومة، أو دعمها أولوية بالنسبة لها. ومن ثم فإنّ اشتراط السعودية تقديم الدعم المالي للحكومة بتبنّي خطوات إصلاحية حقيقية في المسار الاقتصادي، من خلال سيطرتها على الموارد النفطية في المناطق المحرّرة يعني نقل جزء من مسؤوليتها إلى سلطة المجلس، كسلطة توافقية، من المفترض أن تتولّى الإصلاح الاقتصادي. ومن ثم، تقتضي مهام اللجان تحديد مسؤولية السلطات المحلية وقوى المجلس الرئاسي في الاختلالات الاقتصادية وإضعاف الحكومة، إذ إنّ توزّع نفوذ قوى المجلس جغرافياً، يضمّن أيضاً احتكار الموارد الاقتصادية، وتحديداً الإيرادات النفطية، ففي مقابل التزام سلطة مدينة مأرب، بتوريد الإيرادات إلى الحكومة، ظلّت السلطات المحلية في المناطق الجنوبية التي يسطر عليها المجلس الانتقالي، حليف الإمارات، تمتنع عن توريد إيرادات النفط للحكومة، تحت مزاعم مختلفة، وهو ما تكشّف أخيراً برفض انتقالي شبوة وأبين عمل اللجان البرلمانية، إدارياً. وتعني مراقبة أداء السلطات المحلية وتقييم اختلالاتها خطوة لتمكين الحكومة من استعادة وظيفتها في مناطق النفوذ المغلقة، إلّا أنه بالطبع يضع القوى السياسية المنضوية في المجلس الرئاسي تحت ضغط سياسي ورقابي جديد، كون السلطات المحلية تخضع لها، سياسياً وإدارياً، ومن ثم يجعلها طرفاً يعيق فرص الإصلاح السياسي.
المصدر: العربي الجديد