
يعيش الملف السوري–الإسرائيلي حالة من الزخم الإعلامي والسياسي غير المسبوق منذ عقود. فمع انهيار النظام السوري في ديسمبر 2024، وانكشاف الجنوب السوري أمام متغيرات ميدانية غير مألوفة، طفت على السطح تسريبات عن لقاءات غير معلنة بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين، وسط وساطات عربية وإقليمية، وتصريحات أميركية تفيد بإمكانية “تفاهمات قريبة”. فهل نحن أمام تحوّل استراتيجي في العلاقة بين دمشق وتل أبيب؟ أم أن السلام الموعود لا يزال بعيدًا، رغم حرارة التصريحات؟
من الهدنة إلى الاحتلال
لطالما شكّل اتفاق فصل القوات بين سوريا وإسرائيل عام 1974، الذي تم برعاية الأمم المتحدة، الأساس القانوني والفعلي لحالة “اللاحرب واللاسلم” في الجولان. وقد حافظ الطرفان، بوساطة قوات الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك (UNDOF)، على الالتزام بحدود خطي ألفا وبرافو، مع وجود منطقة عازلة ممتدة من جبل الشيخ حتى وادي اليرموك.
لكن الوضع تغيّر جذريًا في أواخر عام 2024. فقد أدى انهيار النظام السوري إلى فراغ أمني في الجنوب، دفع إسرائيل إلى اجتياز خط ألفا، والدخول إلى أراضٍ سورية يُفترض أن تكون محايدة. واستولت على قرى مثل خان أرنبة، معرية، جباثا الخشب، العدنانية، بل وتقدمت حتى مشارف الكسوة، على بعد 24 كم من دمشق.
وبهذا التوسع الميداني، الذي يشكل أول خرق شامل لاتفاق 1974 منذ توقيعه، أصبحت إسرائيل تتصرف كقوة احتلال فعلية في الجنوب السوري، ما أضاف بعدًا معقدًا لأي حديث عن تسوية سياسية.
وعود دمشق.. ورسائل واشنطن
المفاجئ في المشهد هو الانفتاح الأميركي الواضح على دمشق بعد سقوط النظام السابق. فقد عبّر كبار المسؤولين في إدارة الرئيس ترمب عن ارتياحهم للتعامل مع الإدارة السورية الجديدة، ووعدوا بدعمها سياسيًا واقتصاديًا، والعمل مع الحكومة السورية الجديدة لمساعدتها في تحقيق الاستقرار.
الإدارة الأميركية الحالية تبدو مصممة على الاستثمار في المسار السوري–الإسرائيلي، لكنها لا تملك صبرًا طويلًا. وسوريا الجديدة تبدو منفتحة على تحالفات جديدة، لكنها تصطدم بموروث ميداني وأمني ثقيل. أما إسرائيل، فهي توازن بين الرغبة في تطبيع تاريخي، والرغبة في الاستفادة من تفوقها العسكري للبقاء في الأراضي السورية وضمها لأراضيها، بما يخدم تعزيز أمنها الاستراتيجي.
وقد ترافق ذلك مع وجود وعود سورية بالتقارب مع إسرائيل، والالتزام بألّا تكون سوريا مصدرًا لعدم الاستقرار في المنطقة، كجزء من رؤية سياسية جديدة لإعادة تموضع الدولة السورية في الإقليم.
وقد استُكمل هذا التوجه بلقاء لافت جمع ترمب مع الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع، برعاية وضمانة سعودية، في إشارة واضحة إلى وجود دعم عربي لهذا المسار الجديد.
من جهتها، أبدت دمشق استعدادًا لإظهار جديتها في تنفيذ التزاماتها، واتخذت عدة خطوات أرادت بها إثبات المصداقية، منها:
- إغلاق مكاتب الفصائل الفلسطينية المدعومة من إيران على الأراضي السورية.
- القبض على عناصر من منظمات مسلحة شيعية وسنية.
- مصادرة شحنات أسلحة كانت في طريقها إلى حزب الله.
- التجاوب مع وساطات عربية لعقد لقاءات مع شخصيات إسرائيلية، ولو بشكل غير رسمي، كما ذكرت العديد من وسائل الإعلام الغربية والعربية.
طرح مقابل طرح: نقاط الاتفاق والخلاف
يتحدث الجانب السوري اليوم عن ضرورة انسحاب إسرائيل من المناطق التي احتلتها بعد ديسمبر 2024، وعودة الوضع إلى ما كان عليه وفق اتفاق 1974، على أن يتم الاتفاق على ترتيبات أمنية مشتركة تمنع العمليات العدائية من الطرفين في هذه المناطق التي دخلتها إسرائيل خلال الشهور الماضية.
ويعتبر السوريون هذه الخطوة مدخلًا ضروريًا لبناء الثقة، وإثبات جدية الجانب الإسرائيلي في التفاوض.
من جهتها، ترى إسرائيل أن الظروف الحالية لا تسمح بانسحاب آمن، لأسباب متعددة:
- تفكك الجيش السوري، وعدم وجود كيان عسكري منظم قادر على ملء الفراغ الأمني.
- استمرار نشاط مجموعات مسلحة فلسطينية في الجنوب.
- وجود قواعد وميليشيات مرتبطة بإيران، قد تستغل الانسحاب لإعادة تموضعها قرب الحدود.
وفي هذا السياق، تقبل إسرائيل بفكرة التعاون الأمني المرحلي مع الإدارة السورية الجديدة، لكنها ترفض الانسحاب في المدى المنظور، وتربط أي تحرك بانخراط تدريجي طويل الأمد، يضمن أمنها ويضع حدًا لأي تهديد محتمل.
وما يزيد المشهد تعقيدًا هو رفض إسرائيل القاطع لإنشاء أي قواعد عسكرية تركية في وسط سوريا، ومطالبتها بفرض ضوابط واضحة ومحددة للتواجد العسكري التركي في سوريا الجديدة، كجزء من أي تفاهم مستقبلي.
وتعتبر إسرائيل أن قبول دمشق بهذه الضوابط يمكن أن يُنظر إليه كـ خطوة موازية لبناء الثقة، توازي الانسحاب الجزئي الإسرائيلي من الجنوب، وتؤسس لتوازن أمني إقليمي طويل الأمد.
واشنطن على الخط: شرق أوسط بلا إيران ولا روسيا
تسعى إدارة ترمب إلى إعادة تشكيل خريطة التوازنات في الشرق الأوسط الجديد، بحيث لا يكون فيه موطئ قدم لإيران أو نفوذ لروسيا. وتعتبر أن اللقاء العلني بين المسؤولين السوريين والأميركيين سيكون خطوة حاسمة نحو تأسيس هذا الترتيب الإقليمي الجديد.
وترى واشنطن أن انخراط سوريا في هذا المسار يمنحها فرصة لبناء موقع مختلف، بينما تضمن إسرائيل أمن حدودها، وتحتفظ الولايات المتحدة بأوراق الضغط الإقليمية بيدها.
ولتشجيع سوريا على المضي في هذا التحول، اتخذت الإدارة الأميركية خطوات غير مسبوقة:
- رفع كامل للعقوبات المفروضة على سوريا الجديدة.
- تسهيل الاعتراف الدولي بالإدارة السورية الجديدة.
- إطلاق رسائل إيجابية عبر الإعلام والمؤسسات الأميركية لدعم هذا الاتجاه.
خلاصة المشهد
في المحصلة، لا يمكن إنكار أن ما يجري على الخط السوري–الإسرائيلي يمثل لحظة سياسية حساسة، تحمل في طياتها إمكانيات لتغيير قواعد اللعبة، لكنها أيضًا مشروطة بتوازنات دقيقة، وحسابات ميدانية بالغة التعقيد.
الإدارة الأميركية الحالية تبدو مصممة على الاستثمار في المسار السوري–الإسرائيلي، لكنها لا تملك صبرًا طويلًا. وسوريا الجديدة تبدو منفتحة على تحالفات جديدة، لكنها تصطدم بموروث ميداني وأمني ثقيل. أما إسرائيل، فهي توازن بين الرغبة في تطبيع تاريخي، والرغبة في الاستفادة من تفوقها العسكري للبقاء في الأراضي السورية وضمها لأراضيها، بما يخدم تعزيز أمنها الاستراتيجي.
لذا، فإن السلام بين سوريا وإسرائيل ممكن من حيث المبدأ، لكنه لا يزال بعيدًا من حيث التطبيق، ما لم تحدث مفاجآت سياسية كبرى تغيّر المعادلات القائمة على الأرض.
المصدر: تلفزيون سوريا