هدنة إيران–إسرائيل: نهاية حرب أم بداية تحول؟

صهيب جوهر

رغم وصفه بالهش، فإنّ وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل يبدو قابلاً للصمود، خاصةً إذا تلاه تحول سياسي كبير على مستوى الإقليم. هذا الاحتمال بدأ يكتسب زخماً في أوساط المراقبين، لا سيما في ضوء ما أفرزته المواجهة الأخيرة من خلاصات واستنتاجات، جاءت تتويجاً لتحضيرات خفية امتدت لعقدين. ففي حين فشلت إدارة أوباما في ترجمة اتفاق 2015 النووي إلى تغيير استراتيجي، تبدو نتائج الحرب الأخيرة، التي استمرت 12 يوماً، مرشّحة لتشكيل نقطة انعطاف محتملة في مسار العلاقة بين طهران وواشنطن.

العالم لا يزال يترقّب، ويقيّم نتائج الحرب العسكرية التي اندلعت بشكل مفاجئ، ثم أُقفلت بإخراج أميركي غامض وملتبس. إلا أن الطرفين الرئيسيين، إيران وإسرائيل، اللذين سارع كل منهما إلى إعلان النصر، كانا قد بلغا حافة الإنهاك بعد استنزاف أوراق قوتهما.

فبدت لحظة دخول الرئيس الأميركي دونالد ترمب على الخط فرصةً مناسبة لإنهاء المواجهة. وجاء ردّ إيران “المدروس” على قصف مفاعل “فوردو” ليؤكد رغبتها في إنهاء التصعيد، مدفوعةً بخطر داهم على استمرارية النظام، ففي حين اختار ترمب لحظة التدخل بدقة، مزاوجاً بين التهديد والتمكين، إذ سبقت الضربة تحذيرات صريحة سمحت للإيرانيين بإخلاء جزء من المواد النووية.

سُجل اعتقال أكثر من 700 شخص بتهمة التخابر مع إسرائيل خلال 24 ساعة فقط من إعلان الهدنة.

في العمق، أدركت السلطة الإيرانية حجم الاهتراء في بنيتها، كما تكشّفت ثغرات أمنية كبيرة جعلت الأجواء الإيرانية مكشوفة أمام الغارات الإسرائيلية، وأسفرت عن اغتيال قيادات بارزة. فظهر النظام كمن يحتاج إلى هدنة طويلة لإعادة ترميم بنيته الداخلية، ليس فقط على مستوى القيادات والهياكل، بل أيضاً على مستوى العقيدة، في محاولةٍ لمخاطبة الجيل الشاب واستيعابه، تماماً كما فعلت السعودية، وإن من زاوية مختلفة.

من هنا، بدا وقف إطلاق النار ضرورةً وجودية، يهدف إلى تحييد التهديدات الداخلية، والانقضاض على الشبكات الإسرائيلية المزروعة داخل البلاد، حيث سُجل اعتقال أكثر من 700 شخص بتهمة التخابر مع إسرائيل خلال 24 ساعة فقط من إعلان الهدنة.

لكن ما ميّز السلوك الإيراني في هذه الحرب هو إظهار القدرات الصاروخية الفعالة، التي تمكنت من فرض شلل واسع داخل إسرائيل وتسببت بخسائر بشرية ومادية غير مسبوقة. ومع ذلك، امتنعت طهران عن استهداف مفاعل ديمونا، رغم تعرض منشآتها النووية لقصف مباشر، ما عزّز الانطباع بأن قرار الحرب لم يكن مفتوحاً، بل خاضعاً لحسابات سياسية دقيقة، تُبقي باب التفاوض موارباً. وعلى العكس من الصواريخ، لم تثبت الطائرات المسيّرة الإيرانية فعاليتها بالشكل المتوقع.

لكن فعالية الترسانة الصاروخية لم تمرّ من دون تبعات. إذ بدأ القلق يتسرّب إلى العواصم الخليجية المجاورة، كما إلى موسكو، التي بدت متوجسة من امتداد هذه الصواريخ إلى مجالها الاستراتيجي. في هذه الحرب، تكرّست مرةً أخرى عزلة إيران، بعدما امتنعت روسيا عن أي دعم عسكري مباشر، وفضّلت الصين التعبير عن رفضها من دون تحرك فعلي، رغم شراكتها الاستراتيجية الاقتصادية مع طهران. وتبقى المفارقة أن طهران، ورغم هذه العزلة، ستضطر لاحقاً لإيداع مخزون اليورانيوم لدى موسكو ضمن أي اتفاق مستقبلي، وفق شروط أميركية صارمة.

أما إسرائيل، التي بدأت الحرب بضربة استباقية فعالة مكّنتها من تصفية قادة البرنامج النووي، فقد وجدت نفسها عاجزةً عن احتواء الضربات الصاروخية الإيرانية، ما تسبب بتراجع معنوي كبير في الداخل، واستنزاف لمنظومة اعتراض الصواريخ. ومع اختطاف ترمب للحظة السياسية المفصلية في الحرب، بدا وكأن نتنياهو خسر القدرة على التحكم بمخرجاتها، بل اضطر إلى التراجع عن بعض شروطه في ملف غزة، بعد تلقيه توبيخاً علنياً من ترمب حين حاول تجاوز وقف إطلاق النار.

وهنا يُطرح السؤال المركزي: هل يشكّل هذا النجاح الأميركي في إنهاء الحرب مؤشراً على تحول استراتيجي عميق في المنطقة، أم أنه مجرد مناورة تكتيكية مرحلية؟

الصمت الدولي حيال الخروقات الإسرائيلية اليومية للسيادة اللبنانية ليس سوى تمهيد لصياغة معادلة جديدة، تكون فيها نهاية سلاح حزب الله مفتاحاً لاستقرار إقليمي مؤقت، ولو على حساب انفجار لبناني جديد.

يشيع داخل أروقة وزارة الخارجية الأميركية توصيف شهير يُشبّه أزمات الشرق الأوسط بالرمال المتحركة: تبدو ساكنة من بعيد لكنها تبتلع كل من يقترب منها. ومع ذلك، فإن سلوك ترمب المختلف وغير التقليدي قد يكون هو ما تحتاجه المنطقة في هذا التوقيت. فقد أظهر، خلافاً لسلفيه أوباما وبايدن، استقلالية عن الضغوط الداخلية واستعداداً لاتخاذ قرارات عسكرية مفاجئة، من دون العودة إلى الكونغرس، أو حتى تقديم رواية تبريرية للرأي العام.

تجربة أوباما في 2015 فشلت لأن إيران استثمرت الاتفاق النووي في تعزيز نفوذها الإقليمي. أما اليوم، فقد خرجت من الحرب منهكة، وخسرت جزءاً من أوراق قوتها، وتبيّن لها أنّ واشنطن لا تسعى لإسقاط النظام بل لتغيير سلوكه. ولهذا بدت طهران أكثر تجاوباً مع الدعوات الأميركية للحوار، كما عكس ذلك تصريح مبعوث ترمب، ستيف ويتكوف، الذي تحدث عن محادثات “واعدة” واتفاق محتمل طويل الأمد، في تعبير محسوب بعناية.

لكن هذه التطورات حملت وقعاً صادماً لدى الديمقراطيين، إذ إنّ نجاح ترمب حيث فشلت إداراتهم مثّل صفعة سياسية مدوية. من هنا جاءت موجة التشكيك بتأثير الضربة الأميركية على المفاعل النووي، ما دفع ويتكوف لاتهام المروّجين لهذه التسريبات بـ”الخيانة”. المفاجأة كانت أنّ طهران نفسها، ومن دون مناسبة، أعلنت عن تضرر منشآتها النووية بشدة، ما أضفى شرعية غير مباشرة على الرواية الأميركية، ومكّن إدارة ترمب من تثبيت روايتها في الداخل.

وفي حين ينشغل العالم بهذه التحولات، يظهر لبنان كأحد الساحات المباشرة المتأثرة. إذ بدا واضحاً أن الخروقات الإسرائيلية المتكررة في الجنوب تُنفّذ بتغطية أميركية ضمنية، في ما يشير إلى نيةٍ بإبقاء الجبهة مفتوحة، بانتظار لحظة مناسبة لإعادة تفعيل الخيار العسكري. والهدف هنا ليس سوى سحب السلاح من يد “حزب الله”، وقطع النفوذ الإيراني.

وفي هذا الإطار، تندرج زيارة الموفد الأميركي توم باراك إلى بيروت، حيث أوضح لمسؤولين لبنانيين أن ملف سلاح حزب الله يجب أن يُقفل خلال أشهر، وأن مرحلة السماح الحالية لا تتعدى نهاية الصيف. إذ تؤكد مصادر دبلوماسية أن واشنطن تملك معلومات دقيقة حول وجود صواريخ دقيقة وباليستية مخزنة في البقاع، وأن هذه الأسلحة يجب أن تُسلّم للسلطات اللبنانية لإتلافها. وفي حال لم تُنفذ هذه الشروط، فإن السيناريو البديل قد يكون عودة إسرائيل إلى تنفيذ حرب خاطفة، وهو ما يتماهى مع رغبة نتنياهو واليمين الإسرائيلي المتشدد.

من هذا المنظور، يصبح واضحاً أن الصمت الدولي حيال الخروقات الإسرائيلية اليومية للسيادة اللبنانية ليس سوى تمهيد لصياغة معادلة جديدة، تكون فيها نهاية سلاح حزب الله مفتاحاً لاستقرار إقليمي مؤقت، ولو على حساب انفجار لبناني جديد.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى