
في عام 1982، نشر الباحث والضابط الفرنسي السابق “لويس ديلمان” دراسة بعنوان “الدروز والثورة السورية عام 1925 في المجلة الفرنسية لتاريخ ما وراء البحار (Revue française d’histoire d’outre-mer) وهي دراسة تستحق أن يُعاد قراءتها اليوم بعين نقدية سورية، لا بوصفها وثيقة فرنسية أخرى عن الثورة السورية الكبرى، بل باعتبارها نموذجاً نادراً من الكتابات الفرنسية التي تشكك في الروايات والوثائق الرسمية وتعيد تفكيكها من الداخل.
ديلمان، لم يكن مؤرخاً أكاديمياً فحسب، بل كان شاهداً ومشاركاً في بعض الأحداث التي يتناولها. فقد انضم إلى جهاز الاستخبارات في بلاد الشام من سنة 1927 حتى 1932 إذ كُلّف بدايةً بمنطقة حوران قرب جبل الدروز، ثم أوكلت إليه إدارة الجهاز هناك، وتولّى لاحقاً منصب مدير مكتب القامِشْلِية (القامشلي)، من كانون الأول / ديسمبر 1929 حتى أيار/ مايو 1932.
هذا المزيج من المعاينة الميدانية والكتابة التحليلية يمنح دراسته طابعاً فريداً، ويُضفي على نقده للروايات الرسمية العسكرية والإدارية الفرنسية في تلك الحقبة وزناً خاصاً.
الثورة الكبرى في صيف 1925، والتي يربطها ديلمان بتراكم الأخطاء الفرنسية، لا بتخطيط من سلطان الأطرش أو جماعته.
سياق الدراسة ومحاورها
تركز الدراسة على حدث مفصلي في التاريخ السوري الحديث: ما عُرف في الحوليات السورية (الثورة السورية الكبرى)، وتحديداً بدايتها في جبل الدروز بقيادة سلطان باشا الأطرش. ينقسم النص إلى ثلاث مراحل: التمرد الأول عام 1922، ثم إدارة الكابتن كربيي (Carbillet) للجبل، وصولاً إلى اندلاع الثورة الثانية في يوليو 1925.
في التمرد الأول، يروي ديلمان قصة محاولة اعتقال أدهم بك (أدهم خنجر)، أحد المتهمين بمحاولة اغتيال الجنرال غورو، في قرية تابعة لسلطان الأطرش. يرفض سلطان تسليم الرجل الذي كان بضيافته بحجة حق اللجوء (الدخالة) وإهانة لتقاليد الضيافة والمروءة البدوية، ويقود تمرداً مسلحاً قصيراً انتهى بنفيه إلى شرقي الأردن، ثم بالعفو عنه لاحقاً.
أما المرحلة الثانية، فتتناول فترة حكم كربيي، الذي تولى مهام الحاكم الفرنسي لمنطقة جبل الدروز بعد وفاة الحاكم الدرزي سليم الأطرش عام 1923. والذي أعاد فرض السُخرة، وسعى لتحديث البنية التحتية للجبل بمشاريع شق طرقات وغيرها التي لم يستفد منها السكان، ومن وجهة نظر ديلمان، فإن كربيي أساء فهم البنية الاجتماعية والثقافية للدروز، واعتقد بسذاجة أن القوة والنية الحسنة تكفيان لكسب ولائهم.
ثم تأتي المرحلة الحاسمة: الثورة الكبرى في صيف 1925، والتي يربطها ديلمان بتراكم الأخطاء الفرنسية، لا بتخطيط من سلطان الأطرش أو جماعته.
تفكيك الرواية الرسمية
أهم ما يميز هذا النص هو تشكيك ديلمان المتكرر في الروايات الرسمية الفرنسية. لا يتردد في القول إن التقارير العسكرية بالغت في تصوير الأحداث، أو أخفت تفاصيل أخرى، أو تمّت صياغتها بطريقة تُبرئ القيادات الميدانية من المسؤولية. مثال ذلك، رواية حادثة أسر الطيارين الفرنسيين وتحطّم الطائرة، والتي شكّلت ذريعة مباشرة لإرسال حملة عسكرية كبرى إلى الجبل. ديلمان يعيد قراءة هذه الحادثة، ويُبرز التناقضات في توقيتاتها، وفي حجم الرد العسكري، بل ويطرح سؤالاً مهماً: هل تم أسر طيارين فرنسيين؟ وهل حدثت مجزرة فعلاً بحق قوة فرنسية كما صُوّرت الروايات الرسمية الفرنسية؟ أم أنها كانت مبرراً للتصعيد؟
كما يشير إلى أن الذاكرة الفرنسية في المشرق لم تحتفظ بتفاصيل دقيقة لتلك المرحلة، ما يفتح الباب لاحتمال التعتيم أو الإهمال المتعمد.
أفق القراءة السورية في التاريخ السياسي السوري
بالنسبة للقارئ السوري، تتيح لنا هذه الدراسة فرصة نادرة لنقد المصادر الفرنسية من داخلها. فبدل التسليم المطلق بوثائق الانتداب باعتبارها “حقائق”، يدعونا ديلمان، بوعيه أو من حيث لا يدري، إلى التعامل معها كمادة قابلة للتفكيك والتحقيق، بل والتشكيك في دوافع كتابها.
فهو لا يتعامل مع الدروز ككتلة موحدة، بل يُظهر تباينات داخلية، وصراعات على الزعامة، ويبرز كيف استخدم الفرنسيون هذه الانقسامات لمصلحتهم. كما لا يُشيطن سلطان الأطرش، بل يعترف بقدراته وبرغماتيته وبمنطقه السياسي.
وفي هذا السياق، تتقاطع دراسته مع أسئلة معاصرة حول كيفية تمثيل الأقليات في السياسة، ودور الزعامات المحلية في مواجهة أو مهادنة القوى الخارجية، وكذلك خطورة توظيف ورقة الأقليات الإثنية والدينية في مسرح الأحداث لمصالح فئوية لا وطنية، وهي إشكاليات لا تزال حاضرة في المشهد السوري حتى اليوم.
دراسة لويس ديلمان ليست مجرد سردية فرنسية بديلة، بل هي دعوة مفتوحة لإعادة قراءة الأرشيف كله بنظرة سورية، ناقدة، وواعية.
نقد مزدوج: الإدارة والسياسة الفرنسية
يمضي ديلمان إلى أبعد من نقد الرواية العسكرية، ليُسلّط الضوء على السياسات الفرنسية في لبنان وسوريا عموماً. فيشير إلى تعيين ضباط غير مختصين، كقائد الاستخبارات “دونتز”، وإلى إدارة منفصلة عن الواقع المحلي، تفشل في قراءة السياق وتحليله، وتُفسد ما كان يمكن إصلاحه.
كما يعكس نصه نوعاً من الاعتراف المتأخر بأن “سياسة حماية الأقليات” التي رفعتها فرنسا لم تكن سوى أداة للهيمنة فقط. فحماية الدروز، كما يلمح، تحولت إلى وسيلة للسيطرة لا للشراكة، وقد أدّت إلى نتائج عكسية حين تجاوزت حدود اللياقة السياسية.
إن هذا النقد من داخل النظام الاستعماري نفسه يجعل من دراسة ديلمان وثيقة مزدوجة القيمة: فهي من جهة مصدر تاريخي، ومن جهة أخرى نقد ذاتي للنظام الاستعماري وآلياته، ويثبت مجدداً أن التاريخ يعيد نفسه ويجب الاستفادة منه وتوظيفه في توحيد الشعب وعدم السماح للدول المتدخلة في الشأن الداخلي باللعب بورقة الأقليات مجدداً لتكريس انقسام مجتمعي وسياسي يسهم في إضعاف الدولة والمجتمع ويبرر زعزعة الاستقرار الداخلي.
خاتمة: لماذا نقرأ ديلمان اليوم؟
ليس فقط ديلمان، بل كل الأصوات التي تناولت تاريخنا الاجتماعي والسياسي بالنقد والتحليل خارج سردية الوثائق الانتدابية، فنحن بحاجة ماسة لإعادة قراءة تاريخنا لا عبر العيون التي كتبته لتبرير الهيمنة، بل عبر أصوات كانت جزءاً من هذه المنظومة ولكنها امتلكت جرأة النقد والتغريد خارج السرب. ديلمان لا يمنحنا الحقيقة المطلقة، لكنه يُعلّمنا أن حتى الوثيقة الفرنسية يجب أن تُقرأ بسؤال: ما الذي لم يُكتب فيها؟ ولماذا؟ فهناك للأسف من يبحث في قصاصات الأرشيف هنا وهناك عن فقرة أو نص أو سطر، ليستشهد به وكأنه حقائق لا يأتيها الباطل من بين أيديها.
وفي حين نستعيد اليوم ذاكرة الثورة السورية الكبرى، لا بد أن نستفيد من مثل هذه الكتابات لنُعيد بناء سرديتنا الوطنية، وأولويات الجبهة الداخلية وضرورة تعزيزها، ومحاولة جعل الجميع فاعلاً إيجابياً لمواجهة الأعداء الخارجيين وحتى أدواتهم المحلية، من دون الانزلاق بفخ التعميم وتكريس الانقسام المجتمعي.
دراسة لويس ديلمان ليست مجرد سردية فرنسية بديلة، بل هي دعوة مفتوحة لإعادة قراءة الأرشيف كله بنظرة سورية، ناقدة، وواعية.
المصدر: تلفزيون سوريا