
على مدار ثلاثة عقود، نشأ جيل كامل من سكان المنطقة، في أجواء سردية إسرائيلية تتحدث عن خطر نووي إيراني آتٍ، وعن نيّة إسرائيل تدميره قبل أن يصبح واقعاً. سردية، طال انتظار تحققها، حتى غلب الظن أنها مجرد بروباغندا، وما عاد أحد يعتقد باحتمال وقوعها، حتى حدث ذلك، بالفعل، ليل 14 حزيران الجاري. فما سرّ هذا التوقيت الذي أنهى انتظار ثلاثة عقود؟
تقول الرواية الرسمية الإسرائيلية إن برنامج الأسلحة الإيراني اقترب من نقطة اللاعودة. وأصبحت القنبلة النووية الإيرانية قاب قوسين أو أدنى، من الوجود. تخالف هذه الرواية شهادة أدلت بها مديرة الاستخبارات الوطنية الأميركية، تولسي غابارد، أمام الكونغرس، في آذار الفائت، قالت فيها إن مجتمع الاستخبارات الأميركي لا يزال يعتقد أن إيران لا تُصنّع سلاحاً نووياً، في الوقت الحالي. من زاوية أخرى، تتعارض الرواية الرسمية الإسرائيلية مع حالة الاسترخاء الأمني الكبيرة التي طبعت تحركات القادة العسكريين الإيرانيين، رغم بروز معطيات تؤشر إلى هجوم إسرائيلي وشيك، قرأه القادة الإيرانيون على أنه مجرد “دعاية إسرائيلية”، لدفعهم إلى تقديم تنازلات في جولة المفاوضات النووية مع أميركا، التي كان من المزمع عقدها في عُمان، يوم الأحد 15 حزيران. لذلك، لم يتخذ هؤلاء القادة أية إجراءات أمنية استثنائية، بل وعقد فريق منهم اجتماعاً طارئاً، أتاح لإسرائيل استهدافهم بصورة جماعية. وهنا نتساءل: لو كانت إيران على مقربة من امتلاك قنبلة نووية بالفعل، أما كان قادتها تعاملوا بجدية أكبر مع المعلومات التي وصلتهم عن هجوم إسرائيلي وشيك!
في كتاب “التحالف الغادر أو الخائن”، للأكاديمي الأميركي من أصل إيراني، تريتا بارزي، يمكن قراءة لحظة تاريخية شبيهة بالتي نعيشها اليوم، تأسست قبل ثلاثة عقود. فالخبير في السياسة الخارجية الأميركية، وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة جون هوبكنز -سابقاً- بذل جهداً استثنائياً في محاولة سبر أغوار العلاقة (الإيرانية- الإسرائيلية)، في كتابه الصادر عام 2006، والذي استند فيه إلى حديث مباشر أجراه مع مسؤولين إيرانيين وإسرائيليين وأميركيين، كانوا خلال عقود، مشاركين في صنع السياسة الخارجية لبلادهم، أو على مقربة منها.
إحدى أبرز النقاط التي يشير إليها بارزي، أن التحولات الكبرى في العلاقات الإسرائيلية- الإيرانية كانت نتيجة لتحولات جيوسياسية، وليس أيديولوجية. ويقلل بارزي من أهمية البعد الأيديولوجي للخطاب العدائي بين الدولتين، معتبراً أنه غطاء للسبب العميق في العداوة بينهما. ويحدد بارزي منعطفاً نوعياً تمثّل في هزيمة العراق وتفكيك الاتحاد السوفياتي عام 1991. يقول بارزي: “بعد أن انجلى الغبار دخل الحليفان الاستراتيجيان السابقان (إيران وإسرائيل) في منافسة شرسة على النظام المستقبلي في المنطقة”.
وهنا بدأت حقبة العقود الثلاثة التي أشرنا إليها في بداية مقالنا. في بداية هذه الحقبة (منتصف التسعينات)، استأنفت إيران برنامجها النووي الذي يعود إلى عهد حكم الشاه. لكن مجتمع الاستخبارات الأميركي كان يرى أن امتلاك إيران لقدرة تصنيع سلاح نووي لن تتحقق قبل العام 2015. في ذلك الحين كان لدى مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي تقييم علني مختلف، بات أشبه باستراتيجية. إذ عمد الجهاز الاستخباراتي الإسرائيلي إلى تضخيم القدرات النووية الإيرانية، حتى أن خبيراً سابقاً في ذلك الجهاز قال لمؤلف كتاب “التحالف الغادر”: “تذكر، لا يزال يفصل الإيرانيين عن امتلاك قنبلة بين خمس وسبع سنوات. سينقضي الوقت، وسيظل يفصلهم عن امتلاك القنبلة خمس إلى سبع سنوات”. كان ذلك تعليق ساخر من جانب الخبير الإسرائيلي حيال استراتيجية تل أبيب في تضخيم الخطر النووي الإيراني. لكن لماذا انطلقت شرارة هذه العداوة بين طهران وتل أبيب في تلك الحقبة تحديداً: مطلع ومنتصف التسعينات؟
تجيب مصادر بارزي أن إيران قرأت في مسار السلام الذي رعته أميركا بين العرب والإسرائيليين حينها، تهديداً بعزلها إقليمياً، وذلك بعد أن تم تجاهل دورها تماماً في مسار السلام هذا. ولطالما كان الهم الإيراني منصباً على اقتناص اعتراف أميركي بإيران، كقوة إقليمية يحق لها المشاركة في صنع التوازنات في شرق المتوسط والخليج. وهو ما لم يحدث. إذ تجاهلت واشنطن يومها، أي دور لإيران. فاتجهت الأخيرة لتصعيد دعمها لحزب الله في لبنان، وطوّرت علاقاتها مع حركتَي الجهاد الإسلامي وحماس. بالمقابل، كانت إسرائيل تشعر بخطر التحول الطارئ على النظام الإقليمي في مطلع التسعينات. فأميركا باتت متواجدة بصورة عسكرية مباشرة في المنطقة، وأصبحت علاقاتها مع دول عربية بارزة، في أوجها، مما جعل الإسرائيليين يشعرون بالقلق من تراجع الأهمية الاستراتيجية للدولة اليهودية في نظر الأميركيين. إذ لم تعد حليف الغرب الذي يمكن الاعتماد عليه في المياه العكرة لسياسات الشرق الأوسط. بل إن إسرائيل باتت من وجوه عديدة، عبئاً على واشنطن، التي كانت تراهن على قيادة عملية سلام كبرى في الشرق الأوسط، يومها. وفي هكذا أجواء، رأت إسرائيل أن أي خرق في العلاقات الأميركية- الإيرانية، يمكن أن يزيل ما تبقى من أهمية استراتيجية ضئيلة تحتفظ بها إسرائيل. لذلك وجدت ضرورة ملحة في سردية الخطر النووي الإيراني.
يمكن إسقاط كثير من المعادلات التي حكمت تفكير صانع القرار الإسرائيلي، قبل ثلاثة عقود، على ما يحدث اليوم. فخلال الأشهر الثلاثة الفائتة، كان يمكن التقاط مؤشرات كثيرة على التوتر في العلاقات الأميركية الإسرائيلية، لأسباب عديدة، منها الاستياء الأميركي جراء التعنت الإسرائيلي في إنهاء الحرب بغزة، والاستياء الإسرائيلي جراء وقف الضربات الأميركية ضد الحوثيين خلافاً لرغبة تل أبيب. ومن ثم جولة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في دول الخليج، الشهر الفائت، والتي كشفت عن تطور لافت في العلاقات الأميركية – العربية – التركية، كان في القلب منها، تبني ترامب لموقف الخليج وتركيا من إدارة الرئيس السوري الجديد، أحمد الشرع، ورفع العقوبات عن سوريا، خلافاً لرغبة إسرائيل. بالتزامن، كان عقد جولات متتالية من المفاوضات الأميركية مع إيران، مصدر قلق إسرائيلي أيضاً. كل ما سبق، جعل إسرائيل تدرك الحاجة الملحة لإعادة تثقيل قوتها العسكرية والاستخباراتية في نظر الأميركيين، بوصفها القوة الإقليمية الواجب على واشنطن، استمرار المراهنة عليها. فكانت الضربات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة لإيران.
تستهدف هذه الضربات، على الأرجح، دفع إيران إلى تقديم تنازلات قاسية على طاولة المفاوضات مع الأميركيين. وهو ما يحقق قيمة نوعية للإسرائيلي من أكثر من زاوية. أبرزها، استعادة دوره كلاعب إقليمي لا يمكن لواشنطن تجاهله في ترتيباتها مع حلفائها الجدد بالمنطقة. وفيما استطاعت دول خليجية، تعزيز وزنها لدى صانع القرار الأميركي باستخدام القوة الناعمة والمال، تعمل إسرائيل على تحقيق ذلك، بقوة السلاح والاستخبارات. وهي الأدوات التي ستواصل تل أبيب استخدامها في الفترة المقبلة، لفرض دورها كشريك في أي ترتيبات بالمنطقة، شريطة أن تنجح مساعيها في تحقيق الأهداف المنتظرة من حربها الراهنة ضد إيران.
المصدر: المدن