
العيد من “العود” وهذا التكرار ليس روتيناً وحسب بل مبعث بهجة وفرح. العيد، ومنه عيد الأضحى الذي نعيش اليوم وأعياد الميلاد والفطر والتحرير.. وكل ما يبعث على الفرح حين تكراره الزمني، هو العودة إلى يوم انتهاء محنة أو بلاء أو إنجاز مهم، هو مكافأة الصبر والتعب الذي تم بذله شخصياً كان أو عاماً، فكيف وأنه اليوم هو مكافأة صبر السوريين أربعة عشر عاماً. أربعة عشر عاماً مضت وكل أعيادنا كانت أماناً واليوم باتت حقيقة نرجو دوامها.
اليوم هو عيد الأضحى الأول الذي يمر على سوريا وشعبها العظيم منذ 14 عام بلا حكم الديكتاوتورية والشمولية السياسية، بلا حكم آل الأسد وقبضته العسكرية وحلوله الأمنية التي أودت ببواكير الانتقال السياسي السلمي الممكن، وحولت سوريا لكارثة عصر كبرى وساحة حرب واقتتال تدخلت فيها قوى إقليمية ودولية كبرى، وكأننا عشنا حرباً عالمية ثالثة في 185 ألف كم2. واليوم تعود لسوريا أيام عيد الأضحى بلا طعم الخبز المجبول بالدم، بلا طعم الخيام وليال النزوح المريرة برداً وحراً، بلا طعم الضحايا من المدنيين السوريين في كل المدن السورية اعتقالاً وقتلاً وتهجيراً.
اليوم تعود رسالة السوريين لبعضهم بعد طول رحلة المسار الشاق لعنوانها: السلام والاعتدال والاستقرار. هي ليست رسالة سياسية اعتادت تكرارها الأيديولوجيات الحزبية الضيقة. ليست رسالة الأحزاب القومية بل رسالة الاستقرار والعمق العربي والمصلحة القيمية المشتركة. وليست رسالة الهيمنة العسكرية وحكم التغول والقوة وراهاب القبول بالولاء كما كانت حكومات الشرق التوتاليراتية المهيمنة على رقاب الشعب منذ التحرر من الاستعمار منتصف القرن الماضي. بل هي رسالة الأمان عبر الثقة والاطمنئان، رسالة الرضا والتوافق وسيادة القانون والعدل والقضاء. وهي أيضاً ليست رسالة العنف والاحتراب والقتل التي عشناها طوال سنين الثورة العجاف، بل رسالة السلام ونبذ العنف ولغة السلاح، رسالة الحوار والكلمة وحق الاختلاف، رسالة لقلوب الأمهات بجبران خاطرها وعدم تكرار أن تدمع عين أم سورية مرة أخرى.
اليوم تعود رسالة السوريين لبعضهم بعد طول رحلة المسار الشاق لعنوانها: السلام والاعتدال والاستقرار. هي ليست رسالة سياسية اعتادت تكرارها الأيديولوجيات الحزبية الضيقة. ليست رسالة الأحزاب القومية بل رسالة الاستقرار والعمق العربي والمصلحة القيمية المشتركة
رسالة العيد اليوم هي مشروع وطن يخرج من ركام الاستبداد والاحتراب، يخرج من سنوات الهدر والجريمة بثقل ملفاته وصعوباته وتحدياته، وأبرزها على الإطلاق الأمن والأمان وسيادة القانون وإعادة تفعيل مؤسسات الدولة لتحقيق الاستقرار المادي والحياتي بعد طول انتظار وصبر، وتحقيق السلام كحق لكل شعوب الأرض فكيف لشعب عاش كل أشكال التنكيل والقتل الجزافي بالبراميل وزخات الرصاص والصواريخ والمدفعية والكيماوي! والرسالة فحواها ليكن هذا العيد مكافأة صبرنا وتعبنا وتضحياتنا وليس فقط، بل لا نريد تكرار شبهة الجرائم التي عشناها أفراداً وجماعات وهنا نبدأ يوماً آخر.
نشوة الفرح بعد الثامن من كانون الأول 2024 مثلت عيداً تتجاوز كل أعيادنا، وفتحت الباب واسعاً لموجة عالية من الحرية والكرامة واستحقاق الحياة من جديد. عاد الأمل بالحياة بعد طول استعصاء وكوارث. لكن، وهذه اللكن التي نستخدمها استدراكاً وليس عكساً للمسار، للتحديد والتدليل على ما قد يؤثر سلباً ويهدد الاستقرار المطلوب، لكن اليوم يأتينا عيد الأضحى وفي القلب غصة!
في تاريخ البشرية، تتمكن الثورات بتغير الأنظمة لكن ليس بالسهولة أن تحقق كل أحلام من حملوها، وهذا مصدره الواقعي هو الفوضى وفعل الصراع على السلطة بعد نجاح الثورات، ولا يحدث الاستقرار إلا بعد أن تستنفذ البشر تجاربها الخاصة في فعل السلطة وضرورة العودة للاستقرار والنظام ونبذ الفوضى كما عبر عنها توماس هوبز قرون إبان اشتعال أوروبا بثوراتها. في حالتنا السورية تبدو مقاربة واقع اليوم تتباين بين حدين: حد يتمثل بصراع على صورة الدولة المستقبلية أو الراهنة وهذه بوابة مفتوحة على شتى أنواع التصورات وكل ينضح من إنائه وفكره، فيما حده الأعلى وجود بؤر توتر عسكري هنا وهناك ومرجعيتها للأسف نموذج الاستقواء بقوة السلاح وهذا خطر كبير. فالثورة السورية حملت بين طياتها، ومنذ انطلاقتها، حدوداً متباينة وواسعة في تصورات الدولة الممكنة، وأيضاً حملت بين طياتها العديد من نماذج صراع السلاح رغم أنها في خندق واحد ضد النظام. وكانت من الأسباب الرئيسية في تأخر انتصار الثورة خاصة قبل التدخل الروسي عام 2015. واليوم أظن، بل أجزم أنه لا بد علينا أن نستفيد من تجارب التاريخ المقروء ومن تجاربنا الخاصة. ما يدعونا دائماً لتحديد صلب إشكاليتنا والبحث في حلولها.
بعيداً عن المعادلات الدولية وبداية تعافي سوريا بعد رفع العقوبات الدولية عنها، ثمة ما يؤرق الحالة السورية، وهو تنامي العصبوية الطائفية، والتي هي انعكاس واضح لمفاهيم وثقافة ما قبل الدولة، وبالضرورة الانغلاق والتقوقع العصبي. وأشد محفزات نمو هذه النزعة هو الخوف وعدم تحقق الأمان. الأمر الذي يجعل معادلة الاستقرار السوري مرتبطة جذرياً بالأمان وسيادة القانون كأولوية لا بد منها وهي مسؤولية الدولة أولاً والشارع الشعبي بمقابلها. فإن كانت الضابطة العدلية والشرطية مطلباً سورياً عمومياً للتنفيذ والتفعيل بمرجعية القانون والقضاء، فالحوار الوطني واحترام الاختلاف الثقافي والديني أمر محوري أيضاً في الحالة السورية. لكن وهذه اللكن هنا أمنية ورغبة، لكن التحرر الثقافي من قعره العصبوي والفئوي أياً كان نموذجه هو تكثيف سياسي يتجلي بالذهاب اتجاه الاختلاف على قاعدة الدولة والانتماء للوطن. وبمعنى آخر، أن تنتقل كل الأصوات الموالية أو المعارضة من موقعها القبلي إلى موقع المعارضة بالمفهوم السياسي حقوقياً ومدنياً. معارضة وفق برامج سياسية ومناهج نقدية تعتمد الحوار والجدل. وهذا حق كل الأفراد والمؤسسات. فيما أن غلبة الانتماءات القبلية الدينية والطائفية دلالة سيئة للمشروع الوطني إذ إن نتائج تعاظمها ستكون كارثية على النسيج الوطني، فكيف وإن سالت معها الدماء!
“كان أحسن الأزمان وكان أسوأ الأزمان، كان عصر الحكمة وكان عصر الحماقة، كان زمن الإيمان وكان زمن الجحود، كان زمن النور وكان زمن الظلمة، كان ربيع الأمل وكان شتاء القنوط” بهذه الحدود المتناقضة تحدثنا تجارب التاريخ التي سبقتنا على لسان الروائي العالمي تشارلز ديكنز في روايته الشهيرة قصة مدينتين وهي ترصد ثورات أوروبا ذلك العصر. وفي قراءة محفوفة بالمسؤولية والحرص والاستفادة من تجارب التاريخ ندرك جيداً أن أسوأ الأزمان وأكثرها ظلمة هو الاستبداد، مقابل ذلك فإن أحسن الأزمان والنور هو الانطلاق لمعادلة الوطن، وطن الدولة والحقوق والحريات. وطن الدولة وقد استقامت مؤسساتها وتشاركت كل فعاليات المجتمع في بنائها، وهذه معادلة تستبعد العنف بكل أشكاله اللفظية والمادية وتفترض الأمان وسيادة القانون وفعل الكلمة عبر الحوار، وتستبعد كل أشكال الفوضى ومسبباتها من فوضى السلاح كما الأفكار وتفترض الاستقرار المادي والمعنوي وفعل الحكمة والإدارة بعيداً عن غلو الأيديولوجيات وتفردها، وتستبعد لغة الاستقواء بالسلاح ومعادلات القوة وتسبتدلها بالسلام وسواده كهدف عام للبشرية وللسوريين بعد طول عذاب. فهل يمكن لعيد الأضحى هذا أن يعلن ونعلن معه رسالتنا لكل السوريين: في دمشق في السويداء ودرعا والساحل، في إدلب وحماة وحمص، في الرقة والحسكة ودير الزور…. أننا مدعوون جميعاً لثلاثة كلمات هي الأمان والاستقرار والسلام، وطرق تحققها، ولتبدأ بعدها مرحلة ومراحل سياسية معارضة وموالية وكل حسبما يرى ويقتنع.
المصدر: تلفزيون سوريا