قناة السويس وجذور المسألة المصرية

محمود صلاح

تغيرت المكانة الاستراتيجية لمصر بعد عام 1869، حيث أضافت قناة السويس إلى مصر أهمية بالغة في حركة الاقتصاد والتجارة العالمية، فعلاوةً على تاريخها وحضارتها وموقعها الجغرافي المميّز؛ إلا أن القناة زادت من بروز المكانة الجيوسياسية لمصر، وهو الأمر الذي شرحه أحد الرحالة الأجانب عندما لاحظ معارضة قوية لمشروع القنال، خصوصاً من الساسة البريطانيين أمثال بالمرستون الذي أطلق على القنال المشروع الوهمي؛ حيث لم يكن يرغب أن تكون هناك مسألة مصرية، وهو الأمر نفسه الذي تجنبه أغلب حكام مصر خوفاً من أن يزيد من تسابق القوى الأجنبية على غزو مصر أو إضعاف حكومتها واستقلالها، ومن ثم لم يفكّروا جدّياً في الاتصال المباشر بين البحرين الأبيض والأحمر إلا مع قدوم حملة نابليون عام في 1798، فبالرغم من أن اتصال البحر الأحمر بالمتوسط كان يتم عبر النيل منذ عهد سنوسرت، الأسرة الثانية عشرة قبل الميلاد، إلا أنه مع كل غزو وتغير في حُكام الدولة، كان يجرى إهمال القناة حتى أعاد العرب إحيائها، وكانت تبدأ من الفسطاط، وتنتهي عند القلزم، ومع قدوم الحملة الفرنسية، عادت فكرة الربط المباشر بين البحرين إلى الحياة، ولكن علماء الحملة ظنوا في اللاتناسب بين ارتفاع البحرين، ومن ثم عدلوا عن طرح الفكرة عملياً. ومع نجاح محمد علي في إقامة دولة حديثة وقوية، واجه عروضاً عديدة لحفر القناة، لكنه رفضها كلها أو كما قال: “لا أريد أن أخلق في مصر بوسفوراً آخر”، كما أنه حتى رفض عروضاً إنكليزية لمد خط سكك حديدية لربط الإسكندرية بالسويس، ولم يجد مشروع القناة النور إلا مع عهد الوالي سعيد باشا أو عندما “أصبحت مصر ميداناً للنهب”، كما قال دافيد لاندز.

شكّلت الأزمة الإيطالية الحبشية عام 1935 تحدّياً كبيراً لسيادة مصر على القناة التي أقرّتها اتفاقية القسطنطينية؛ فقد طالبت إيطاليا تمثيلها في شركة قناة السويس وتخفيض رسوم عبور سفنها؛ ما تسبّب في شعور المصريين بالإهانة الشديدة، الأمر الذي أدى إلى اضطرار مصر إلى قبول توقيع معاهدة 1936 بشروطها المجحفة، التي تسببت في تضحيات بشرية وخسائر اقتصادية كبيرة خلال الحرب العالمية الثانية، علاوة على نزاع عنيف وممتد مع الإنكليز من أجل الاستقلال والجلاء.

أضافت قناة السويس إلى مصر أهمية بالغة في حركة الاقتصاد والتجارة العالمية

وعقب توقيع معاهدة 1936، توصلت إيطاليا وبريطانيا إلى اتفاق في إبريل/نيسان 1938، تتخلى فيه إيطاليا عن مطالبها، وتعترف بسيادة الحكومة المصرية على القناة، ورحبت مصر بهذا الاتفاق؛ غير أنه بعد زوال الخطر الإيطالي، عاد الخطر البريطاني الذي رفض الجلاء عن مصر، وتَمسك بمعاهدة 36 رغم انسحاب مصر منها، حتى إن وزير الخارجية البريطانية مستر موريسون صرح في 1951 بأن بريطانيا ستحافظ على قاعدتها في قناة السويس “رضيت مصر أم لم ترض”، الأمر الذي أشعل معارك المقاومة المسلحة ضد الاحتلال البريطاني في كل مدن القناة بداية من العام نفسه.

وبالرغم من الوجود البريطاني في منطقة القناة، مارست مصر عقب حرب فلسطين 1948 سيادتها وعملت على تفتيش السفن المارّة، وفرضت قيوداً صارمة على ناقلات البترول المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية، وقاومت مصر كل محاولات النقد والاحتجاج على ذلك الأمر حتى عام 1956، واعتبر إبراهيم بك فرج، نائب وزير الخارجية المصرية في 1950، أن مسألة القيود “أمر مفروغ منه ولا يمكن لمصر أن تتحول عن موقفها”، الأمر الذي اضطرّ إسرائيل لتقديم شكوى في مجلس الأمن ضد مصر، قال فيها أبا إيبان، ممثل إسرائيل: “من وجهة نظر حكومتي، فإن اتخاذ إجراء من مجلس الأمن أمر ضروري أيضاً لتوضيح أن الأمم المتحدة لا تقبل هذا الانتهاك الصارخ للقانون الدولي”، إلا أن مصر رفضت الامتثال لقرار مجلس الأمن رقم 95 سبتمبر/أيلول 1951 الذي يسمح بمرور السفن، والذي دان الموقف المصري، ودعاها إلى التوقف فوراً عن التدخل في حركة الشحن بالقناة.

وبشكل عام، لم يتوقف تاريخياً تعالي أصوات تقارن بين سيطرة أميركا على قناة بنما وسيطرة بريطانيا على قناة السويس، وقد انبرت الصحف المصرية طوال الخمسينيات لتفنيد ذلك ، ولبيان أن ثمّة فارقاً شاسعاً بين القناتين، فالكاتب المصري وديع فلسطين لا يكف طوال الخمسينيات عن التأكيد أنه إذا كانت لأميركا سيطرة وملكية في قناة بنما، فالأمر مختلف في ما يخص قناة السويس التي تدخل في نطاق السيادة المصرية، أو كما قال: “مصر وهي الفقيرة اقتصادياً والتي تحتاج إيرادات القنال أكثر من حاجة أميركا إيرادات بنما، لتحرص جد الحرص على حرية الملاحة في السويس لتنتفع من رسوم مرور السفن”.

ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه، حيث تطالب الولايات المتحدة بإعفاء سفنها من رسوم المرور، وهو أمر لا تقبله السيادة المصرية القاطعة على قناة السويس، والتي لا تُعتبر مجرّد ممر مائي دولي، بل هي أرض ومياه مصرية كاملة لا يمكن التفريط أو التساهل في حقوق الدولة وممارستها السيادة عليها والمعاملة الموحدة لجميع الدول من دون أي استثناء أو تمييز.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى