عن المثقف (العضوي) والمؤدلج في حوارات السوريين

حسن النيفي

لا يتردّد كثير من السوريين بالاستنجاد بالنخب المثقفة حيال الجائحة التي تجتاح البلاد السورية في فترة ما بعد سقوط الأسد، وأعني بالجائحة ( خطاب الكراهية ) الذي بات ينضح به الفضاء الإعلامي وتعزّزه وسائل التواصل الاجتماعي التي بات يصعب ضبطها أو السيطرة عليها، قد لا يبدو هذا الاستنجاد غريباً إذ طالما نظرت الشعوب إلى مثقفيها وناشطيها في المجالات الفكرية والسياسية والاجتماعية على أنهم أصحاب دور فاعل ومؤثِّر ليس في توجيه الرأي العام فحسب، بل في التأثير على أصحاب القرار أيضاً.

يأتي هذا الاستنجاد في لحظة تبدو فيها جميع الإجراءات التي تقوم بها السلطة في هذه المهمّة ليست كافية، وخاصة أن اللجنة القضائية التي تشكّلت بهدف تقصّي ما جرى في مدن وبلدات الساحل السوري في السادس من آذار الماضي، لم تقدّم أي نتيجة للرأي العام حتى الآن، ربما لضرورات تستدعيها طبيعة عملها، وما من خيار سوى انتظار انتهاء مدّة عملها التي أصبحت – بعد تمديدها – ثلاثة أشهر، أمّا اللجنتان اللتان تشكلتا، الأولى بخصوص ( السلم الأهلي) والثانية بخصوص ( العدالة الانتقالية)، فمن المبكّر توقُّع مُنتَجٍ قريب لعملهما نظراً للوقت الذي تستدعيه طبيعة المُهمّة الموكلة إليهما.

واقع الحال يؤكّد أن ثمّة استجابة شديدة الوضوح من جانب شرائح سورية ثقافية وسياسية واسعة بهدف تبادل الرأي والحديث والحوار والنقاش واقتراح الحلول والمبادرات حيال ما يمكن تسميته بـ ( الحرائق الطائفية).

ولا بدّ من الإشارة أيضاً إلى أن مجمل الحراك الشعبي المناهض لخطاب الكراهية والمتمثل بالوفود التي تقوم بزيارات ولقاءات متبادلة بين بؤر التوتّر لم تستطع أن تُحدثَ حالةً أقرب إلى ( الهدنة) بين أمواج متلاطمة من الضخّ المتدفّق لخطاب الكراهية، إذ إن الحراك المشار إليه محكوم بقدراته المحدودة، إذ يمكن – في أفضل الأحوال – أن يكون مُكمِّلاً لمبادرات حكومية، وليس مُؤسّساً لمسار جديد في السلم الأهلي، أو بديلاً عن مبادرات وقوانين الدولة.

ولهذا كلّه، لا يبدو التطلّع إلى دور النخب الثقافية باعتباره دوراً كمالياً، بل باعتباره حاجة ضرورية ، بل واجباً أخلاقياً، ولعل هذا ما جعل الكثيرين يشعرون بافتقاد ( المثقف العضوي) لكونه – برأي البعض – صِمام الأمان، أو الخيار الوحيد المُتبقي لمواجهة حالة التطاحن النفسي والاجتماعي الذي يتغذّى من التراشق الطائفي والعرقي في الحالة السورية الراهنة.

واقع الحال يؤكّد أن ثمّة استجابة شديدة الوضوح من جانب شرائح سورية ثقافية وسياسية واسعة بهدف تبادل الرأي والحديث والحوار والنقاش واقتراح الحلول والمبادرات حيال ما يمكن تسميته بـ ( الحرائق الطائفية) التي ما إنْ تخمد إحداها حتى تشتعل الأخرى، سواء من خلال لقاءات مباشرة بين جماعات وأفراد سوريين، أو من خلال ندوات ومحاضرات تقوم بتنظيمها والتحضير لها بعض مراكز الأبحاث أو المنظمات التي تُعنى بمسائل السلم الأهلي والتنمية المجتمعية، سواء عبر المجال الافتراضي أو الحضور الفيزيائي. ولكن لعل المتابع لمجمل تلك الفعاليات سيصطدم بجملة من المسائل، جديرة بالتوقّف عندها، نظراً لما تثيره من تساؤلات قديمة جديدة، عن ماهية دور ( المثقف ) الذي يحتاج إليه السوريون في الوقت الراهن.

المثقف العضوي أم المؤدلج؟

1 – ثمة نزوع لدى كثير من النخب السورية حين تلتقي وتتحاور حول مسألة ما، نحو الاستغراق في الاستعراض المعرفي النظري المجرّد، وربما كانت تلك النزعة دليل غنى وامتلاك مقدّمات نظرية كافية لملامسة موضوع الحوار، ولكن الاكتفاء بها وتغييب الواقع بما ينطوي عليه من أحداث، وكذلك تجاهل السياق الاجتماعي وخصوصية الحالة السورية يُحوّل الحوار إلى ضرب من الاستعراض الثقافي لا أكثر، إن مقاربة ( خطاب الكراهية ) في كتب علم النفس وعلم الاجتماع والمراجع الفلسفية تبدو مسألة هامة وضرورية بغية تأصيل المفاهيم والوقوف على دقّة المصطلحات والسياقات التي أنتجتها، ولكن نجاعة المقدمات النظرية والتماسك المنهجي مشروط بقدرته على مقاربة الوقائع المادية على الأرض، وليس في تغييبها أو تجاهلها، ذلك أن (خطاب الكراهية) – كأحد التجلّيات المباشرة لتفشّي الطائفية – ليس ( عشبة برّية) نبتت في البراري بفعل الرياح والمطر دونما زارعٍ أو راعٍ لها، وإنما انبثقت وتنامت بفعل أحداث على الأرض، كان فيها ضحايا وجناة، ومعتدون ومُعتدى عليهم، وتجاوز أي معضلة من هذا النوع لا بدّ لها من مقاربات موضوعية لا تستبعد مكاشفات جدّية لحقيقة ما حدث، فالحرص على تجاوز أي مشكلة إنما يوجب معرفة أسبابها، حتى يُصار إلى تحاشيها وعدم تكرارها، وليس الوقوف عند مظاهرها وصبّ اللعنات عليها وحسب، ولكن يكفي أن يختم أصحاب هذا المنحى من التفكير أحاديثهم بالتأكيد على أن ( الدين ) هو أصل المشكلة، بل المشكلات طرّاً، لتدرك أن الحشد المعرفي والمعلوماتي جاء ليؤكّد يقيناً سابقاً بأدوات معرفية غير مفارقة لهذا اليقين.

ثمة نزوع لدى كثير من النخب السورية حين تلتقي وتتحاور حول مسألة ما، نحو الاستغراق في الاستعراض المعرفي النظري المجرّد.

2 – حين تُطرح الأفكار والتصوّرات وقد تَزوّدَ صاحبُها بسرديات انتقائية مناسبة يراها داعمة لفكرته أو رأيه، ولكن ما إن تعرّضت إحدى تلك السرديات للخلخلة أو التشظّي نتيجة لعدم دقّتها، أو ما إن جوبهت سرديته بسردية مضادة أو مناقضة، فسرعان ما يدع جانباً كل مقولاته الفكرية أو الثقافية ليعود – بوعي منه أو بلا وعي – إلى معاقله الطائفية للتسلّح بـ ( مظلومية – مظلوميات) ولو كانت من أحقاب تاريخية قديمة، وليتحوّل الحوار إلى تراشق لفظي يعزّز المشكلة ويسهم في تعميقها بدلاً من استشراف حلول لها، وبهذا تصبح ( النخب) جزءاً من المشكلة وليست حاملاً للحلول، وبهذا – أيضاً – يظهر أن المثقف ( العضوي ) الذي انتظرناه ما هو إلّا مثقف ( مؤدلج) لا يتيح له مُتَخيَّلُه الإيديولوجي تجاوزَ يقينياته السابقة.

وفي مثل تلك الحوارات من الطبيعي جدّاً أن يصبح النظر في المشكلة الطائفية وتداعياتها الراهنة في سوريا مقروناً بالعودة، وربما الاحتراب من جديد، حول الصراع بين بني أمية وبني العباس، أو بين يزيد وقتلة الحسين، وربما أحداث كثيرة أخرى عبر التاريخ.

وأخيراً لعل ممّا هو لافت للانتباه أن يكون المدعوون للتحدث في معظم الفعاليات التي تقام بهذا الخصوص، من لون فكري أو ثقافي واحد أو متشابه، وقلّما نجد أصحاب مشارب سياسية وثقافية مختلفة، الأمر الذي يجعل من فعاليّة كهذه وسيلةً للترويج لتيار أو لأصحاب رأي محدّد، في حين أننا أحوج ما نكون إلى حوار المختلفين.

المصدر: تلفزيون سوريا

3
1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى