لنرحّب بـ”السلام الدافئ” مع إسرائيل

لميس أندوني

طالعنا نائب رئيس الوزراء الأردني السابق، جواد العناني، بظهور مفاجئ على شاشة قناة إسرائيلية، مبشّراً بإمكانية تحقيق “سلام دافئ مع إسرائيل”. قد يكون كلامه هذا، وهو خبير الاقتصاد المرموق، رأياً شخصياً، لكن أي جهة رسمية أردنية لم تبادر إلى التوضيح، خصوصاً أنه كان يوحي بكلامه بأنه ابن “السيستم” المخلص، وبأن هذا موقف الأردن، حتى إن تركيبة الجمل تضع “الأردن” قائلاً أو فاعلاً. وهنا لا نستطيع الجزم، لكن المقابلة مرّت كأنها كلام عادي، وهذا هو المقلق، فإضافة إلى الحديث عن إمكانية تحقيق “السلام الدافئ” بين الأردن وإسرائيل، لم ترد أي إدانةٍ لحرب الإبادة الإسرائيلية أو وصف ما يحدُث بأنه حرب إبادة، بل اكتفى المسؤول السابق، المعروف ببلاغته اللغوية، بحديثٍ عن المتطرّفين الذين يحكمون إسرائيل و”المتطرّفين” من الجانب الآخر (الفلسطيني). ويأتي هذا كله في الذكرى 77 للنكبة والتوحش الإسرائيلي في اقتلاع الشعب الفلسطيني، ليس من قطاع غزّة فحسب، بل من الضفة الغربية والقدس الشرقية أيضاً.

من باب الشفافية المهنية والأخلاقية، أقرّ بأن علاقة وديةً منذ الثمانينيات تربطني بالدكتور العناني، ولم يكن يرفض الحديث معي أو تزويدي بالمعلومات، بالرغم من كتابتي النقدية لسياسات الحكومات، ومعارضتي علناً كتاباته، فهو دمثٌ للغاية، لكن لا يمكن السكوت والتظاهر بأن ما قاله مقبول، إن لم يكن إلى حدٍّ كبير صادماً، بغض النظر عن إن كان رأياً شخصياً أو مقبولاً رسمياً، وهذا أخطر.

تنحدر عائلة العناني من حلحول في محافظة الخليل في الضفة الغربية، وهي منطقة تتعرّض دائماً إلى إرهاب المستوطنين، وأغلب مستوطنيها جاءوا من بروكلين في ولاية نيويورك ومن أوروبا الشرقية، وهم من أشدّ المستوطنين عنصريةً وتطرّفاً، فمستوطنة كريات أربع بؤرة ترهيبٍ وقتلٍ لفلسطينيي الخليل، وكلنا نذكر مجزرة الحرم الإبراهيمي في عام 1994 في وسط الخليل، أي أن لا حاجة لتذكير العناني بالمجازر الإسرائيلية؛ فأهله وأقاربه من ضحايا الاستيطان، وهو يؤمن بمواقف الدولة السياسية من القضية الفلسطينية، مثل أردنيين كثيرين من أصول فلسطينية، ولم يعارض اتفاقية وادي عربة بين إسرائيل والأردن بعد توقيعها في عام 1994، بل كان وزيراً للإعلام في الحكومة التي وقعت الاتفاقية، فالموقف السياسي في الأردن لا يخضع لأصول المواطن وفصوله، فالجميع أردنيون.

لكن المقابلة في توقيتها ومحتواها قفزة غريبة، فما الذي يحدث؟ وكيف يصبح هذا الكلام اعتيادياً في الأردن؟ فأنا على ثقة بأن شخصيةً في موقع جواد العناني لا يمكن أن تتعمّد إغضاب صنّاع القرار أو تحدّيهم… وهناك تساؤلات عديدة، خصوصاً أن هذا الكلام يأتي بعد حملة ما تزال مستمرّةً ضد المشاركين في المسيرات التي ترفض التطبيع، وتعبّر عن إدانتها إسرائيل تحت شعار الدفاع عن الأردن وفلسطين.

المسيرات المعادية لإسرائيل في الأردن تنبع من قناعة بأن إسرائيل خطر وتهديد وجودي على الأردن

بعد قرار حلّ جماعة الإخوان المسلمين والتحشيد بأن “الإخوان” مسؤولون عن تسيير المظاهرات والمسيرات وبدء محاكمات متهمين لهم علاقة بالجماعة بمحاولة تصنيع أسلحة وتهريبها إلى الضفة الغربية، انكفأ حزب جبهة العمل الإسلامي المنبثق عن الجماعة، واستمرّت الأحزاب والحراكات بتنظيم مسيرات “وسط البلد” الأسبوعية في أيام الجمعة، لكن بدون أعلام الإخوان المسلمين الخضراء وبدون علم فلسطين، لكن مع رفع علم الأردن، فالمسيرات أولاً وأخيراً تنبع من قناعة بأن إسرائيل خطر وتهديد وجودي على الأردن.

أما عدم رفع علم فلسطين، ولأول مرة في تاريخ الأردن لا ترفع أعلام فلسطين حين يكون الأمر متعلّقاً بكل من الأردن وفلسطين، فهو كما يبدو ناتجٌ عن تفعيل قانون موجود أصلاً بعدم السماح برفع علم غير الأردن، وهو أمر سيادي يحق فيه للدولة اتخاذ قرارات التي تراها مناسبة. ولكن التساؤل هنا عن اللهجة السائدة بين المسؤولين الأردنيين، وحملات وجلسات توعوية عن “السردية التاريخية الأردنية”، وهو حقّ للدولة أيضاً، لكن لا يجيب عن تساؤلٍ رئيسٍ: هل يلحق الأردن بتيار عربي؟ أو تتبنّاه بعض الدول العربية؟ أكان عن قناعة أو لإرضاء واشنطن، وهو تيار يهدف إلى فكّ ارتباط الحكومات العربية والمواطن العربي بالقضية الفلسطينية.

يرافق مثل هذه النشاطات الواسعة تضييق على الإعلام والإعلاميين وإجراءات غير مفهومة، مثل حجب مواقع عربية وباللغة الإنكليزية، فلم يكن هناك أي داعٍ للضجة الكبيرة على خبر نشره موقع بريطاني عن الأردن حول المساعدات الأردنية لقطاع غزّة، فبيان هيئة الإغاثة الهاشمية الأردنية كان كافياً، وكان يمكن اللجوء إلى تحريك دعوى قانونية في بريطانيا تتحدّى صحة الخبر، أما حجب أكثر من 12 موقعاً في عهد أدوات إلكترونية عديدة تُتيح للقارئ تجاوز الحجب، فليس حلاً ولا قراراً حكيماً.

لا تعترف الحكومة الإسرائيلية عملياً بسيادة أي دولة من الدول المجاورة لها، ونرى ذلك فعليا في سورية ولبنان

هناك حالة استنفار، قد تكون مفهومة في ضوء التهديدات الصهيونية، فالحكومة الإسرائيلية لا تعترف عملياً بسيادة أي دولة من الدول المجاورة لها، ونرى ذلك فعلياً في سورية ولبنان. ولن تمنع معاهدة وادي عربة العصابة التي تحكم الدولة الصهيونية من التوسع شرقاً، متجاوزة الحدود الأردنية تحت ذريعة حماية الأمن القومي الإسرائيلي، فجميع الدول العربية المحيطة بدولة الاستيطان، من مصر والأردن ولبنان وسورية، هي ليست أكثر من مشاريع أمنية ومصادر للموارد الطبيعية اذا احتاجت إسرائيل لسرقتها، بغضّ النظر عن أي قانون محلي أو دولي. لذا نعود إلى مصطلح “السلام الدافئ”، وهو تعبير مطروح بقوة أميركياً، بعد أن فشلت معاهدتا السلام مع مصر والأردن في إنتاج تطبيع بين الشعوب، أي أن تنسى الشعوب تاريخ نشوء إسرائيل وتغضّ النظر عن جرائمها ضد الفلسطينيين، وحتى ضد الأردنيين واللبنانيين والسوريين والمصريين..

فجاءت الاتفاقيات الإبراهيمية التي كانت الإمارات أول من وقّع عليها عام 2020 لتكون بوابةً مأمولةً لسلام “دافئ”، يبرئ إسرائيل من سرقتها فلسطين وخطواتها العملية لسرقة أراضٍ سورية، بالإضافة إلى هضبة الجولان المحتل، واحتلال أجزاء من الجنوب اللبناني لبناء “مناطق عازلة” على ركام القرى اللبنانية التي دمّرتها، فالاتفاقيات الإبراهيمية مبنية على فكرة أن الدول الأبعد عن فلسطين أقل التصاقاً بقضيتها وأقل تجربة مع تداعيات الاعتداءات الإسرائيلية، وتستطيع أن تُحقق “السلام الدافئ” والإغضاء عن المجازر الإسرائيلية.. والآن يبشّر الوزير الأردني جواد العناني بإمكانية تحقيق سلام دافئ مع الشعب الأردني، بشرط عدم تهجير الفلسطينيين إلى الأردن. ورفض التهجير موقف أردني وطني، لكن لا يمكن تحويله إلى مساومة للقبول بحرب إبادة الفلسطينيين.

لا أجد كلماتٍ أختم بها غير التذكير بأول شهيد أردني على أرض فلسطين، وهو كايد مفلح عبيدات، أحد قادة الحراك الأردني الذين حذرّوا مبكراً من خطر الاستيطان الصهيوني في فلسطين قبل نشوء الدولة الصهيونية، فانضم إلى بواكير المقاومة العربية ضد الاستيطان واستشهد عام 1920 في اشتباك مع المليشيات الصهيونية. فهِم كايد عبيدات المشروع الصهيوني مبكّراً، والآن، بعد نحو مائة عام من النكبة المستمرة نسمع عبارة “السلام الدافئ” على لسان مسؤول أردني سابق رفيع المستوى وتمرّ مرور الكرام، فكيف نفهم هذا؟

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى