هل يكسر الإرهاب الإسرائيلي إرادة السوريين؟

أحمد طه

منذ اللحظات الأولى لقيام دولة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين التاريخية في 15 أيار/ مايو 1948، ترسخت في الوجدان الشعبي السوري نظرة قاطعة تجاه هذا الكيان، لم تزعزعها المتغيرات الإقليمية ولا الصراعات اللاحقة، فبالنسبة للسوريين، لم تكن إسرائيل يوما إلا قوة احتلال غاشمة، اغتصبت أرض فلسطين العربية والجولان السوري، ومثلت شرًا مطلقًا يستحيل التعايش أو التصالح معه بأي شكل من الأشكال. هذه الرؤية ليست مجرد موقف سياسي عابر، بل هي جزء أصيل من الهوية الوطنية السورية، تتوارثها الأجيال وتغذيها الذاكرة الجمعية في أغانٍ وأهازيج يحفظها الأطفال عن ظهر قلب.

فقد شكلت نكبة فلسطين جرحًا عميقًا في وجدان الشعب السوري، الذي رأى في قيام دولة إسرائيل على أرض عربية انتهاكًا صارخًا للحقوق العربية والقيم والإنسانية، وزاد من هذا الشعور تدفق اللاجئين الفلسطينيين إلى سورية، حاملين معهم قصص التهجير والمعاناة، ما رسخ في الأذهان صورة إسرائيل ككيان استعماري يسعى إلى اقتلاع العرب من أرضهم، فلم ينظر السوريون إلى القضية الفلسطينية كشأن خارجي، بل اعتبروها كما بقية العرب قضيتهم المركزية، وجرحًا نازفًا في جسد الأمة العربية.

تفاقمت هذه النظرة العدائية بعد حرب عام 1967، التي احتلت فيها إسرائيل الجولان السوري. هذا الاحتلال لم يكن مجرد خسارة لأرض سورية ذات أهمية استراتيجية واقتصادية، بل كان بمثابة صفعة للكرامة الوطنية السورية. رأى السوريون في ضم إسرائيل للجولان تحديًا سافرًا للسيادة السورية والقانون الدولي، وتأكيدًا على طبيعتها التوسعية والاستيطانية.

نتيجة لهذه الأحداث التاريخية وتداعياتها المستمرة، ترسخت في المخيلة الشعبية السورية صورة لإسرائيل كعدو أبدي، يمثل تهديدًا وجوديًا لأمنهم وسلامة أراضيهم، وقوة معادية تسعى إلى الهيمنة الإقليمية وتقويض الأمن القومي السوري والعربي. هذه النظرة لم تقتصر على النخب السياسية أو فئات معينة من المجتمع، بل شكلت موقفًا شعبيًا راسخًا لا لبس فيه

في 8 ديسمبر 2024، شهدت سوريا تحولًا سياسيًا كبيرًا بسقوط نظام بشار الأسد بعد 14 عام من حرب شنها الأخير على البشر والحجر، ما لبثت إسرائيل أن أعلنت إطلاق عمليات جوية وبرية واسعة النطاق في سوريا تحت مسمى عملية “سهم الباشان”. هاجمت فيها أكثر من 250 هدفًا عسكريًا في جميع أنحاء البلاد، اضافة إلى مواقع البحث العلمي. وتوغلت داخل المنطقة العازلة وتجاوزتها، وتموضعت في مواقع جديدة في جبل الشيخ. وأعلنت أن أهدافها من هذه العمليات هي تدمير مخزونات الأسلحة السورية، ومنع وصولها إلى جماعات معادية لإسرائيل، وتطورت مبرراتها للضربات من استهداف أسلحة نظام الأسد إلى حماية الأقلية الدرزية، رغم  تأكيدات كثيرة على لسان وزير الخارجية السوري وحتى رئيس الجمهورية بأن سوريا لن تشكل تهديدًا لأي دولة.

أسفرت هذه العمليات عن خسائر في صفوف المدنيين والعسكريين السوريين، كما أدت الضربات إلى أضرار واسعة النطاق في البنية التحتية.

ورغم الإدانة الدولية الواسعة لهذه الاعتداءات، واعتبارها انتهاكًا للقانون الدولي وسيادة الدولة السورية، وتهديدًا للانتقال السياسي الهش أساسًا، فإن عدم اتخاذ إجراءات ملموسة لوقف  العدوان أعاد للسوريين صورة حرب  ما لبثوا أن خرجوا من أتونها، كما استحضر في الأذهان صورة الدمار الكارثي الذي حل وما زال بقطاع غزة، التي بقيت لوحدها أمام جبروت هذه القوة الغاشمة. ولم يحرك المجتمع الدولي أو حتى العربي ساكنا حتى أنه عجز عن إدخال لقمة خبز بدون الموافقة الإسرائيلية.

إذا أضيف لكل ذلك الضغوط الاقتصادية الكارثية التي يعاني منها الاقتصاد السوري، والتي ترخي بثقلها على الشعب  الذي يرزح 90% منه تحت خط الفقر، يصبح الوضع أكثر تعقيدًا وخطورة.

بين سندان الاوضاع الاقتصادية، ومطرقة العدوان الإسرائيلي، الذي لا شك، له أهداف أخرى غير التي أعلن عنها على لسان قادته، كُسرت الإرادة الشعبية السورية في هذه الفترة الصعبة، وهي التي كانت تعارض على الدوام أي توقيع لمعاهدة سلام مع هذا الكيان الغاصب، وهذا ما أكده  استطلاع للرأي العام قام به المركز السوري لدراسات الرأي العام  (مدى(، ظهر فيه أن قرابة 40% من السوريين  يوافق على توقيع معاهدة سلام، وهي نسبة مرتفعة بالنظر إلى الثقافة السائدة في الشارع السوري. رغم أن حوالي 77% من العينة رأت أن إسرائيل هي الدولة الأكثر تهديدًا للأمن في سوريا وبالتالي الأكثر عداء لسوريا.

بتقديري هذا ما حققته الضربات العسكرية والتوغل الإسرائيلي في الأراضي السورية، وهذا هو الهدف الأساسي الذي لم يعلن عنه وهو كسر إرادة الشعب السوري، وفرض معادلة إما أنا أو الخراب والتقسيم والحروب الداخلية.

بدورها التقطت الحكومة السورية الجديدة  الإشارة، ويبدو أنها بدأت بإعادة تقييم علاقاتها الخارجية مع إسرائيل، وما رفع العقوبات الأمريكية، وقبلها زيارة فرنسا، إلا خطوة على هذا الطريق للتصدي  للدعوات الانفصالية التي تراهن على الحماية الأمريكية حينًا، والإسرائيلية أحيانًا أخرى.

ولكن ما يجب التركيز عليه هو أمرين:
الأول: أن العلاقات الجيدة مع اسرائيل والتطبيع معها لم يؤت نفعًا مع الدول التي سبقت سورية على هذا الطريق، فمصر القوة البشرية الهائلة مقيدة لدرجة أنها تقف على حدود غزة التي تباد، لا تحرك ساكنا، ولا حتى على الصعيد الانساني، بل وزاد على ذلك ما رشح عن وسائل الإعلام سابقًا أن المساعدات الامريكية ستتوقف في حال لم تقبل توطين سكان قطاع غزة، ما يعني أن السيادة المصرية كلها في مهب الريح، بعد أن كبلت يديها مع مغول القرن العشرين.

الثاني: التعويل على الشارع الشعبي على أنه الحامي الوحيد من هيمنة الدول الاخرى على القرار السياسي السوري، وأن قوة الدولة في المحافل الدولية تنبع، أولاً وقبل كل شيء، من قوة وتماسك الداخل، وهذا لا يكون إلا عبر بناء نظام ديمقراطي تعددي يحترم حقوق الإنسان، ويضمن سيادة القانون، لأنه الأساس الصلب الذي تبنى عليه سوريا قوية ومزدهرة، ينعم فيها المواطنون بالعدالة والمساواة والفرص المتكافئة، وهو الضمانة الحقيقية لسياسة خارجية مؤثرة، وقادرة على حماية المصالح الوطنية، لذلك فالتركيز على ترميم النسيج الاجتماعي المتصدع، ومعالجة آثار الشروخ الاجتماعية، وإطلاق عملية مصالحة وطنية شاملة. وحقيقيةً، يجب أن يكون على رأس أولويات الدولة السورية الجديدة، فبالوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي، وتجاوز الانقسامات الطائفية والإثنية والمناطقية، وبناء هوية وطنية جامعة، يبنى  نظام سياسي مستقر على أسس متينة، تمنح الدولة شرعية داخلية وخارجية، وكلما كانت الحكومة ممثلة لمصالح فئة أكبر من مواطنيها كلما تمتعت بمصداقية أكبر في تعاملاتها مع الدول الأخرى والمنظمات الدولية.

وأخيرا، يعلّم درس التاريخ أن إرادة الشعوب لا تكسر. قد تضعف أحيانا، قد تنحني أمام الريح العاصفة، ولكنها لا تموت أبدًا، ليس من باب الإنشاء والكلام الشاعري الجميل والمنمق. ولنا في الشعبين المصري والأردني، وبقية الشعوب العربية خير دليل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى