مفاوضات اسطنبول الأحجية

بسام مقداد

حتى اللحظة الأخيرة، بقيت مجهولة إمكانية حضور بوتين وترامب وزيلينسكي جولة المفاوضات الأولى بين الوفدين الروسي والأوكراني في 15 الجاري في اسطنبول. وكانت المفاوضات متوقعة قبل ظهر الخميس، لكن تم تأجيلها إلى ما بعد الظهر، ومن ثم تم تأجيلها إلى الجمعة في 16 الجاري. ولم يكن الأمر يقتصر على الصحافيين من جميع أنحاء العالم الذين تجمهروا عل الرصيف المقابل للمقر المفترض لمكان الاجتماع، بانتظار حضور الوفدين. في رسالته إلى الأمة عشية مفاوضات اسطنبول، اعترف الرئيس الأوكراني بأنه ليس متأكداً من أنه يعرف كيف ستجري الأمور في إسطنبول، حسب ما نقلت في 15 الجاري الإزفستيا المخضرمة عن صحيفة النيويورك تايمز.

كما نقلت الإزفستيا عن شبكة CNN قولها إن ترامب كرر خلال أيام بأنه قد يغيّر برنامج زيارته للخليج ويحضر المفاوضات الروسية الأوكرانية في اسطنبول، وأعلن للصحافيين الأربعاء المنصرم أن بوتين “كان يود لو أحضر إلى هناك”.. وترى الشبكة أن ترامب، نجم البرامج التلفزيونية السابق، تعمد خلق أحجية حول حضوره المفاوضات، وترك حلفاءه والمقربين منه في جو من الحيرة.

أحجية حضور بوتين بقيت تجول حتى لحظة إعلان تشكيل الوفد الروسي للمفاوضات برئاسة مساعد الرئيس للشؤون الثقافية فلاديمير ميدينسكي الذي سبق أن ترأس الوفد الروسي للمفاوضات مع الأوكران، والتي توقفت في العام 2022. وجاءت تشكيلة  الوفد الروسي التي أُعلن عنها عشية موعد المفاوضات بقيادة مساعد بوتين وعضوية نواب وزراء وهيئات، تشكيلة تقنية لا تملك صلاحية اتخاذ قرار. ووصف زيلينسكي وخبراء أوكران تشكيلة الوفد بأنها مخادعة، تشبه المواد التي يصنع منها ديكور المسرح ليخلق انطباعاً بواقعية المشهد.

زيلينسكي الذي تحدى بوتين أن يحضر إلى تركيا في الموعد الذي اقترحه بنفسه في 15 الجاري، للتفاوض وجهاً لوجه معه، كان هو نفسه يرتب لقاءً مع الرئيس التركي في اليوم عينه. وبالفعل حضر إلى تركيا في اليوم عينه، لكن إلى أنقرة للاجتماع مع أردوغان ووزير الخارجية الأميركي، وليس إلى إسطنبول. ولم يقر تشكيلة الوفد الإوكراني سوى مساء 15 الجاري بقيادة وزير الدفاع.

كان رئيس الوفد الروسي قد أعلن مساء 15 الجاري أن الوفد سيكون جاهزاً للمفاوضات منذ العاشرة صباح الجمعة في 16 منه، على أن ينضم إلى الوفدين الروسي والأوكراني وفد أميركي وآخر تركي. لكن حتى ظهيرة الجمعة لم يكن وزير الخارجية التركي قد أكد بعد عقد المفاوضات الرباعية، التي يبدو أنها فقدت زخمها ولم يعد يعول أي من الأطراف على تمخضها على نتيجة إيجابية ما.

نقلت وكالة نوفوستي يوم الجمعة عن وكالة أناضول التركية أن الوفد التركي سيكون برئاسة وزير الخارجية، والوفد الأميركي برئاسة وزير الخارجية أيضاً، والوفد الروسي برئاسة مساعد بوتين، أما الأوكراني فسيكون برئاسة وزير الدفاع.

تذكّر الوكالة بأن بوتين سبق أن اقترح على اوكرانيا عقد مفاوضات مباشرة في اسطنبول في 15 االجاري، لكن من دون شروط مسبقة. ولم يستبعد بوتين أن يتمكن الطرفان خلال المفاوضات من التوصل إلى اتفاقية لوقف إطلاق النار. وصرح الناطق باسم الكرملين إثر ذلك، أن روسيا عازمة على البحث بشكل جدي عن السبل لتحقيق تسوية سلمية طويلة الأمد. ووفقاً له، فإن أهداف المفاوضات المقترحة مع أوكرانيا هي القضاء على الأسباب الجذرية للصراع وضمان مصالح روسيا.

برر زيلينسكي دعوة بوتين للحضور شخصياً إلى اسطنبول، بالتأكيد على أنه الوحيد الذي يتخذ القرارات في روسيا. واللافت أن رفض بوتين الحضور إلى اسطنبول لم يتأثر بما أعلنه ترامب عن استعداده للسفر إلى حضور المفاوضات “إذا تتطلب الأمر”.

بعد إعلان تشكيلة الوفد الروسي التي كشفت عن عدم مشاركة بوتين بالمفاوضات، علق زيلينسكي عليها بعد لقائه أردوغان في 15 الجاري بالقول، إن روسيا تثبت مرة أخرى أنها لا تنوي إنهاء لحرب، وأرسلت وفداً من المستوى المنخفض إلى درجة كبيرة. ويضيف بأن المقاربة الروسية هذه، تعبر عن عدم إظهار الإحترام للعالم ولكل المشاركين في المفاوضات، حسب موقع Tochka.by البيلوروسي. وقال إن بوتين برفضه الحضور، يريد أن يظهر زعامته. وإذا كان مستعداً للمفاوضات “فعلينا أن نلتقي، ولا يمكننا أن نركض حول العالم بحثًا عن بوتين”.

أوكرانيا هي الطرف الأكثر حاجة إلى إنهاء الحرب الآن بعد وصول ترامب إلى البيت الأبيض، وعجز أوروبا عن التعويض على ما فقدته من مساعدات ورعاية أميركية. وفي ظل التأكد من عدم رغبة بوتين بإنهاء الحرب ومشاركته في المفاوضات من أجل تفادي الرفض المعلن وإثارة غضب ترامب، أعلن زيلينسكي أن أوكرانيا لا تريد مفاوضات شكلية “من أجل الصورة فقط”، بل هي  تشارك في المفاوضات للتوصل إلى وقف إطلاق النار لمدة 30 يوماً.

في تواصل لـ”المدن” مع البوليتولوغ الأوكراني Oleg Lisni ورئيس المركز التحليلي “السياسة”، ولدى سؤاله عن تركيبة الوفد الروسي إلى المفاوضات، ووصفها بـ”المخادعة” من قبل الرئيس الأوكراني، قال البوليتولغ إن وصف الرئيس للتشكيلة صحيح. وهي ليست مجرد “خدعة”، بل استهزاء بالرئيس الأميركي وأوروبا وأوكرانيا. كما أنها تُظهر بوضوح عدم رغبة الكرملين في وقف الحرب. وهذه الوقاحة هي نتيجة للسياسة الخاطئة التي تنتهجها الإدارة الأميركية الجديدة، التي انتشلت بوتين من سلة المهملات السياسية، وتستمر في تدليله بكل الطرق الممكنة.

يرى الخبير أن ترامب أعرب عن تأييده لفكرة القمة، وكالعادة، كان يتوقع نتائج مبهرة منها. وبعد “الصفعة المدوية” عملياً التي تلقاها من بوتين، يبرر ترامب مرة أخرى للديكتاتور الروسي، ويقول إن لقاءهما وحده هو الذي يمكن أن يقرر أي شيء. وهو يعود في الواقع إلى الفكرة الخاطئة: الحديث عن أوكرانيا من دون أوكرانيا وأوروبا.

وعما إذا كان يمكن أن نتوقع أن تفضي المفاوضات إلى شيء ما، على الأقل إلى وقف لإطلاق النار لمدة 30 يوماً، رأى أن ما يجري الآن، وما سيجري لاحقاً في اسطنبول، لا يمكن تسميته مفاوضات، بل هو استشارات لا أكثر. فالوفد الروسي ليس مفوضاً باتخاذ القرارات أو التوقيع على أي وثائق. والوفد هو وفد تقني في الواقع، وبالتالي لا ينبغي توقع أي نتائج مما يجري في اسطنبول.

وهل رفض بوتين الحضور إلى إسطنبول، سيترك أثره على المفاوضات الأميركية الروسية، قال الخبير إن رفض بوتين لن يترك أي تاثير على الحوار والعلاقات الأميركية الروسية في المرحلة الراهنة. وذلك لأن ترامب قد وجد تفسيراً لموقف بوتين، إذ يقول “ولماذا يجيء إلى اسطنبول، طالما أنا لست هناك”. ويجد الخبير صعوبة في معرفة الدافع الذي جعل ترامب يسلف بوتين هذا الموقف. ويخمن بأن السبب قد يكمن في قناعة زعماء الدول الكبرى أن بوسعهم فعل كل شيء، أو أن ترامب معجب ببوتين، أو أنه يريد إبعاد روسيا عن الصين. ويرى أن الكثيرين من زعماء أميركا كانوا يشعرون بالرغبة في إنقاذ روسيا.

بدوره، البوليتولغ أيضاً ورئيس مركز الدراسات السياسية الأوكراني vladimir fesenko، قال لـ”المدن” إن أعضاء الوفد الروسي ليسوا مخولين باتخاذ القرار، ولا يستطيعون التوقيع على أي وثيقة. وجميع هؤلاء، ما عدا رئيس الوفد فلاديمير ميدينسكي، هم على مستوى نواب مسؤولين. وميدينسكي نفسه، هو على الأرجح رئيس رمزي للوفد، يذكّر بمفاوضات العام 2022 التي كان يترأس الوفد الروسي خلالها.

يرى الخبير أن بوتين ليس معنياً بوقف إطلاق نار طويل الأمد. لكن بضغط من الولايات المتحدة ستتواصل المفاوضات، وإن كان اتخاذ القرار بهذا الشأن سيتأخر بعض الشيء.

المصدر: المدن

زر الذهاب إلى الأعلى