ماذا يريد ترامب؟

عدي جوني

 

لا يختلف اثنان في أن الاقتصاد محرّك السياسة، والسياسة هي التي توجّه الاقتصاد، ليعكسا عملياً العلاقة العضوية بين مقود السيارة وعجلاتها. صحيحٌ أن الولايات المتحدة هي من أغنى دول العالم وأقواها، وتعاني بلغة الأرقام عجزاً في الميزان التجاري مع دولٍ كثيرة، لكنّ الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب بنسب متفاوتة ليست سوى ستار دخاني يغطّي هدفَين أساسيَّين، وهما باختصار، التحضير لمواجهة مصيرية حتمية مع الصين، والتعمية على أزمة بنيوية في هيكلة النظام الرأسمالي نفسه.

ينتمي ترامب وفريقه إلى صقور المحافظين الجدد الذين يفوقون في تشدّدهم من كانوا في عداد فريق جورج بوش (الابن)، فضلاً عن أن التجارة (البزنس) تلعب دوراً مركزياً في عقلية ترامب، القادم من سوق العقارات وجمع ثروة هائلة من تمرّسه في هذا المجال. يُضاف إلى ذلك خطابه السياسي الشعبوي الذي سعى بوساطته إلى الفوز بولاية ثانية من خلال استنهاض الروح الوطنية الأميركية. يستند ترامب في تبريره فرض الرسوم الجمركية إلى فكرة أن شركاء واشنطن التجاريين يستغلّونها، ويُوقعون الضرر بالاقتصاد الأميركي من خلال إغراق السوق المحلّية بصادرات منخفضة التكلفة لتنافس الصناعة المحلّية، وهذا ما تسبّب بحدوث عجز في الميزان التجاري. لكنّ محلّلين اقتصاديين مشهوداً لهم بالكفاءة، ومن بينهم آلان بيتي (من كبار كتّاب “فايننشال تايمز”)، رأوا في هذا التبرير تنصّلاً من مسؤولية الإدارات الأميركية المتعاقبة عن هذا العجز، وتوظيفه كبش فداء من أجل أهداف سياسية داخل الولايات المتحدة وخارجها.

يتّفق الخبراء الاقتصاديون على أن العجز التجاري ينجم عن خلل في الميزان القائم بين المدّخرات والاستثمار إلى جانب الفارق بين الإنفاق الحكومي والعوائد الضريبية، أي أن الولايات المتحدة تعاني عجزاً في الميزان التجاري لأنها ترزح أصلاً تحت عجز مالي يقارب حالياً 5.5% من إجمالي الناتج المحلّي. وإن كان ترامب يريد فعلاً تصحيح الخلل في الميزان التجاري، تتعيّن عليه معالجة العجز المالي. الباحث في الاقتصاد السياسي والسياسة الدولية، جيمس سكوت، وتحت عنوان “ما وراء رسوم ترامب، وهل ستنجح؟”، في مقالة نُشرت في الموقع الرسمي لجامعة كينغز كولدج البريطانية (2/4/2025)، يلفت الانتباه إلى عدم جدوى محاولات وزارة كفاءة الحكومة (لجنة استشارية رئاسية يُقال إن الملياردير إيلون ماسك هو من يديرها) وسعيها إلى تقليص حجم الإنفاق الحكومي لما من شأنه المساس بقضايا سياسية حسّاسة على المستوى الشعبي مثل الضمان الصحّي. ويحاول ترامب تسويق فكرة شعبوية مفادها أن الولايات المتحدة ستجني عوائدَ ضخمةً من الرسوم الجمركية، إذ لن يضطر الأميركيون لدفع ضرائب الدخل. بيد أن كبير الباحثين الاقتصاديين في مركز الأبحاث الاقتصادية والسياسية في واشنطن، البروفسور دين بيكر، يقول في دراسة نشرها المركز (11/3/2025) إن المشكلة تكمن أصلاً في أن الولايات تحصّل سنوياً عائداً ضريبياً يصل إلى ثلاثة تريليونات دولار، لكنّها في الوقت ذاته، تستورد ما قيمته ثلاثة تريليونات دولار. وهذا يحتّم على الحكومة الأميركية أن تفرض رسوماً جمركية بنسبة 100% على البضائع المستوردة كافّة، ممّا سيؤدّي إلى رفع الأسعار إلى مستويات لن يطيقها المستهلك الأميركي. كذلك تسعى إدارة ترامب إلى إعادة فرص العمل في القطاع الصناعي داخل الولايات المتحدة، لكن القطاع الصناعي تغيّر مع انتشار الإنتاج في عدّة بلدان ضمن ما يُعرف باسم سلسلة القيمة العالمية وعلاقتها بسلسلة التوريد العالمية؛ أي عندما تُجرى مراحل مختلفة من إنتاج واستهلاك الموادّ والمنتجات القيّمة في أجزاء مختلفة من العالم مقرونة بسلسلة توريد عالمية تشارك في حركة تلك الموادّ والمنتجات. وفي حال إعادة السلسلة بأكملها إلى الولايات المتحدة، سترتفع الأسعار إلى مستوى يجعل البضائع الأميركية غير قادرة على المنافسة الخارجية. كما يرى الباحثون الاقتصاديون أن فقدان الوظائف في القطاع الصناعي الأميركي هو نتيجة مباشرة لزيادة الإنتاج على نحو لا يتناسب مع قانون العرض والطلب، وليس بسبب التنافس الخارجي.

 يعتقد ترامب أن الرسوم التي فرضها تلعب دور الخطوات التكتيكية لتقييد النفوذ الصيني وحرمانه من مراكمة موارد القوة

هل يُعقل أن يكون ترامب وفريقه الذي يزخز بالكفاءات العلمية والخبرة السياسية غافلين عن الأضرار الكبيرة التي ستلحقها الرسوم الجمركية بالاقتصاد الأميركي؟… قطعاً لا، لأن ترامب وفريقه يسعيان من وراء هذه الرسوم إلى تحقيق أهداف جيوسياسية تتجاوز مفهوم الأرباح والرفاه الاقتصادي لتكون هذه الرسوم مجرّد أداة تكتيكية في إطار الصراع على النفوذ وميزان القوى العالمي. من هذا المنظور، يمكن قراءة الرسوم الترامبية الموجّهة ضدّ الصين أنها بيت القصيد، ما دامت واشنطن تدرك جيّداً أن المواجهة مع بكين مقبلة لا محالة، ويكفي دليلاً على ذلك أن تقارير الاستخبارات ووكالة الأمن القومي، خلال السنوات العشرين الماضية على الأقلّ، دأبت على تصنيف الصين في صدارة الأخطار التي تتهدّد الولايات المتحدة ونفوذها في العالم، بل حتى أن كثيراً من المسؤولين الأميركيين ما انفكّوا يحذّرون من أن الصين تخطو خطوات متسارعة على صعيد سدّ الفجوة التكنولوجية مع الولايات المتحدة. وبالتالي، يعتقد ترامب أن هذه الرسوم تلعب دور الخطوات التكتيكية لتقييد النفوذ الصيني وحرمانه من مراكمة موارد القوة. وفي خطوة تعزّز صحّة هذا الاستنتاج، علّق المتحدّث باسم وزارة التجارة الصينية (20/4/2025) على التقارير الصادرة أخيراً عن بعض وسائل الإعلام الغربية، التي كشفت أن إدارة ترامب “تستعدّ للضغط على الدول الأخرى في مفاوضات الرسوم الجمركية”، ما يتطلّب من الدول الأخرى “تقييد التجارة مع الصين، مقابل إعفاءات من الرسوم الجمركية الأميركية”. كما يخشى العديد من المحلّلين السياسيين في الداخل الأميركي أن تسلك حرب الرسوم الجمركية منحنىً تصاعدياً يؤدّي إلى أزمة مستحكمة ذات بُعد أمني قد تضطر معها بكين إلى قطع صادرات المعادن النادرة، وموادّ أخرى حسّاسة تُستخدم في أنظمة الأسلحة الأميركية.

تعاني الولايات المتحدة عجزاً في الميزان التجاري، لأنها ترزح تحت عجز مالي يقارب حالياً 5.5% من إجمالي الناتج المحلّي

أمّا في الداخل الأميركي، فيبدو أن الرئيس ترامب لا يريد أن يعترف بأن العصر الذهبي للرأسمالية قد ولّى وانقضى. هذه الفترة التي عرفتها الولايات المتحدة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى منتصف السبعينيّات من القرن الماضي، وارتفع فيها مستوى الدخل الفردي بشكل كبير، انحسرت لتترك المجال أمام عالم من اللامساواة وارتفاع تكاليف المعيشة، بل وحتى ازدياد معدّلات البطالة بسبب تغيّر طبيعة ووسائل الإنتاج التي وضعت الآلة مكان اليد العاملة، فضلاً عن السياسات المتّبعة لحماية رأس المال على حساب العمل وقيمه الأخلاقية. هذه العوامل بمجملها سابقة على التغييرات التي طاولت مفهوم التنافس الخارجي.

في دراسة نشرها مركز بيو للأبحاث (مركز مستقل في واشنطن)، في مايو/ أيار 2024، استند الباحث والأكاديمي الاقتصادي راكيش كوتشار إلى بيانات رسمية حكومية توثّق مكتسبات الطبقة الوسطى في النمو الاقتصادي المحلّي، من العام 1971 إلى العام 2023. وبحسب ما يقوله كوتشار، فإن حصّة الأسرة من الطبقة الوسطى في إجمالي ناتج الدخل الأسري الأميركي تراجعت خلال الفترة التي تغطيها الدراسة بنسبة ملحوظة أمام نظيرها لدى الطبقة الغنية. وكما هو معروف، تلعب الطبقة الوسطى دوراً هامّاً في تحفيز الاقتصاد وزيادة الاستهلاك. يضاف إلى ذلك أن الولايات المتحدة تعاني من مشكلات التحايل الضريبي كما ورد في تصريح لداني ويرفيل (مدير إدارة الإيرادات الداخلية المسؤولة عن التحصيل الضريبي) عندما قال (22/2/2024) إن أثرياء أميركا يتسبّبون بخسارة الخزانة أكثر من 150 بليون دولار سنوياً.

إذن، الأزمة هي أزمة أخلاقية وليست اقتصادية.

 

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى