اللامبالاة القاتلة

علي أنزولا

أعداد الشهداء الذين يسقطون يوميا في غزّة تحت النيران الإسرائيلية، أغلبيتهم من الأطفال والنساء والمدنيين الأبرياء، وصور الأشلاء البشرية والأعضاء المبتورة والجرحى ينزفون على أرصفة ما تبقى من مستشفيات، وطوابير الجوعى في القطاع يتزاحمون حول طنجرات “التكيات” الفارغة، كل هذه المشاهد أصبحت عادية، أو بالأحرى اعتدنا عليها إلى درجة لم تعد تنقلها شاشات التلفزيون، ولم يعد يكترث بها أغلبنا في لامبالاة قاتلة. كيف يصمت العالم كله عما يجري في غزّة من جرائم يصعب تصنيفها، لأنها فاقت كل أنواع الشر الذي عرفته البشرية؟ ما الجدوى اليوم من القانونين الدولي والإنساني إذا كان مجرمون عتاة يستهينون به ويحتقرون مؤسّساته ومنظماته ومحاكمه؟

لقد بلغ الوضع في غزّة مرحلة من الرعب والفظاعة والبشاعة. لو كنّا نعيش في عالم عادي وسَويِّ لكانت شوارع عواصم العالم كلها تعج بالمتظاهرين حتى يتم وضع حد للجرائم ومعاقبة المجرمين. لكن، مع الأسف، ما نشهده لامبالاة مذنبة لأنها لن تعفينا غداً من مسؤولية العار الذي سيلحق بنا عندما تستيقظ ضمائرنا، أو على الأقل ضمائر من لا تزال لديهم قلوب يعقلون بها وآذان يسمعون بها وعيون يبصرون بها وضمائر يحيون بها. الصمت الذي يواكب الجرائم التي تنفذها إسرائيل في غزّة والضفة الغربية “عار مزدوج”، كما يقول باسكال بونيفاس،‏ أحد أبرز المحلّلين الاستراتيجيين الفرنسيين، الذي يرفع صوته يومياً مندّداً بالجرائم الإسرائيلية، وبالصمت الذي يعتبره تواطؤاً مع مرتكبيها لأنه، أي الصمت، “سُبَّة مزدوجة، سُبَّة للإنسانية وسُبَّة لذكائنا”.

نعيش في عصرٍ وصلت فيه الجرائم الإسرائيلية إلى درجةٍ من الحقارة والنذالة لم يسبق أن شهدتها البشرية

نعيش في عصرٍ وصلت فيه الجرائم الإسرائيلية إلى درجةٍ من الحقارة والنذالة لم يسبق أن شهدتها البشرية، قصف الأطفال والنساء الجوعى وحرقهم تحت خيامهم ليلاً، وإعدام الجرحى والمرضى داخل المستشفيات، والتبجّح بتدمير البنايات السكنية والتهديد الرسمي والعلني باحتلال الأرض وتهجير أصحابها قسراً، وتجويع السكان في عقاب جماعي مُعلن ومبرمج، وتحدّي كل العالم ومؤسّساته الدولية والقانونية والقضائية والحقوقية باسم الدفاع عن النفس، ومن أجل تحرير حفنةٍ من الأسرى الصهاينة، كلهم من الجنود المحتلين الغازين الملطخة أيديهم بدماء الأبرياء الفلسطينيين، والفرض على حكومات العالم الغربي التضامن معهم، ومعاقبة كل من يجرُؤ، ولو من باب الإنسانية، الحديث عن الأطفال والنساء والمدنيين الفلسطينيين الذين يُقتلون ويشرّدون منذ أزيد من 19 شهراً، وتركهم يتضوّرون جوعاً منذ شهرين ونيّف، في عقاب جماعي، والعالم يتفرّج مكتوف الأيدي في لامبالاة متعوّدة أصبحت متعمّدة!

هل أصبح العالم بكل التطور والتقدّم الذي وصل إليه، في كل المجالات، عاجزاً عن وقف حفنة من الفاشيين المتوحشين والنازيين المرضى الذين يتلذذون بقتل الأطفال والنساء على الهواء مباشرة، من أجل إشباع غريزة القتل المرضية عندهم؟ هل كان العالم الغربي سيسمح بارتكاب مثل هذه الفظائع في دولة مثل أوكرانيا ويظل صامتاً ولامبالياً؟ رأينا كيف تحرّك الغرب كله، وما زال معبأً، وراء أوكرانيا عندما غزاها الروس، وتابعنا كيف اهتز العالم عندما شاهد فيديوهات الإعدامات البشعة التي كان يبثها تنظيم داعش الإرهابي، وفي ظرف وجيز تشكل تحالف عالمي من أكثر من 30 دولة للقضاء على التنظيم الإرهابي. جرائم إسرائيل اليوم أبشع من جرائم “داعش”، بل أكثر بشاعة مما فعله النازيون الذين كانوا يقتلون ضحاياهم في معسكرات معزولة وبعيداً عن أعين الناس وسط أدغال الغابات الباردة، وليس مباشرة على الهواء كما يفعل الصهاينة. وإذا كان بعض الناس داخل المجتمع الألماني في عهد النازية لم يعلموا بوجود معسكرات وغرف غاز ومحرقة، ففي المجتمع الإسرائيلي العنصري الفاشي النازي تخرُج يوميا أصوات عبر وسائل إعلام رسمية تدعو إلى قتل الأطفال والنساء والمدنيين الفلسطينيين، وأصوات تتشفى وأخرى تفتخر بدون أسف أو عقدة ذنب عنما يقتل الأطفال وتحرق النساء وتقصف المستشفيات، وأصحاب هذه الأصوات وزراء ونواب في الكنيست وصحافيون وسياسيون وفنانون ومثقفون ورجال دين.

خطر الصهيونية أكبر مما يمكن تصوّره على مستقبل العالم والأجيال المقبلة

لقد أدّت جرائم النازية، ومشروعها الجهنمي، إلى الحرب العالمية الثانية، وما يحدُث في غزة لا يهدّد أهلها فقط، ولا يهدّد الفلسطينيين فقط وقضيتهم، وإنما يهدّد العالم، لأن خطر الصهيونية أكبر مما يمكن تصوّره على مستقبل العالم والأجيال المقبلة إن لم يستيقض ضمير الشعوب وتُنقَذ البشرية من الخطر الداهم الذي يتهدّدها. كلنا اليوم مسؤولون عما يرتكب من جرائم في غزّة، وبيدنا أن نوقف المهزلة قبل أن تتحوّل إلى كارثة عظمى، وعندها لن يغفر لنا قولنا “لم نكن نعرف” أو “لم نكن نستطيع”. الأجيال المقبلة لن تغفر لنا صمتنا وتواطؤنا ولامبالاتنا.

عام 1945 عندما كُشِفَ الغطاء عن الجرائم الفظيعة التي ارتُكبت في معسكرات الاعتقال النازية وبدأ الناس يرون ويسمعون قصص الناجين، حاول الألمان تبرير صمتهم ولامبالاتهم طوال سنوات ارتكاب تلك الجرائم التي صنفت ضد الإنسانية بترديد العبارة السخيفة والقاطعة “لم نكن نعرف”، وربما كان بعضهم فعلا لا يعرفون أي شيء عما كان يجري في تلك المعسكرات في أدغال الغابات، وحتى من كانوا يعرفون كانوا يخافون من انتقام الشرطة النازية منهم في حال صدور أي رد فعل منهم للاحتجاج أو رفض الجرائم التي كانت ترتكب باسمهم على يد نظام كان يحكم بالدعاية والقمع. لكن لا أحد قال إن لامبالاة الألمان تعفيهم من تحمّل المسؤولية، وإنما اعتبرت لامبالاة مذنبة بل وقاتلة في نهاية المطاف، ما زال الشعب الألماني يدفع ثمنها للتكفير عن عقدة الذنب التي يتوارثها جيلا عن جيل. هذا ما ينتظرنا لو طال صمتنا وتعودنا لامبالاتنا.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى