
يرحل البابا فرنسيس عن العالم وكنيسته على مفترق طرق، كما كان توليه المهمة الرسولية قبل عقد ونيف، على خلفية مرور الكاثوليكية بمنعطف صعب. فبسبب الخط الرجعي لسابقه البابا بندكت وفضائح الفساد المالي التي أحاطت بمقربين منه، بالإضافة إلى تراكم الشواهد على جرائم الاعتداء الجنسي بين منتسبي السلك الكهنوتي حول العالم، تلوثت سمعة الكنيسة وكاد هذا أن يطيح بما تبقى ما للكاثوليكية من مصداقية أخلاقية. خرجت معارك الطموح الشخصي داخل الفاتيكان إلى العلن في محتوى مئات الصفحات من الوثائق المسربة، ولعل تنحي البابا بندكت عن كرسيه كان يتعلق بتلك الفضيحة أكثر من غيرها.
كان سقوط برلين إشارة البدء لتراجع أهمية الكنيسة الكاثوليكية على ساحة السياسة الدولية. إثناء الحرب الباردة، مارس البابا يوحنا بولس الثاني ذو الأصل البولندي دوراً جوهرياً ضمن المعسكر الغربي. تراوح ذلك الدور بين مواجهة الخطر الأحمر في دول الجنوب وبين إلهام حركة قاعدية مخلصة تسعى إلى حرية العقيدة في دول الكتلة الشرقية. بالتوازي، كانت الديموغرافيا تزيح ببطء مركز الكاثوليكية بعيداً عن قارتها القديمة، فبسبب تراجع موقع الدين في الحياة العامة في أوروبا والانكماش الديموغرافي للسكان هناك، أصبح التمثيل العددي الأكبر لرعية كنيسة روما يتركز في دول الجنوب، وبالأخص أميركا اللاتينية، أو كما أشارت واحدة من التقارير الاقتصادية في لمحة ذكية غير مقصودة، صارت الكاثوليكية كنيسة “أسواق ناشئة”. كان ذلك الهبوط في بورصة الأسواق يتبعه هبوط في رأس المال المعنوى للفاتيكان.
على تلك الخلفيات، كان اختيار البابا فرنسيس لوراثة كرسي القديس بطرس بمثابة معجزة. قدم الأب الأرجنتيني بشخصه حلاً وسطاً لكثير من معضلات الكاثوليكية في القرن الجديد. فهو البابا الأول من أميركا اللاتينية، لصد تهمة المركزية الأوروبية عن الفاتيكان، لكنه يظل بابا أبيض لوالدين إيطاليين. الميل اليساري لفرنسيس في مسائل العدالة الاجتماعية والبيئة والسياسة الدولية، كان مرضياً للجناح الإصلاحي داخل الكنيسة ومناسباً لرعية أصبحت أغلبيتها من الفقراء. أما مواقفه اللاهوتية المحافظة في مسائل رسامة المرأة والطلاق وتبني المثليين للأطفال والإجهاض ووسائل منع الحمل، جعلته اختياراً مرحباً به من المحافظين داخل الكنيسة وخارجها.
والحال أن قدراً معتبراً من شعبية البابا بين الكاثوليك وغيرهم يرجع إلى قدرته على التواصل مع وسائل الإعلام بانفتاح وبساطة، وكذا حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي. بابا يحب كرة القدم ويسمح بلطف للأطفال بإحداث الفوضى أثناء الصلوات، وواحد من أشهر تصريحاته الإعلامية الباقية في الذاكرة هو: “من أنا حتى أدين!” وفي عالم ينعطف نحو اليمين بعجالة مرعبة، حيث تهيمن لغة الكراهية والتباهي بالقسوة ضد الأكثر هشاشة، اختارت الباباوية طريقاً للرحمة. بلهجة قوية دان البابا سياسات ترامب المعادية للمهاجرين واللاجئين، وبالقدر نفسه من الوضوح أعلن تضامنه مع الفلسطينيين، وطالب بفتح تحقيق في الجرائم الإسرائيلية في غزة. وبالطبع لم تكسبه تلك المواقف جماهيرية لدى اليمين الغربي، بل ولا حتى لدى رئيس موطنه الأرجنتين، خافيير ميليه، الذي هاجمه بشده قبل انتخابه.
كانت معجزة فرنسيس، التي تطلبت منه الكثير من الحكمة والحرص، هي الطفو بكنيسته فوق مشكلاتها في عالم يزداد عدوانية يوماً بعد آخر. لكن تلك المشكلات لم تختف بل تزداد تعقيداً. فإن كانت الكنيسة الكاثوليكية قد صارت كنيسة أميركية لاتينية، فهي تتراجع في القارة اللاتينية لصالح المسيحية الإفنجليكانية الآتية من الولايات المتحدة، والممثلة في الحركات الخمسينية والكارزماتية وإنجيل الرخاء. وفي مقابل الكاتدرائيات الكاثوليكية الضخمة، تنتشر كنائس الصفيح الافنجليكانية في الأحياء المعدمة على هوامش المدن اللاتينية مثل الفطر. الإقبال على إنجيل الرخاء، الذي يعد بالتحقق الأرضي والثروة كدليل على النمو الروحي، يتوافق مع الخطابات الفردية للنيوليبرالية الحاضة على الاعتماد على الذات. وبينما يبدو الكهنة الكاثوليك مثل بيروقراطية عتيقة، يظهر قساوسة الكنائس الافنجليكانية مثل مطوري أعمال ناجحين. في النهاية، لا يتجاوز وعد الرخاء أكثر من البقاء على قيد الحياة، لكن مع هذا تجتاح النسخة الأميركية من المسيحية أميركا اللاتينية.
في البرازيل، والتي شكل الكاثوليك نسبة 83% من سكانها حتى العام 1991، مما جعلها الدولة الكاثوليكية الأكبر، وصل اليوم عدد منتسبي الكنائس الافنجليكانية فيها إلى 70 مليون نسمة، أي حوالى 31% من السكان، وبحلول العام 2032، من المتوقع أن تصبح الكاثوليكية ديانة أقلية ويشكل الافنجليكانيين أغلبية السكان. الجدير بالذكر أن الفوز الانتخابي للرئيس اليميني بولسونارو والمعروف باسم ترامب الاستوائي، كان بدعم من الكنائس الافنجليكانية، والتي صوت 69% من رعيتها لصالحه. الأمر نفسه ينسحب على بقية الدول اللاتينية، حيث يترافق انتشار الكنائس الافنجليكانية مع ميل تصويتي تجاه اليمين.
تعد الافنجليكانية أكثر العقائد الدينية نمواً حول العالم. فبينما كان عدد أعضاء كنائسها 58 مليوناً في العام 1970، وصل اليوم عددهم إلى أكثر من 700 مليون. بشكل ما، تنتقل الباباوية من الفاتيكان إلى الولايات المتحدة، بلا باباوات بالطبع، بل تحت رعاية قساوسة التبشير التلفزيوني. وكما تبدو الولايات المتحدة المكتفية بنفسها اليوم في الطريق للانفصال عن أوروبا، يرجح أيضاً أن تكون كنيسة روما جزءاً من التركة الغربية الممكن التخلي عنها.
المصدر: المدن