ما يجري في لبنان، كان يستحيل تخيّله قبل انفجار مرفأ بيروت. هدير طائرات عسكرية، فرق إنقاذ وتحقيق، جيوش وبوارج في البحر وعلى السواحل.
حزب الله إلى أين؟
يشبه المشهد الحالي الدخولَ الفرنسي – الأميركي إلى لبنان في مطالع الثمانينيات. كان الدخول هجومياً آنذاك، فجبه حزب الله الإيراني السري، سرية غامضة وتامة بعد، والمتقنِّع بأسماء كثيرة حينها، بردود هجومية.
اليوم تأتي الجيوش والفرق للمشاركة في التحقيقات، تقديم المساعدات والإشراف على توزيعها، وعلى عملية إعادة إعمار المرفأ. ويحصل هذا “الاجتياح” الدولي وسط صمت اللبنانيين وذهولهم.
لقد شُرِّع لبنان، براً وبحراً وأجواء، لقوى عسكرية واستخبارية وسياسية وإنقاذية كثيرة. وما يجري يشق طريقاً طويلة للمساعي الدولية، وصولاً إلى تسوية. لكن الفرص التي أهدرت سابقاً، تسهم في تضييق هامش القوى اللبنانية وتأثيرها.
حتّى حزب الله الذي كان حقاً أو يتوهم أنه عملاق في المواجهة، ويرفض منح حرية الحركة لقوات الطوارئ الدولية، وجد من يقول له: لا تريد نشاط اليونيفيل؟ ها نحن جئناك بمحققينا وجيوشنا. والتداعيات الناجمة عن هذه التطورات ستكون خطرة جداً، في المعيار السياسي. فلبنان اليوم يعيش وسط موجات جديدة من التصعيد والمعارك السياسية المتشعبة.
مسار جديد.. واغتيالات؟
لبنان كله أصبح في مهب الحسابات الإقليمية والدولية. وزيرة الجيوش الفرنسية تعلن وصول 700 جندي إلى لبنان في المرحلة المقبلة. الأميركي ديفيد هيل يعلن مشاركة مكتب التحقيق الفدرالي بتحقيقات مرفأ بيروت. وما يجرى لم يعد يقتصر على تقديم المساعدات، بل يصل إلى حدود وضع اليد على لبنان. وما ينجم عنه هذه المتغيرات السياسية كبير. ومن يضع نفسه في مواجهة هذا المسار، قد يُحذف منه.
هذا المسار الذي تريد الدول الكبرى فرضه، يُرغم الأطراف اللبنانية كلها على تقديم تنازلات، وإلا تُهمَّش. الأجواء لا تشير إلى الاطمئنان، ولا تشير إلى قرب التوصل إلى تسوية أو اتفاقات، إلا إذا حصلت معجزة.
في الصفحة الجديدة من هذا المسار، سيعيش لبنان توترات سياسية وأمنية كثيرة، قد لا تُستثنى منها حصول عمليات اغتيال.
منعطف إقليمي – دولي
عندما زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وقدم مبادرته في لبنان، حرص على عدم استفزاز حزب الله، وعلى التواصل معه. حضر النائب محمد رعد اجتماع قصر الصنوبر، وحصل تبادل رسائل بين الفرنسيين والحزب. وطرحت فرنسا تشكيل حكومة وحدة وطنية في البداية.
لكن اليوم تغيرت هذه المعطيات بفعل التدخل الأميركي، وفق ما تشير المعلومات. تشددت واشنطن في مطلب تشكيل حكومة حيادية، وعدم مشاركة حزب الله فيها. وبعد إعلان واشنطن عن مشاركتها في تحقيقات انفجار المرفأ، أعلنت وزيرة الجيوش الفرنسية عن مجيء جنود فرنسيين. يوحي هذا بأن فرنسا بدخولها إلى لبنان، لا تريد استفزاز حزب الله، لئلا يكون دخولها على غرار دخول جيشها في الثمانينيات، فيستدعي هجوماً مضاداً من الحزب إياه.
قبل هذه المؤشرات، كانت دول كثيرة تتحسب لقيام حزب الله بعملية ما، قد تستهدف قوات اليونفيل، رداً على الضغوط التي يتعرض لها.
الحدود والصواريخ معاً
لكن المسار بدأ يتغير. الحشود الدولية سيكون لها وزنها الكبير في قرارات حزب الله، ولجمه عن الاستمرار بالتصعيد. أما إذا كانت الحسابات أكبر وأبعد من ذلك، فقد تؤدي إلى تفجير كبير. فإلى التصعيد بين إيران وأميركا، أُضيف التصعيد بين تركيا وفرنسا في البحر المتوسط. وطالت السجالات التركية الفرنسية الوضع في لبنان. وهذا يسهم في تدويل الأزمة اللبنانية أكثر فأكثر، وسط تغير جذري في المقاربة الأميركية للملف اللبناني.
حتى الآن لم تبد واشنطن أي تنازل أو تسهيل. ولا تزال تعتمد سياسة الصمت، ليأتي إليها اللبنانيون مطالبين بذلك. هذه السياسة اعتمدتها واشنطن منذ تشرين الفائت، فانكفأت عن أي حركة، ووضعت شروطها التي لم يلتزم بها أحد. فلم تعد تطالب بترسيم الحدود، معتبرة أنها فرضت شروطها، وعلى اللبنانيين تقديم الإجابات والتنازلات.
بعد مواقف لبنانية تؤكد الاستعداد لترسيم الحدود، تحرك ديفيد هيل في اتجاه لبنان. لكن هيل لم يتطرق إلى ذلك، بل انتظر من اللبنانيين ما يقدمونه، على قاعدة ثابتة سابقة: إما الانهيار التام والجوع، وإما التنازلات مقابل المساعدات.
زيارة هيل ستستكمل بزيارة ديفيد شينكر. وفي الزيارتين سيكوِّن الأميركيون فكرة واضحة عما يفكر به اللبنانيون وما يسعون إلى تقديمه، من دون منحهم أي فرصة سماح. فالضغوط مستمرة، والحشود تتزاحم.
وتفيد معطيات ومعلومات بأن الضغوط الأميركية لم تعد تقتصر على ترسيم الحدود أو شكل الحكومة. بل هناك شروط أقسى وأخطر: كشف حزب الله عن مخازن صواريخه لقوات اليونفيل مثلاً. وهذا قد يُرغم الحزب على تفكيكها. لكن هناك أيضاً مطالبة أميركية بسيطرة قوات اليونفيل على الخط الحدودي كله بين لبنان وإسرائيل، وسط تحذيرات وتهديدات، بان عدم تفكيك الصواريخ، قد يجعلها عرضة للاستهداف.
وهذا كله لا ينفصل عن الشروط الأميركية المتشددة في مسألة الحكومة الحيادية والإصلاحية، ولتبدأ في المسار الإصلاحي سريعاً، على حدّ تأكيد ديفيد هيل.
المصدر: المدن