
صبيحة 19 مارس 2025، تم اعتقال رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو من منزله، بتهم متعددة تتعلق بالفساد المالي، من خلال التواطؤ مع رجال أعمال في عمليات غسيل أموال ناتجة عن أرباح غير مشروعة، بالإضافة إلى اتهامات بالرشوة والاحتيال والتلاعب في المناقصات.
كما وُجّهت إليه تهم بتشكيل ورئاسة منظمة إجرامية، تقوم بالتلاعب بالعطاءات، وفرض الأتاوات، وتمويل تنظيمات إرهابية، والانخراط في نشاطات مشبوهة تحت مسميات سياسية، مثل “التوافق الحضري”.
جدل كبير حول أسباب اعتقال أكرم إمام أوغلو، قضائية أم سياسية
في حين تصر رئاسة حزب الشعب الجمهوري CHP على أن سبب الاعتقال سياسي إقصائي، لأن إمام أوغلو يُعتبر من أبرز منافسي الرئيس رجب طيب أردوغان، وكان على وشك اعتماده من خلال استفتاء داخل حزبه كمرشح رسمي للحزب في الانتخابات الرئاسية القادمة، وتتهم حكومة أردوغان باستخدام القضاء كأداة لإبعاده عن المشهد السياسي.
تقول السلطات القضائية إن اعتقال إمام أوغلو جاء بسبب وشايات تقدم بها أعضاء في CHP الذي ينتسب إليه إمام أوغلو، وهذا يحتم على القضاء التحقيق فيها. هذا بالإضافة إلى شكاوى تقدم بها بعض منسوبي الحزب أيضاً، تتعلق بالتلاعب في نتائج انتخابات المؤتمر العام لـ CHP ، حيث تم شراء الأصوات، وتقديم الوعود بمناصب في البلدية والمؤسسات التابعة لها، مما غير نتائج الانتخابات لصالح رئيس الحزب الحالي أزغور أوزال أمام منافسه كمال كليجدار أوغلو. مما يعتبر انتهاكًا للقوانين التركية، ويؤكد المسؤولون الحكوميون أن القضية قانونية تمامًا ولا علاقة لها بالمنافسة السياسة.
الرئيس أردوغان استنكر دعوة رئيس CHP الجماهير للنزول إلى الشارع، وقال إنه لا وقت لدى تركيا تضيعه مع ترهات المعارضة.
الناطق الرسمي باسم حزب العدالة والتنمية، أكد أن عملية التحقيق مع أكرم إمام أوغلو قضية قضائية، ولا تهم الشأن السياسي، واستهجن اتهام الرئيس أردوغان بأنه يريد استبعاد إمام أوغلو من سباق الرئاسة.
ذرائع اعتقال أكرم إمام أوغلو والتهم الموجة ضده
يواجه أكرم إمام أوغلو قضيتين منفصلتين، الأولى تتعلق بالقضايا الجنائية، من تلقي رشى وفساد مالي، والاحتيال والتلاعب في المناقصات وغيرها. أما الثانية فتتعلق بالإرهاب، من خلال توظيف أشخاص متهمين بقضايا إرهاب في أماكن حساسة ضمن مؤسسات البلدية، حيث تمكنوا من خلالها من جني أموال طائلة، تم استخدامها في نشاطات إرهابية، وتمتد قائمة التهم لتشمل فرض الأتاوات وابتزاز بعض الشركات، وتمويل
تنظيمات إرهابية، والانخراط في نشاطات مشبوهة، منها الاستحواذ على داتا المعلومات المتعلقة بملايين المواطنين، ونقلها عبر شركات خاصة إلى خارج البلدية.
وقد كُشف تسجيل صوتي مسرّب أن البيانات الشخصية لملايين السكان في إسطنبول تم تسريبها وبيعها بشكل غير قانوني لشركات خاصة عبر مناقصات وهمية.
التسجيل الصوتي المسرّب، الذي قُدّم للنيابة من قبل شاهد سري، أظهر أن الممول الحقيقي للشركة ولعمليات جمع البيانات هو مراد أونغون، ما يعزز الشبهات حول استغلال نفوذه داخل البلدية.
كما تضمنت لائحة الاتهام أيضا، تحويل مبالغ ضخمة لشركة Reklam İstanbul عبر 73 مناقصة أُجريت بطرق غير قانونية، منها “التوريد المباشر”، وهو ما يعد التفافًا على القوانين ويثير علامات استفهام كبيرة حول الشفافية في إدارة المال العام.
وقد ورد في التسجيل الصوتي، قول أحد الأشخاص: “أنا لا أستخدم هذه البيانات فقط لتحقيق ربح مالي، بل أعتبرها استثمارًا سياسيًا أيضاً”.
طبقة النخبة كانت تقود الدولة والمجتمع، وتفرض وترسم للمواطنين جميع مجالات حياتهم، الاجتماعية والثقافية والمدنية، وحتى معتقداته الدينية!.
“التوافق الحضري” اتفاق انتخابي أم تحالف سياسي؟
حزب اليسار الديمقراطي (DEM Parti) الذي يعتبر الواجهة السياسية لمنظمة “ب ك ك” المحظورة، أطلق منصة سماها استراتيجية “التوافق الحضري” بهدف بناء تحالف سياسي وانتخابي مع CHP، وبفعل هذه المنصة صوتت كتلة حزب اليسار الديمقراطي لصالح أكرم إمام أوغلو في انتخابات البلدية، مما مكنه من الفوز ضد منافسه من حزب العدالة والتنمية. إذ لولا هذا الاتفاق لما تمكن إمام أوغلو من كسب الانتخابات. لكن هذا الدعم كان له ثمن سياسي باهظ، تمثل في تمكين كوادر حزب اليسار الديمقراطي من التغلغل داخل مؤسسات بلدية اسطنبول، التي تملك ميزانية تفوق ميزانيات كثير من الدول، واستغلالها للقيام بنشاطات محظورة.
الإشكالية المزمنة في عقلية حزب الشعب الجمهوري
ثمة مشكلة حقيقة في نمط التفكير السائد لدى حزب الشعب الجمهوري، قيادة وصفاً. فهم يعتبرون أن حزبهم الذي حكم تركيا عقودا بعقلية الحزب الواحد، هو الذي أسس الجمهورية التركية، وهو التي جاء بالديمقراطية، ولولاهم لما كانت هناك جمهورية ولا ديمقراطية!.
بناء على ذلك يرون أنفسهم أوصياء على الدولة، وأنها ملك حصري لهم، وأن من سواهم ضيوف سيرحلون عاجلاً أم آجلاً!.
هذه النظرة لم تأت من فراغ، إنما هي نتاج تراكمات تاريخية، سببها طبقة النخبة التي سيطرت على قيادة تركيا عقوداً طويلة. وهي شريحة مكونة من عسكر، وسياسيين وبيروقراط، ومحامين وقضاة، ورجال أعمال وصناعيين، وأكاديمين وقادة مجتمع.
طبقة النخبة كانت تقود الدولة والمجتمع، وتفرض وترسم للمواطنين جميع مجالات حياتهم، الاجتماعية والثقافية والمدنية، وحتى معتقداته الدينية!.
طبقة النخبة ترى نفسها فوق المساءلة وفوق القوانين، وترى أن القوانين يجب أن تطبق على عامة الشعب فقط.
كسر هيمنة النخبة بدأ فعليا منذ انتخابات 1950 عندما حقق عدنان مندرس فوزه الساحق ضد CHP وضد هذه المنظومة، بعد أن أطلق شعاره الشهير، Yeter söz milletindir، “كفى .. الكلمة للأمة”.
أكرم إمام أوغلو جاء ممثلا لطبقة النخبة، يتلقى دعمها ويتصرف بعقليتها، ويرى نفسه فوق المساءلة، مما جعله يتصرف بعنجهيه، ويتهجم حتى على القضاة.
لكن الصعود السريع والمفاجئ لأكرم إمام أوغلو، وحرقه للمراحل، وارتقاءه درجات السلم بسرعة خيالية، ليصبح خلال فترة وجيزة من أبرز المرشحين لزعامة حزبه ولرئاسة الجمهورية، فتح عليه باب المصاعب والتحديات، داخل حزبه، وفي ميدان العمل السياسي.
وبدل أن يواجه هذه التحديات بمرونة سياسية، وبراغماتية تستوعب المنافسين والمخالفين، رجح إمام أوغلو التصرف بعقلية النخبة، ودفعه الغرور والثقة الزائدة بالنفس والنظرة الفوقية، إلى انتهاج أساليب ملتوية، وطرق غير قانونية، فكثر أعداؤه وقل نصيره، واضطربت حساباته.
من سوء حظ إمام أغلو أن إدارة ترمب لديها توجه حقيقي لتصفية اليسار المتطرف المشاغب، وبالتالي لن يزعل الأميركيون إذا استبعد أكرم إمام أوغلو، ولن يصدروا بيانات تشجب اعتقاله.
هل خرج أكرم إمام أوغلو من حلبة الصراع أم يعود بطلاً منتصراً؟
بالنظر إلى قائمة التهم الموجهة ضده، والأدلة (الدامغة) التي قدمتها النيابة العامة، والشهود السريين، وربما يظهر شهود علنيون مستقبلاً، وامتداد قائمة الاتهام لتشمل قيادة الحزب الحالية، وشخصية الحزب الاعتبارية، فإن خروج إمام أوغلو من النفق لن تكون سهلة، إن لم تكن مستحيلة.
ويبدو أن رهان إمام أوغلو على تحرك الجماهير في الشارع، والطلاب في الجامعات، واضطراب البورصات وأسواق المال، لم يأت بالقدر الكافي، لتغيير مسار القضاء.
وكذلك رهانه على الدول الصديقة (!)، لم يكن صائباً. إذ اعتبرت غالبية الدول عملية اعتقاله شأن قضائي داخلي تركي. اللهم سوى الميديا اليونانية، التي استنفرت لأجله!.
من سوء حظ إمام أغلو أن إدارة ترمب لديها توجه حقيقي لتصفية اليسار المتطرف المشاغب، وبالتالي لن يزعل الأميركيون إذا استبعد أكرم إمام أوغلو، ولن يصدروا بيانات تشجب اعتقاله.
ولأن إمام أوغلو أصبح حصاناً خاسراً، فإن عملية الرهان عليه ستكون مقامرة تتجنبها القوى السياسية في العادة.
طالما حلم أكرم إمام أوغلو أن تكون له مسيرة سياسية مثل رجب طيب أردوغان، من البلدية إلى السجن إلى الزعامة والرئاسة. لكن شتان بين من يأتي به الشعب ومن تأتي به النخب.
المصدر: تلفزيون سوريا
قراءة دقيقة وموثقة للأسباب التي ادت الى إعتقال رئيس بلدية استنبول “أكرم إمام أوغلو” لقد طفح الكيل وإزدادة حوادث الفساد والتجاوزات من قبله، مما جعل توقيفه ضرورة لضمان حسن سير البلدية، التقديرات والوثائق التي قدمتها الحكومة تؤكد تورطه بالفساد، فهل هي نهاية معارضي أردوغان ؟ أم إنها معركة متقدمة لصالح اردوغان؟.