الجوع القهري والمدنية السورية

جمال الشوفي

“الجوع” الفكري والنفسي للتعبير عن الذات يبدو أنه أبرز سمات المرحلة الحالية من سوريا الجديدة، سوريا بلا قتامة الخوف الجاثم على النفوس من إرهاب الاعتقال أو الاختفاء في سراديب الموت والاعتقال. أجل إنه جوع النفوس للقول والمجاهرة العلنية بماذا تريد، بماذا تحلم أن تكون.. والخروج من سرداب القهر العام والفردي الذي مارسه نظام الاستبداد في أشد مجازر التاريخ على أمة ومجتمع. واستخدام مصطلح “الجوع” بدلالته الفيزيولوجية تعبير مجازي يحاكي الجموح النفسي لتحقيق الذات وإثبات حضورها على مسرح اليوم

إلحاح الحاجة للتعبير عن الذات مرفقاً بنزعة شعورية طافحة نتيجة موضوعية لمعادلات القهر النفسي التي عاناها السوريون طوال عقود، ودلالة ثقافية أوضح عن حجم مجزرة استبداد النظام، وتكاد تعادل مشاهد مجازره في القتل الجماعي والفردي التي مارسها خلال حكمه. فبينما تثبت الثانية مادياً بالأحداث والوقائع، تكون دلالة الأولى ذات حدين: الأول رفض القمع بكل أشكاله مرة أخرى، والثاني تمرد على كل القوانين والأحكام وزيادة احتدامها فردياً. من هنا يمكن للأبحاث المجتمعية السيكولوجية أن تعيد قراءة المشهد السوري بطريقة مغايرة عن الاكتفاء بقراءته السياسية والفكرية الساعية لترتيب مقتضيات المرحلة الحالية من الانتقال السياسي وإعادة بناء الدولة في سوريا.

الفكر المدني مطلب سوري عام مهما اختلفت حوله أطر وبرامج العمل السياسية المتنوعة. لكن الفرق والخلاف البارز اليوم هو طرق تحققها، فهي حكماً ليست منتجا حاضر التناول دفعة واحدة على مبدأ الإسقاط الفكري المباشر بالواقع “كن فيكون”

تجتاح وسائل التواصل الاجتماعي والحوارات السورية بعامها أو التمهيدية لمؤتمر الحوار العام المزمع إقامته قريباً، ظاهرة الجوع للتعبير وإثبات الوجود الفردي بشكل واضح، فذات المطالب والأحلام من قبيل: الحريات والحقوق، المدنية وتحقيق القانون، حق الفرد والمرأة، الدستور وما يمكن أن يتضمنه.. يتم تكراراها مراراً وتكراراً حتى لو قيلت على لسان من سبقهم. وكأنها لم تُقل من قبل، وليس فقط تزداد معها حدة الانفعال الشعوري، والتي مبدئياً تشير إلى:

  • التأكيد على المطالب المدنية الواجبة في سوريا المستقبل وعدم تكرار تجربة الاستبداد السياسي السابق.
  • التأكيد على حضور الذات الفردية بصفتها الشخصية وعدم الاكتفاء بالفكرة.
  • رفض قبول المختلف رأياً فكيف وإن كان من ينتمي لمؤسسات النظام السابق.

تأجيج المشاعر وحماسها يحجم دور الفكر المدني ذاته، فإن كان ثمة اختلاف مجتمعي حول بعض القضايا الدستورية العامة واحتدم الجدل حولها فهذه نتيجة طبيعية للتنوع السوري أهلياً وثقافياً، لكن أن تبرز هذه الدلالات في ذات البيئة المتفقة على ذات العناوين فثمة إشكال في الصيرورة وآليات الحوار، وسياق دال على ردة فعل مغايرة لما نتصوره عن المجتمع المدني نظرياً! وهذه بطبيعتها تحيل للشرعية الثورية ذات المبعث النفسي الدالة على الفوضى وعدم الرضا. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذه الحالة: ماذا لو لم تتحقق هذه المطالب بجماعها أو بتفاصيلها الجزئية في المستقبل القريب؟ خاصة وأن المجتمع السوري بتنوعه وتعدد بيئاته الثقافية، وكل فرد أو جماعة فيه لها حلمها وأمانيها الذاتية، سيواجه قريباً مشكلة التباين في القضايا العامة!

المدنية والفكر المدني مطلب سوري عام مهما اختلفت حوله أطر وبرامج العمل السياسية المتنوعة. لكن الفرق والخلاف البارز اليوم هو طرق تحققها، فهي حكماً ليست منتجا حاضر التناول دفعة واحدة على مبدأ الإسقاط الفكري المباشر بالواقع “كن فيكون”. والمدنية بذاتها صيرورة موضوعية تتجاذبها عوامل عدة أهمها متطلبات الواقع الموضوعي بحاجاته الأساسية من استقرار ومأكل ومشرب وأمان، وهذه أولوية شعبية عامة تتفق مع قاعدة هرم ماسلو للاحتياجات. بينما يأتي تحقق الذات في أعلى مراتبه! فهل ثمة تعارض بين هذه وتلك؟

من المؤكد لا يوجد تعارض بين تحقيق الاستقرار المادي والحياتي العام وبين تحقيق الذات من حيث الحريات والحقوق المدنية والسياسية، ولا يعني أولوية الاحتياجات المادية بأنه إقرار وخضوع لاملاءات الحكومة المؤقتة والسلطة القائمة الجديدة والمترجم بمقولة من يحرر يقرر! ولا يعني أبداً التوقف عن المطالبة بتحقيق المدنية بأوسع صورها دستورياً وقانونياً. لكن المفارقة المطروحة هي أدوات الوصول لها، وسؤال المدنية والشرعية الثورية محورها.

الشرعية الثورية وتحقيق الإرادة الفردية بعينها فعل يتعارض مع المدنية بالجذر، فالمدنية شرطها الأساس التنوع والاختلاف وهذه تتعارض مع الشرعية الثورية المفردة؛ والشرعية الحقوقية سياسياً نسبية، عددية، تفرزها صناديق الاقتراع، وإن كانت صناديق الاقتراع غير منصفة مدنياً وحقوقياً أمام الكثرة العددية الدينية مثلاً، فهذه لا يجب ألا تتعارض مع المدنية الموصوفة بالديموقراطية. حتى وإن أحلنا الديموقراطية للوعي المعرفي العام والعمل على تحققها والمطالبة بها، لكنها بالضرورة أبداً لا يمكن تحقق مبادئها المدنية والتوافقية بفرض الشرعية المطلقة! فالأسس العامة للمدنية تقوم على:

  • التوافق والحوار وأساسه الاعتراف بالآخر المختلف كماً ونوعاً.
  • الشفافية وعلنية التعبير كحق مكفول للجميع.
  • الفاعلية التدريجية، والتي تحيل إلى النسبية العامة والفكر المدني العصري.
  • الإنجاز المرحلي والاستهداف المستقبلي. من هنا يبدأ الفكر المدني بتحقيق ذاته الجمعية كمجتمع يكتنف الجميع، معرفاً نفسه بأنه الأسرة الأكثر اتساعاً وشمولاً وتنوعاً من الأسرة الأهلية التقليدية.

المعايير المطروحة هنا ليست نهائية أو قطعية، لكنها تحيل لضرورة الانتظام والتعامل مع الواقع بمعطياته وأولياته لا الاكتفاء بالتعبير الشعوري وإثبات الحضور وحسب. فحيث كانت الثورة حقا مشروعا لإسقاط النظام بلونه الوحيد وشرعيته وإرادته المطلقة الفردية، فلا يجب تكرارها بذات المنطق، فلم نزل نتغنى نظرياً بفكرنا المدني وتطلعاته الحضارية بقبول الآخر والروح الإنسانية الجمعية والشرعة الدولية لحقوق الإنسان.

السؤال الذي تطرحه التجربة السورية اليوم هل تنازع الشرعيات المفرطة بالمثالية حق مدني يمكن اعتماده لتأسيس دولة العدالة والمواطنة؟

فرض الشرعية الإراداوية تختلف كلياً عن معركة الفكر المدني وحوامله الكامنة. وكسب معركة الحقوق المدنية والقانونية وبالنتيجة السياسية مع الزمن تأتي بالحوار وليس باستبدال سطوة ببديل عنها. ومن ثم عليها أن تكون وسيطاً معرفياً وحقوقياً بين مطالب ومعيقات المجتمعي الأهلي والديني، وبين السلطة ومؤسساتها، فالمدنية ليست ضد التدين، ولا ضد الثقافات المختلفة، بقدر ما هي الفضاء الأوسع الذي يسعى لتحقيق الحقوق العامة لكل فرد فيه. فيما تكون معركة الكل المجتمعي مدنياً وأهلياً وسياسياً مع السلطات حين تغتصب الحقوق والحريات، وهذا مسار يمكن تفنيده في كل حقبة ومرحلة زمنية في حينها.

اليوم يقع على عاتق الفاعلين في المجتمع المدني، مفكرين ونخب وشباب ومنظمات ناشئة، جملة من التحديات المرحلية تتكثف خلاصتها بـ:

  • فتح الحوار الشاق والطويل مع البنى المجتمعية الأهلية والدينية والسياسية أيضاً.
  • التمسك بالحقوق المدنية والسياسية والتضامن التوافقي حولها في فعل مجتمعي عام.
  • الابتعاد عن ممارسة الشرعيات وفرض شروطها المولدة للفوضى والتشتت.
  • الابتعاد عن مغريات المكاسب الآنية سياسياً ومادياً على حساب الأهداف العامة المتمثلة بتحقق المجتمع المدني في ظل دولة الحق والقانون.

كان لإدموند بيرك، المفكر الإيرلندي، سَبْقُ التحذير من ولع الثوريين الفرنسيين بالتعصب لنظرتهم المثالية وفرض شرعيتهم الثورية المثيرة للفتنة والاضطراب والتي قادت لعودة الحكم العسكري البونبارتي، والتي عبّر عنها في كتابه الأشهر “تأمّلات حول الثورة في فرنسا” عام 1790، وهو ما يشبه مجريات مصر 2013. والسؤال الذي تطرحه التجربة السورية اليوم هل تنازع الشرعيات المفرطة بالمثالية حق مدني يمكن اعتماده لتأسيس دولة العدالة والمواطنة؟ أم ضرورة الانتقال التدريجي للحوار البناء وفق مراحل زمنية وخطط مستقبلية على قاعدة التشاركية لا التنافسية السلبية الهدامة؟ فإن كان لسقوط النظام فرحة ونشوة قصوى، لكن مرحلة البناء تحتاج لأسس مختلفة قد يكون إحداها كيفية الإجابة على سؤال: القهر وتجلياته النفسية برد الفعل الثوري والسياق السياسي المقنن بأطر قانونية للبناء؟ وحذرنا واجب وتليين حوافنا الحادة الشعورية ضرورة وحاجة مدنية راهنة ومستقبلية.

 

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى