عن غياب القوّة الناعمة الجزائرية في فرنسا

محمد سي بشير

بدايةً، لا تهدف المقالة إلى إيجاد تخريج لتصريح وزير الاتصال الجزائري، محمد مزيان، الذي تحدث عن عدد مهول من الصحافيين عبر العالم لا هم لهم إلا تشويه سمعة الجزائر، بل الهدف هنا، بمقاربة ما يُعرَف بمفهوم المخالفة، الحديث عن نقائص منظومة إعلامية لا تعمل بطاقتها المطلوبة، ولا تبحث عن التأثير، أو لا تجد سبيلاً للوصول إليه. باختصار، إنها القوّة الناعمة الغائبة أو المغيّبة في أرض المهجر، في فرنسا، طاقات مهدورة لا تُستغَلّ أتمّ الاستغلال أو أمثله.
لننطلق من التّصريح الذّي تحدّث عن صحافيين عديدين في العالم مهتمّين بالجزائر، ينقلون أخبارها، ويركّزون في ما يقع فيها بنوع من التّناول المشوّه. وأوّل ما يجب أن نقوم به تعريف مفهوم الصّحافي/ الإعلامي في وقتٍ أدلى الوزير فيه بالتّصريح، وهو مفهوم أضحى واسعاً، وتمدّد ليشمل صُنّاع المحتوى، والمُغرّدين، ومن يُسمّون مؤثّرين، إضافة إلى كُتّاب الأعمدة والإعلاميين والمثقّفين المتدخّلين بالوسائل المختلفة، الإعلامية والاتصالية، الواقعية منها والافتراضية، بملايين المتابعين والمشاهدات، ليكون المفهوم، بهذا التفصيل التعريفي، في سياقه، ومن دون الأبعاد التي أراد بعضُهم إيجاد تخريج لتصريح الوزير، من دون معرفة ما يقصده، ممّا أضمره من كلام أو ما يُفهَم منه ضمناً. وبهذا، يكون العدد قريباً ممّا ذكره، خاصّة في الجوار، وفي إطار ما يحصل حالياً من أزمة مع فرنسا، بل قبلها بكثير، إذ لا ينفكّ الإعلام، بذلك التّعريف، يتحدّث عن الجزائر بسبب تلك العلاقة المتوتّرة تاريخياً مع المُستعمِر السابق.

صنعت القوّة الناعمة الجزائرية أمجاد الرياضة الفرنسية: زين الدين زيدان، وكريم بن زيمة

قبل الخوض في القوّة الناعمة الجزائرية، التي لا يجري استخدامها بالتأثير المرجو والمُستهدَف منها جزائرياً، نتحدّث عن ظاهرة الاستخدام الأمثل للقوة الناعمة من الكيان الصهيوني في المشهد الإعلامي والثقافي الفرنسي، وبالذّات ظاهرتَي المُنشّط التلفزيوني أرتور، والفيلسوف برنارد هنري ليفي. الأوّل، مُنشّط وصاحب شركات إنتاج برامج تلفزيونية تُقدّر ثروته بنصف مليار يورو أو أكثر (مجلة فوربس في تصنيفها لثروات الإعلاميين)، بالرغم ممّا جرى الحديث فيه كلّه عن تصرّفاته المشينة ضدّ النساء في بلاتوهات حصصه، يتمُّ استقباله في القنوات الفرنسية باعتباره النّاطق الرّسمي باسم يهود فرنسا، لأنه من أكثر المساندين للكيان الصهيوني منذ بدء عملية طوفان الأقصى، وكلّ هجوم عليه هو معاداة للسامية، وذلك كلّه، كما أظهرت بعض الدّراسات الفرنسية الرّصينة، راجع للأخطبوط الإعلامي، الذي سمح له بتكوينه على مدى ربع قرن في مجال الإنتاج التلفزيوني، وهو أخطبوط يضرب بأطنابه داخل مؤسّسات الإعلام الفرنسي كلّها (حصص تلفزيونية، وشركات إنتاج عالمية، وشراكات إعلامية متعدّدة الجنسيات)، جعلت منه شخصاً مؤثّراً وقوّةً ناعمةً للكيان الصهيوني ولليمين المتطرّف في فرنسا (كان مسانداً للرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، والآن ضيف دائم على قنوات بولوري، ومن بين الشّخصيات الأكثر تأثيراً في المجال الإعلامي الفرنسي رفقة إيريك زمور مثلاً).
أمّا الشّخصية الأخرى التي ثمّن قيمتها الكيان الصهيوني في فرنسا، فهو مدّعي الفلسفة هنري ليفي، عرّاب العنف واستخدام السلاح في ليبيا، رفقة حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وما لا يعرفه الناس عن هنري ليفي أنه رئيس مجلس مراقبة القناة الثقافية المشتركة الفرنسية الألمانية (ARTE)، ومنها انطلق في عمله الأخطبوطي في إنتاج أشرطة وثائقية وأفلام بالمال العمومي، وبمساندات بالملايين من اليوروهات، إضافة إلى تسهيل الحضور في القنوات باستمرار للدفاع عن الكيان، وبخاصّة منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى، التي انتقد فيها حركة حماس وفلسطين، ووصف الأمّة كلّها، من القسام إلى الفلسطينيين ومسانديهم (فعلاً ومعنوياً) من العرب والمسلمين، بأنهم “إرهابيون”، و”معادون للسامية”، ويجب في النتيجة “إفناؤهم”. عبارة قالها أيضاً المغنّي الصهيوني أنريكو ماسياس، في قناة إخبارية، ولم ترفع ضدّه قضية، ولم ينتقد، شأنه شأن برنارد هنري ليفي.
إذا كان هذا هو الاستخدام الأمثل للقوّة الناعمة في فرنسا من شخصيات صهيونية، فلماذا لا نحذو حذوهم، ونفعّل طاقات لا حصر لها موجودة، وحاضرة في أكثر من قطاع، تُحسِن التعامل مع الإعلام، وليس لها مشكلة مع الاندماج اللغوي والثقافي، كما يدّعي اليمينيون الفرنسيون عند انتقادهم المهاجرين. يوجد هؤلاء في مجالات كثيرة، وتأثيرهم يمكن قياسه، كما يكفي أن تكون هناك خطّة وعمل من الجزائر، ليصبح الجميع أداةً في تسويق صورة الجزائر، والدفاع عن قضاياها، وإبراز حجم وطبيعة القيمة المضافة للهجرة في الاقتصاد والثقافة والعلم والإشعاع الفرنسي، على الأصعدة كافّة. ننطلق في إيراد أمثلة ونماذج لأنه، كما يقال بـ”المثال يتضح المقال”، ولنبدأ بمولود عاشور، أشهر إعلامي وصانعٍ للمواهب، إضافة إلى أنه مدافع شرس عن صورة الجزائر في صمت، ومن دون صخب، ومن مميّزاته أن الجميع في فرنسا من مشاهير، خاصّة من المهاجرين، مغاربيين وأفارقة على وجه الخصوص، كانوا ضيوفاً في حصصه التي نشّطها في أكبر قناة فرنسية خاصّة هي كنال بلوس. يمكن الحديث هنا عن مشاهير يدينون لمولود عاشور بانطلاق مسارهم الفنّي والرياضي، بل والثقافي أيضاً، بعد احتضان مولود لهم، وكلّهم يتحدثون أنه لولا مولود لما كان لهم أن يجدوا مكاناً في المشهد التأثيري الفرنسي بأنواعه كافّة، وعلى سبيل المثال هناك عمر سي، الفنّان ذو الأصول السنيغالية، والفكاهي ذو الأصول المغربية جمال دبوز، وكلاهما من الشخصيات الفرنسية المحبوبة لدى الفرنسيين، وأصبح إشعاعهم عالمياً بمساعدة من مولود عاشور.
ولنبحث في عالم الرياضة، لنجد أن القوّة الناعمة الجزائرية أكثر من حاضرة، بل هي التي صنعت أمجاد الرياضة الفرنسية في شخص زين الدين زيدان، وكريم بن زيمة، وكلاهما لا ينفكّان عن ذكر أصولهما الجزائرية، ويؤكّدان على ارتباطهما بالجزائر. في باريس، هناك شخصية ما زالت تحظى بجماهيرية منقطعة النظير، مصطفى دحلب، اللاعب السابق في باريس سان جيرمان، والفريق الوطني الجزائري (مونديال 1982 في إسبانيا)، إذ احتفظ الجميع بصورته وحضوره اللامع رياضياً، وأخلاقياً، وتأثيراً في مسار فريق العاصمة الفرنسية، في ملعب حديقة الأمراء. نذكّر برياضي جزائري كان له الأثر الكبير في فريق سانت إتيان في جنوبي فرنسا، هو اللاعب السابق في فريق جبهة التحرير رشيد محلوفي (رحمه الله)، الذي وقفت له مدرّجات الملعب العام الماضي (2024) عند وفاته، وخصّصت له القنوات الفرنسية كلّها، حتى اليمينية منها، قسطاً من الوقت للحديث عن مساره الرياضي الاستثنائي، وخاصة مواقفه الثورية، إذ فضّل التضحية بمساره الرياضي (حضوره لاعباً أساسياً في مونديال 1958) بالتحاقه بفريق جبهة التحرير، رفقة لاعبين مرموقين في البطولة الفرنسية آنذاك، على غرار مصطفى زيتوي (رحمه الله).
في مرسيليا، شخصيات فنية ورياضية ما زال إشعاعها التأثيري إلى الآن، على غرار سمير ناضري، صاحب الشخصية والمحلّل الرياضي في عديد من القنوات في فرنسا وبريطانيا، إلى جانب حضور قوي الآن لعديد من لاعبي الفريق الوطني ممّن يصنعون البهجة في عاصمة الجنوب الفرنسي، مثل أمين غويري وإسماعيل بن ناصر، من دون أن ننسى مرور لاعبين كبار منسيين، مثل كمال مريم، صانع ألعاب مرسيليا، رفقة اللاعب الإيفواري دروغبا، في فترة زاهية لكرة القدم في أشهر فِرقٍ في فرنسا. وبالمرور على القوة الناعمة في الإعلام، وفي الساحة الثقافية، يمكن الحديث عن كوثر عظيمي وعن أميرة بوراوي، إضافةً إلى التراث الضخم لمولود فرعون ومولود معمّري ومحمد ديب وآسيا جبّار، إضافة إلى مالك حدّاد، وكلّهم كتّاب ساهموا في إشعاع الثقافة واللغة الفرنسيَّتَين، كما يمكن التركيز في العطاء المميّز لإذاعة بور إف إم، الموجّهة إلى المغتربين المغربيّين، والمدافعة الشرسة عن صورة الجزائر. كما لا يجب نسيان بعض وجوه الإعلام الفرنسي من أصول جزائرية، كان لهم الحضور والكاريزما، مؤشّران مهمّان في القوّة الناعمة المنتجة للأثر الجدّي والقوي، على غرار رشيد أرهاب وإسماعيل بوعبد الله أو كريم بناني وعز الدين شاوش وغيرهم كثير ممّن لا يمكن ذكرهم كلّهم هنا.

يمكن رسم برنامج عمل يدمج فيه الممثّلون لتأثير الجزائر الواقعي في الفضاء الفرنسي بموارد مالية قليلة، وعائد تأثيري عظيم

يمكن الحديث أيضاً عن منارة للإشعاع الجزائري من خلال التركيز على الدور المهم الذي يلعبه منذ قرابة قرن مسجد باريس، عميد مساجد الجالية المسلمة في فرنسا، إذ يُشكّل منارةً حقيقيةً للوجود الجزائري المساهم في نشر الوسطية والحفاظ على المرجعية المالكية للمغاربة كلّهم، مع ذكر قرينة مهمّة في القوة الناعمة لقياس تأثير مسجد باريس، وهو توافر الأدلة والوثائق على مشاركته في إخفاء يهود فرنسيين كثر من النازيين في الحرب العالمية الثانية، ويعمل كثير من اليهود أنفسهم، من عائلات من تم إخفاؤهم، على إرجاع الفضل لمسجد باريس. تلك هي نقطة من بحر القوّة الناعمة التي تملكها الجزائر في فرنسا، من خلال جاليتها، التي لا تستخدمها الجزائر بمقاربة مثلى في تقوية وتعظيم تأثيرها في الدفاع عن قضاياها من دون الحاجة إلى التركيز على كمال داوود وبوعلام صنصال وياسمينة خضرا، بل من دون الحاجة أيضاً إلى محاولة إبراز أن المؤثرين الخارجين عن القانون، بدعوتهم إلى العنف، هم جزائريون.
يمكن في هذا الإطار مراجعة القيمة المضافة للقوّة الناعمة المتمثّلة في الجالية الجزائرية في فرنسا، من خلال رسم برنامج عمل يكون لسفارتنا وقنصلياتنا (أكثر من 20 قنصلية) في فرنسا المساهمة فيه، بإدماج هؤلاء الممثّلين لتأثيرنا الواقعي والمحتمل في الفضاء الفرنسي، بأنواعه كلّها، وعلى الأصعدة كافّة، بموارد مالية قليلة، وعائد تأثيري عظيم جدّاً.
تلك هي دعوة إلى التفكير بعد تصريحات وزير الاتصال مع تخريج منطقي لحديثه، المتضمّن واجب إيجاد قوّة ناعمة جزائرية، فهل من مصغٍ؟

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى