منذ الساعات الأولى لتحرير العاصمة السورية دمشق، وإعلان فرار رأس النظام من البلاد، طُرِحَت، وما زالت تُطرح الكثير من الأسئلة حول نتائج سقوط النظام السوري على السياسة الروسية في سوريا والمنطقة ككل، وحول مصير العلاقات بين موسكو ودمشق في المرحلة القادمة. وخلال نقاشات في أوساط مختلفة برز تباين في وجهات النظر بين من يقول إن روسيا خاسرة، ومن يؤكد أنها ليست كذلك، وبين هذا وذلك هناك من ذهب أبعد من ذلك، وعبر عن رؤية مفادها أن “روسيا مستفيدة من سقوط نظام الأسد!”.
سقوط النظام خسارة لروسيا ستؤثر على نفوذها إقليمياً ودولياً
يرى عدد كبير من الخبراء والمحللين أن روسيا بعد فرار الأسد تبدو كمن يقول المثل الشعبي عنه (طلع من المولد بلا حمص)، أي أنها باتت الطرف الخاسر.
ويوضح أصحاب وجهة النظر هذه أن روسيا، بعد فرار الأسد وانتهاء نظام حكمه، فقدت إمكانية الاستفادة من سوريا عسكرياً وسياسياً. وستضطر لإخلاء قواعدها في طرطوس وحميميم، ما يعني تخليها عن حلمها بموطئ قدم على ساحل المتوسط، وعن القواعد التي منحت أساطيلها البحرية والجوية مزايا استراتيجية، حين وفرت لها إمكانية المراقبة عن كثب لتحركات الناتو جنوب أوروبا، وعبر مضيق جبل طارق، وأن تعزز وجودها العسكري في مسرح عمليات الأسطول السادس، إنطلاقا من قاعدة بحرية في طرطوس، تم تأهيلها لاستقبال سفن عملاقة وغواصات استراتيجية تعمل بالطاقة النووية، ومطار في حميميم تم تأهيله لاستقبال قاذفات استراتيجية.
سياسياً، يقول من يرون أن روسيا خاسرة نتيجة سقوط نظام الأسد، إن موسكو التي عولت على توسيع نفوذها أكثر فأكثر في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، انطلاقا من نفوذها في سوريا، وتوسيع نشاطها الاقتصادي والتجاري مع دول الإقليم عبر الأراضي السورية، قد خسرت هذا كله، بعد زوال النظام. ويشر هؤلاء إلى أن سقوط النظام بات بمثابة فشل ذريع، على مرأى الجميع للسياسة الروسية. ويوضحون أن روسيا كانت طيلة السنوات الماضية تقود، ومعها تركيا، الجهود الدبلوماسية للتوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية، وكان من شأن نجاح تلك الجهود أن تعزز وتوسع نفوذ وهيبة روسيا إقليمياً ودولياً، بينما سيأتي عدم نجاحها بنتائج عكسية تماماً.
أوكرانيا ترى أنها ساهمت في إسقاط نظام الأسد وتطلب مزيدا من الدعم الغربي
أوكرانيا كانت من أوائل الدول التي اعتبرت أن سقوط نظام الأسد هزيمة كبرى لروسيا، واعتبرت أنها هي (أوكرانيا) لعبت دوراً رئيسيا في إسقاطه. إذ اعتبر أندريه يرماك، مدير مكتب الرئيس الأوكراني، أن “المقاومة الأوكرانية”، وحرب روسيا ضد أوكرانيا، أضعفت بشكل حاد إمكانيات الكرملين العسكرية والدبلوماسية، وأدت في نهاية المطاف إلى اسقاط نظام الأسد.
وأضاف يرماك في مقال له نشرته “وول ستريت جورنال” أن “سقوط الأسد كان بمثابة ضربة قاسية لهيبة روسيا”، و “سيتعين على الحلفاء مثل إيران أو الزعماء المستبدين في جميع أنحاء العالم أن يعترفوا بأن بوتين غير قادر على حماية شركائه”. ويزيد المسؤول في الرئاسة الأوكرانية أن ” نفوذ روسيا في المنطقة آخذ في الضعف، خاصة في أفريقيا، حيث استفادت روسيا حتى الآن من وجودها في سوريا”، وبالتالي يرى يرماك أن “الحرب في أوكرانيا ليست مجرد صراع من أجل السيادة الوطنية، بل هي أيضا أداة استراتيجية لتعزيز المصالح العالمية للولايات المتحدة”، وعلى هذا الأساس يدعو الغرب لدعم بلاده، ويكرر أن “قضية الأسد مثال على كيف يمكن أن يكون للدعم الأوكراني تأثير حاسم على قضايا الأمن العالمي”.
بوتين يرفض اعتبار سقوط الأسد فشل لبلاده و”يغازل” الإدارة السورية الجديدة
مقابل وجهات النظر السابقة هناك من يعتبر أن سقوط الأسد لا يشكل خسارة لروسيا. وفي مقدمة هؤلاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي أكد خلال مؤتمره الصحفي السنوي نهاية العام الماضي، أن بلاده لم تُهزم في سوريا بل حققت أهدافها هناك، وقال: “ثمة من يحاول تصوير ما حدث في سوريا على أنه هزيمة لروسيا. أؤكد لكم أن الأمر ليس كذلك”. وأضاف: “لقد جئنا إلى سوريا قبل عشر سنوات لمنع إنشاء جيب إرهابي فيها، كما في أفغانستان. وبصورة عامة، حققنا هدفنا”.
وفي تصريحات اعتبرها البعض (غزلا)، والبعض الآخر إقرار ضمني منه بأن هيئة تحرير الشام لم تعد من وجهة نظره “منظمة إرهابية”، أضاف بوتين: “حتى تلك المجموعات التي قاتلت في وقت ما نظام الأسد، والقوات الحكومية، طرأت عليها أيضاً تغييرات داخلية. ليس من قبيل الصدفة أن العديد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة ترغب اليوم في إقامة علاقات معها. إذا كانوا منظمات إرهابية، لماذا تذهبون إلى هناك؟ لقد تغيروا إذن، أليس كذلك؟ وهذا يعني أنه إلى حد ما تم تحقيق الهدف”.
ويرى خبراء أنه من المبكر جداً الحديث عما إذا كانت روسيا قد خسرت أم لا نتيجة سقوط نظام الأسد. ويشير هؤلاء بداية إلى أن القواعد الروسية في سوريا لاتزال موجودة، وسيتم تحديد مصيرها بصورة نهائية من خلال محادثات مع السلطات السورية الجديدة، الأمر الذي يرجح أنه سيتم بعد المرحلة الانتقالية والانتخابات، وتشكيل حكومة تحظى باعتراف دولي، وتمتلك صلاحيات بإعادة النظر في الاتفاقيات الدولية المبرمة مع الدولة السورية.
وبخصوص تأثير سقوط النظام السوري على نفوذ روسيا وعلاقاتها مع دول المنطقة، يشير معارضو فكرة أن “روسيا خاسرة بسبب سقوط الأسد”، إلى أن العلاقات الروسية مع دول منطقة الشرق الأوسط، وإن كانت قد شهدت نشاطاً لافتاً على خلفية “الأزمة السورية”، إلا أنها علاقات قديمة، يجري العمل على تطويرها وتعزيزها في شتى المجالات، وفق رؤية تقوم على أسس الاحترام المتبادل وعدم التدخل بالشؤون الداخلية، والمنفعة المتبادلة. فضلا عن ذلك فإن مواقف روسيا إزاء الكثير من الملفات الإقليمية والدولية شبه متطابقة مع مواقف غالبية دول المنطقة، لاسيما فيما يخص القضية الفلسطينية. وعليه تبقى روسيا شريك مريح للدول العربية، التي تتراكم لديها خيبات أمل من السياسات الأميركية، ولم تعد مرتاحة للإملاءات الغربية بشكل عام.
مثال على ذلك، علاقات روسيا التي تطورت بشكل لافت مع عدد من الدول الأفريقية خلال السنوات الأخيرة، وتعزيز النفوذ الروسي هناك مقابل تراجع النفوذ الغربي. إذ أعلنت كل من مالي والنيجر وبوركينافاسو وتشاد، ومن السنغال وساحل العاج عن إنهاء الوجود العسكري الفرنسي على أراضيها. بالمقابل نشطت الاتصالات بين تلك الدول وروسيا، وجرت لقاءات على أعلى مستويات، وتم توقيع عدد كبير من اتفاقيات التعاون في شتى المجالات. كما نظمت روسيا أول قمة روسية أفريقية في سوتشي عام 2019، وشارك فيها رؤساء 43 دولة أفريقية. وعقدت القمة الثانية عام 2023 وشارك فيها قادة 53 دولة أفريقية، وفي خريف عام 2024 استضافت روسيا المؤتمر الوزاري الأولى لمنتدى الشراكة بين روسيا وأفريقيا. ونجاح هذه الفعاليات يؤكد على الاهتمام المشترك بتعزيز العمل المشترك بين روسيا والدول الافريقية بغض النظر عن اي اعتبارات أخرى.
هناك من يرى أن روسيا مستفيدة من سقوط الأسد
بين من يقول أن روسيا الخاسر الأكبر نتيجة سقوط الأسد، ومن يرى أنها ليست كذلك، كانت مثيرة للاهتمام وجهة نظر ثالثة، عبر عنها البعض خلال النقاشات بشأن مصير العلاقات بين موسكو ودمشق بعد سقوط الأسد. ومفاد وجهة النظر تلك أن “روسيا مستفيدة من سقوط النظام السوري”.
وفي دعم وجهة نظرهم يقول هؤلاء إن النظام السوري بات يشكل عبئاً لا يُطاق بالنسبة للكرملين، الذي سعى إلى دفع مسار التسوية السياسية “للأزمة السورية”، بغية التوصل إلى حل يرضي جميع الأطراف، تكون روسيا من رعاته الأساسيين، بما يضمن لها الحفاظ على علاقات جيدة من أي سلطة ستأتي نتجية ذلك الحل السياسي، ويساهم في استعادة الاستقرار، بصورة تساعد على الانتقال نحو جني روسيا النتائج الاقتصادية لدورها في سوريا.
ويضيف أصحاب وجهة النظر هذه أن الكرملين كان يعول على إنجاز التسوية السياسية في سوريا. ولتحقيق هذا الهدف، الذي كان من شأنه أن يعطي روسيا مكانة خاصة في المنطقة ويزيد من نفوذها وهيبتها على المستويين الإقليمي والدولي، قامت الدبلوماسية الروسية بالكثير من الخطوات، وانتظرت بعد كل خطوة أن يتحرك النظام السوري باتجاه تفعيل عملية التسوية، إلا أنه كان في كل مرة يقطع وعوداً، وفي التنفيذ كان يعرقل تحقيق أي تقدم، ويسبب الإحراج للدبلوماسيبة الروسية التي تضطر لتبرير سلوكه، حتى لا يفلت من بين أيديها كطرف حضوره مطلوب لاتمام عملية تسوية الأزمة.
ويبدو أن موسكو فقدت الأمل بأن تحقق هذا الهدف مع بقاء رأس النظام السوري، ورأت أن بقاء الأمور على تلك الحال لم يعد مناسباً لهذه المرحلة، التي تخوض فيها مواجهة استراتيجية مع الغرب، وبصورة رئيسية مع الولايات المتحدة، كما أنها لم تعد قادرة على تحمل أعباء الأزمة السورية، بعد أن تدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي في البلاد إلى مستويات غير مسبوقة، باتت تهدد بتفجر الوضع الداخلي في أي لحظة. وعليه يؤكد من يرون أن “روسيا مستفيدة من سقوط النظام السوري”، أن الخيار الأفضل بالنسبة للروس في ظل هذه التعقيدات كان برحيل الأسد.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا