اختبارات الشرع وسط عواصف إقليمية ومراقبة دولية

صهيب جوهر

بدت زيارة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، مع وفد درزي كبير، ولقاءه بقائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، خطوة جريئة، خصوصاً أن الإدارة الأميركية وعواصم أوروبية تتعامل معه في المرحلة الحالية وكأنها مرحلة اختبار للنوايا التي يضمرها الرجل. صحيح أن السلوك الغربي تجاهه يغلب عليه الطابع الإيجابي، لكن هناك عدداً من النقاط والمسائل التي لا تزال بحاجة إلى التحقق، قبل الشروع في علاقة دبلوماسية وشراكة سياسية ورفع العقوبات.

من المؤكد أن واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو تتعمد اتخاذ نهج وسلوك يؤكدان أنها ليست في خصومة مع الشرع. ومن هنا تحرص هذه الدول على التواصل معه والبدء ببناء علاقة مباشرة من خلال الوفود الدبلوماسية والاستخباراتية إلى دمشق، بعد مرحلة طويلة من الانقطاع وإعادة فتح بعض السفارات.

لكن، وعلى الرغم من هذا السلوك الإيجابي، هناك ما يشبه التريث في الإعلان عن اعتراف هذه الدول بسلطة الإدارة الجديدة، ومنح هيئة تحرير الشام سلطة ومشروعية دولية، في انتظار التأكد من تنفيذ وعودها بالمشاركة السياسية والانفتاح على المكونات والمجموعات، وتمكين المرأة، وإجراء انتخابات تنتج سلطة شرعية ودستوراً جديداً وجيشاً موحداً. وكان لافتاً تصريح أوساط أميركية بأن السياسة الأميركية تقوم على أن كل خطوة إيجابية يتخذها الشرع ستقابلها خطوة مماثلة من واشنطن وحلفائها.

بالمقابل، تبدأ مطالب واشنطن الرئيسية بالنظر في شكل السلطة التي ستتولى الحكم ومدى إشراك مختلف أطياف المجتمع السوري، بما يشمل الأكراد والأقليات الدينية، وتحديداً المسيحيين. وفي المقابل، هناك خطوات تحتاجها سوريا، مثل رفع العقوبات، وتحريك عجلة الاقتصاد، واستعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع الدول العربية أولاً ثم مع الدول الغربية.

من هنا، جاءت زيارة مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، بربرا ليف، إلى دمشق كخطوة أميركية متقدمة، ولكن حذرة. إذ تستعد ليف لمغادرة منصبها، ما يعني أن أي خطوة سورية ناقصة لاحقاً يمكن تحميلها المسؤولية عنها، وفي الوقت نفسه فإن أي تقدم إلى الأمام ستتولى إدارة ترامب متابعته عن كثب بالتعاون مع الأتراك والقطريين. والأهم هو عودة الحياة النقدية لدمشق بعد سرقة المدخرات والأموال من المصارف على يد الأسد وفريقه الحاكم وتهريبها إلى خارج الحدود.

تأتي هذه التحديات الكبرى بالتزامن مع الدعوة لعقد المؤتمر الوطني السوري، الذي يُناط به تحديد شكل المرحلة المقبلة. ويُعد هذا المؤتمر اليوم التحدي السياسي الداخلي الأهم، والذي تتابعه الإدارات والدول باهتمام. وهو اللبنة الرئيسية التي ستحدد إما التفاهم أو تفاقم التباينات الموجودة وتحولها إلى انقسامات خطيرة، خصوصاً في ظل رغبة أطراف إقليمية، على رأسها الإمارات، في شيطنة الإدارة الجديدة وتصويرها كتهديد للدول الوطنية العربية عبر اتهامها بالانتماء للإخوان أو الإسلاموية.

مع ذلك، تبقى المعضلة الوطنية السورية الأبرز في مسألة وجود تنظيم “قسد”، الذي يصطدم بعداء الفصائل السورية أولاً، ثم العداء التاريخي مع تركيا، باعتباره أحد أبرز أجنحة حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً. وهنا تظهر معضلة شكل النظام المستقبلي وما إذا كان سيتضمن الاعتراف بالإدارة الذاتية للأكراد، الذين يسيطرون اليوم على جزء كبير من الأراضي السورية، بما يشمل ثروات البلاد النفطية والتواجد العسكري الأميركي. ويُخشى لدى الإدارة السورية الجديدة أن تكون “قسد” وأخواتها أداة لبعض الأطراف الإقليمية لتقويض مكتسبات إسقاط حكم الأسد.

لكن الأساس الذي يجمع الشرع والأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة هو التفاهم الوثيق، المباشر وغير المباشر، حول ضرورة إبقاء إيران وروسيا خارج المعادلات السورية. ومن المتوقع أن يتم طرح مصير القاعدتين العسكريتين الروسيتين في سوريا على جدول البحث قريباً، لكن عقب الانتهاء من المرحلة الانتقالية.

لكن التصريحات المتتالية للقائد أحمد الشرع باتت تثير الإعجاب وتدفع لفهم طبيعة تحولات الرجل الأيديولوجية. غير أن العبارة الأبرز كانت قوله: “سوريا لن تكون أفغانستان ثانية”، وأن الثورة انتهت في سوريا، مما يعني أن البلاد لن تصدّر الثورة إلى الخارج. هذا الموقف قد يريح الدول العربية، وتحديداً السعودية والأردن، اللتين أوفدتا مسؤولين من الديوان الملكي وجهاز الاستخبارات للقاء الشرع، بالإضافة إلى الزيارة المرتقبة لوزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان مطلع العام المقبل. خاصة أن لدى الرياض هواجس تجاه تركيا، وحساسية مفرطة من بعض الدول العربية الأخرى، فضلاً عن خوفها الدائم من تداعيات انتصار ثورة شعبية، سواء كانت مسلحة أم مدنية.

ومع انتهاء الأشهر الثلاثة الانتقالية، سيجد الشرع وفريقه أنفسهم أمام تحدٍّ إسرائيلي، قد يتطور من المطالبة بضمانات أمنية إلى الدفع نحو إقامة علاقات مباشرة. وفي هذا السياق، استباحت حكومة نتنياهو الجولان والمناطق الحدودية وجبل الشيخ، ودمرت الأسلحة في لحظة سقوط الأسد. ولا شك أن هذه الخطوات الإسرائيلية تتجاوز المزاعم الأمنية المؤقتة، وتوحي بنوايا احتلال دائم خوفاً من نشوء جيش عربي مسلم يحيط بها ولا يخضع تماماً لإملاءاتها.

في هذا الإطار، أثار كلام وليد جنبلاط عن المخاطر الإسرائيلية الانتباه، لأنه يدرك أن لبنان يتأثر بشدة بأي مستجدات على الساحة السورية، فما بالك بانهيار كامل للنظام البعثي المتهالك. وهناك اعتقاد بأن سقوط حكم الأسد يشكل جزءاً من تأثير “أحجار الدومينو” في المنطقة، في إطار إنهاء الدور الإقليمي لإيران ورسم خارطة نفوذ جديدة واسعة النطاق.

أما عن جيران سوريا، فقد كان لافتاً أن رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني بادر، بخطوات وإن بدت خجولة، نحو التأقلم مع التطورات واستباق عودة ترامب إلى البيت الأبيض. إذ قام بتعيين شخصية موالية له بالكامل في رئاسة جهاز المخابرات العامة، بعد أن كان المنصب يُدار بالوكالة لسنوات من قبل شخصية محسوبة على الحرس الثوري الإيراني. واعتُبرت هذه الخطوة رسالة عراقية موجهة للولايات المتحدة، وبالتحديد لإدارة ترامب، مفادها أن السوداني سيمسك منفرداً بالملف الأمني والميداني في العراق. غير أن هذه الخطوة قد تعقد العلاقة العراقية مع إيران، التي لا تزال تحت وطأة صدمة الهزيمة في سوريا ولبنان.

أما إيران، التي كانت تراهن على تفجر النزاعات بين المجموعات التي استولت على الحكم في سوريا، لتتمكن من التسلل مجدداً وبناء خطوط اتصال سرية نحو الحدود اللبنانية، فقد أوعزت لمسؤولي الفصائل العسكرية العراقية الموالية لها باتخاذ الحذر الأمني لتجنب الاغتيالات، كما حدث في لبنان. وهذا يفسر الغياب الكامل لهؤلاء المسؤولين عن المشهدين السياسي والأمني.

الخوف العراقي، الذي ينعكس على حزب الله، يتفاقم مع مناقشة فريق ترامب مع إسرائيل احتمال توجيه ضربات للمنشآت النووية الإيرانية لمنع طهران من امتلاك أسلحة نووية. ويمكن تفسير تصريحات ترامب لمجلة “التايمز” الأميركية ضمن هذا السياق، عندما قال إنه لا يستبعد احتمال نشوب حرب مع إيران. يدرك ترامب أن إيران، المهزومة في لبنان والعراق وسوريا، قد تلجأ إلى تصرفات جنونية لإثبات وجودها، كما يظهر في استمرار الحوثيين بإطلاق الصواريخ على إسرائيل.

إنها مرحلة دقيقة، صعبة، وفارقة. ورغم أن الفصل النهائي لا يزال غير مرئي، فإن النتيجة الأهم هي أن المنطقة، والعالم، وسوريا، ولبنان من خلفها، أصبحت بطبيعة الحال أكثر أماناً مع سقوط الأسد، الذي كان يمثل أحد أبرز “شياطين العالم” التي رحلت غير مأسوف عليها.

 

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى