تبحثُ إيران عن حماية منظومتها الأمنية وحضورها العسكري في البقعة التي تشمل مثلث العراق وسوريا ولبنان. وفيما تحرص على تطوير أسلحتها الصاروخية والباليستية، وهو ما عملت على إبرازه في مناورات “الرسول الأعظم” الأسبوع الماضي إلى جانب تكثيف استعمال الـ”درون”، تسعى إلى تكريس تعاون أمني وعسكري مع الدول المذكورة الثلاث، وربط هذه الدول بشبكتها الخاصة تحت عناوين عدة تبدأ بالاقتصاد ولا تنتهي ببناء قيادة موحدة برئاستها تضم ما يسمى قوى محور “المقاومة والممانعة” مُمَثَلةً بحكومات هذا المحور وليس فقط بميليشيات الأمر الواقع التي تُشرِف عليها. وازدادت الحاجة الإيرانية إلى تسريع عملية “التعاون” هذه لأسباب ثلاثة:
الأول، حرصها على توسيع مناطق نفوذها وضمان مردود مُرْضٍ لاستثماراتها في التنظيمات المذهبية التي أنشأتها ودعمتها في البلدان العربية الثلاثة، بما يُقوّي نفوذها في السلطات القائمة وصولاً إلى إمساكها بمفاصل القرار الوطني في كل بلد .
الثاني، محاولة مواجهة الهجمات الإسرائيلية التي لم تتوقف، بل تزداد قوة، ضد المواقع الإيرانية في سوريا وصولاً إلى نواحي العراق. وخلال الأشهر الأخيرة ازدادت هذه الهجمات حدةً، في جنوب سوريا ووسطها وشرقها، وقتل خلالها ما يزيد على 60 عنصراً من الميليشيات الإيرانية، ولم تتمكن من تحقيق أي رد يذكر، في وقت يحرص فيه الشركاء الروس في الحرب السورية على مراعاة مصالح إسرائيل، ويجمعهم مع الأميركيين اتفاق تتمسك به إسرائيل يقضي بمنع الوجود الإيراني والتابع له في المنطقة الجنوبية المحاذية للجولان .
السبب الثالث، هو الوعد الذي ألزَمَ المرشد خامنئي والمسؤولون العاملون بإمرته أنفسهم به، ويقضي بالعمل على إزالة الوجود العسكري الأميركي من المنطقة بأكملها .
لقد تعهد هؤلاء جميعاً بطرد الأميركيين، وأوضح الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله أنه سيرسل الجنود الأميركيين بالتوابيت (جاءوا أفقياً ويعودون عمودياً) .
وانطلقت تلك التعهدات والتهديدات خصوصاً بعد مصرع الجنرال قاسم سليماني على طريق مطار بغداد مطلع العام الجاري، في غارة أميركية، قُتِلَ معه خلالها كبير مسؤولي الميليشيات العراقية التابعة لطهران. إلا أن حساب التنفيذ لم يأتِ متوازناً مع حجم التهديدات .
فبعد أن أفرغ إسقاط الطائرة المدنية الأوكرانية القصف الإيراني على قاعدة عراقية من قوة التأثير الدعائية، أوكلت طهران إلى ميليشياتها مهمة التحرش بالأميركيين في العراق، وإزعاج حكومة مصطفى الكاظمي الذي أعلن التزامه باستعادة سلطة الدولة وبناء علاقات إقليمية ودولية متوازنة .
وكانت الفصائل المرتبطة بإيران قد عارضت بشراسة تسمية الكاظمي لرئاسة الحكومة، وبعد تثبيته في منصبه شنت هجمات صاروخية ونظمت استعراضات مسلحة، وهدد مسؤول “كتائب حزب الله” أبو علي العسكري، الكاظمي إذا واصل عرقلة نشاطات جماعته ضد الأميركيين، وهو ما كرره زميله قيس الخزعلي زعيم “عصائب أهل الحق”.
نشطت الميليشيات الإيرانية في تنفيذ عمليات الترهيب والاغتيال، وأبرز المستهدفين كان الباحث هشام الهاشمي إلى جانب نخبة من الناشطين والأكاديميين، واختطفت مئات المتظاهرين ضد الفساد والهيمنة الإيرانية، وحاصرت المباني الحكومية ولا تزال بما فيها القصر الجمهوري.
وفي سوريا سعت الميليشيات إلى فرض نفوذها بأشكال مماثلة، وكانت عمليات الاغتيال جزءاً من أساليب السيطرة خصوصاً في المناطق الجنوبية، إلا أن أسباب صمود العراقيين الذي يدعمه وجود أشخاص مثل الكاظمي، إضافة إلى حضور الأميركيين والتحالف الدولي، تتماثل بطريقة ما مع أسباب عجز الإيرانيين عن حسم الأمر في سوريا. فالسوريون يرفضونهم، وظهر ذلك جلياً خلال تخريج دفعة من عسكريي اللواء الخامس المدعوم من الروس في درعا قبل أيّام، والحضور الروسي ليس جاهزاً لتوفير بيئة آمنة للنشاط الإيراني لأسباب جوهرية عدة .
لن تتخلى إيران الخامنئي عن هذا الجانب من العمل الميليشياوي في حرب النفوذ التي تخوضها على أرض المشرق العربي، وهدفها في المرحلة الراهنة السيطرة على القرار المشرقي العربي الرسمي. وهي بدأت بإلحاح بالعمل لبناء تحالفات عسكرية مع الحكومات المُثقَلة بضغط ميليشيات الخامنئي نفسه. وجوهر التحالفات المطروحة يقوم على التعاون العسكري، وعنوانه السائد مؤخراً التعاون في مجال الدفاع الجوي بما يتيح لإيران إمكانية الحضور والإرباك في حركة الطيران الأميركي وغيره في الأجواء الممتدة من شرق المتوسط إلى الخليج .
ففي مايو (أيار) من العام الماضي عرض رئيس الأركان الإيراني اللواء محمد باقري ربط شبكة الدفاع الجوي العراقية لبناء “حصن مشترك” في وجه “الأعداء المشتركين”، ووقّع قائد سلاح الطيران الإيراني أمير علي حاجي زادة مع نظيره العراقي مذكرة تفاهم وكرر أمامه أنه “إذا وقفنا جنباً إلى جنب فإن قوتنا ستكون عشرة أضعاف”.
وبعد عام وشهرين وقع باقري مع وزير الدفاع السوري علي عبدالله أيوب في يوليو (تموز) 2020 اتفاقاً لتوسيع التعاون لا سيما في مجال الدفاع الجوي، وبعد ذلك بأسبوع؛ 16 يوليو، أبلغ السفير الإيراني في بيروت رئيس الجمهورية ميشال عون قولاً مكرراً عن استعداد حكومته لتزويد لبنان بصواريخ مضادة للطائرات.
تؤكد هذه الحماسة الإيرانية لتعميم نشر صواريخ “خرداد” وغيرها مما تنتجه أو تطوره، استعجال طهران الإمساك بالأجواء السورية واستطراداً اللبنانية، للدفاع عن وجودها في سوريا ونفوذها في لبنان. إما سعيها إلى حضور مماثل في العراق فهدفه القوات الأميركية التي تعتمد في تنقلاتها على مروحيات تعرضت في الآونة الأخيرة للعديد من الهجمات على يد الميليشيات التي تكرر مطلب إيران بإخراج القوات الأميركية من بلاد الرافدين .
إن إخراج الولايات المتحدة من المنطقة هو الهدف كما قال باقري في منتصف يوليو الفائت وليس أفضل لتحقيق هذا الهدف من الإمساك بالأجواء بعدما جعل مسلحو إيران الشوارع والطرقات مكاناً خَطِراً.
إنه مشروع إيراني طموح أكثر مما تتحمله المنطقة والقوى الدولية، هذا إذا وضعنا جانباً رفض عرب البلدان الثلاثة له. لكن ذلك لا يمنع احتمال أن نصحو يوماً على انقلاب إيراني أحد عناوينه دمج الدفاع الجوي اللبناني السوري والعراقي بالشبكة الإيرانية وبقيادة جنرال إيراني ما!
المصدر: اندبندنت عربية