التجويع سلاح في يد الاستبداد

وفاء علوش

من منا لا يذكر العبارة الشهيرة المنسوبة إلى ماري أنطوانيت في أثناء أزمة الخبز في فرنسا التي تقول: “إذا لم يكن لديهم خبز، فليأكلوا الكعك”، سواء كانت هذه العبارة حقيقية أم لا، فقد أصبحت رمزًا للاستهتار بمعاناة الناس وأسهمت في إذكاء الغضب الشعبي الذي أدى في النهاية إلى الثورة الفرنسية وسقوط النظام الملكي.

منذ فترة ليست قصيرة تشهد أزمة الخبز في سوريا تفاقماً كبيراً بسبب عوامل عدة، أبرزها نقص المحروقات وارتفاع أسعارها، مما أدى إلى توقف العديد من الأفران عن العمل في دمشق وريفها. بالإضافة إلى ذلك، أسهم تدفق اللاجئين من لبنان في زيادة الطلب على الخبز، مما فاقم الأزمة، يضاف إلى ذلك الإجراءات الحكومية التي خفّضت مخصصات الخبز المدعوم لكل فرد، وسط غياب خطط واضحة لمعالجة المشكلة، مما أثار استياء واسعاً بين السكان.

اعتمدت حكومة النظام السوري دعم بعض السلع الأساسية والاستهلاكية مثل الخبز، الوقود (المازوت والبنزين)، السكر، والرز، عبر نظام البطاقة الذكية الذي يوزع هذه المواد بأسعار مدعومة وبكميات محدودة للمواطنين.

غير أن التصريحات المتواترة من حكومة النظام تنبئ عن وجود تغييرات جديدة قد يتأثر بها المواطن السوري في الداخل بشكل مباشر، فقد بدأت علامات التململ والتذمر بسبب ما صاغته الحكومة الرسمية بأنه صعوبات كبيرة في استمرار الدعم بسبب تدهور الاقتصاد، العقوبات الدولية، ونقص الموارد، وعدم توفر المواد المدعومة، فلجأت إلى تقليص الكميات المخصصة، ما دفع المواطنين إلى شراء هذه المواد بأسعار مرتفعة من السوق السوداء.

في الأسبوع الأخير صرحت الحكومة بوجود فارق كبير بين كلفة إنتاج الخبز المدعوم وسعر مبيعه للمواطنين. وقالت إن كلفة سعر ربطة الخبز تصل إلى 8400 ليرة سورية في حين تباع بـ400 ليرة فقط، وأوضح أن كلفة طن الطحين على المؤسسة السورية للحبوب بحدود 7 ملايين و300 ألف ليرة سورية ويقدم للمخابز بـ70 ألف ليرة سورية، بالإضافة إلى تحمل المؤسسة تكاليف كبيرة تقدم للمخابز مجانًا. وذيلت هذه التصريحات بأنه من الضروري التحول إلى الدعم النقدي لأنه سيخفف الفساد والخسائر والنقص.

تُدار طريقة الدعم التي تتبعها حكومة النظام السوري عن طريق البطاقة الذكية التي أطلقتها شركة “تكامل”. هذه البطاقة هي وسيلة إلكترونية تهدف إلى توزيع المواد المدعومة على المواطنين بطريقة تُحدد الكميات المخصصة لكل عائلة شهريًا، وهو ما يوجب على المواطنين التسجيل للحصول على البطاقة عبر مراكز حكومية أو عبر تطبيقات إلكترونية، ويربط البطاقة بمعلومات الأسرة وعدد أفرادها، لتحديد الكميات والأسعار.

لكن هذا النظام لا يؤمن للسوريين الذين يعانون ما يكفي من الأزمات حالة من الرضا، كما تُوجه انتقادات بسبب التلاعب والتأخير في التوزيع، ما يجبر المواطنين  على اللجوء إلى السوق السوداء بسبب قلة الكميات المدعومة، عدا عن الشكوك التي تحوم حول العدالة في التوزيع نتيجة للفساد وسوء الإدارة.

في ذلك تشير تقارير إلى أن حكومة النظام السوري تخطط لإجراء تغييرات في طريقة الدعم بسبب الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، وارتفاع تكاليف الدعم على الموازنة العامة بحسب تصريحات رسمية، هذه التغييرات تأتي ضمن محاولات تقليص النفقات بذريعة توجيه الدعم بشكل “أكثر كفاءة”، غير أن الأساليب المتبعة كلها لم تسهم إلا في زيادة الضغط على السوريين وتعزيز أزمتهم الغذائية، فقد استبعد مئات الآلاف من السوريين مؤخرًا من الدعم بحجة عدم استيفاء هذه المعايير، من دون النظر إلى وضعهم الاقتصادي الحقيقي ومدى حاجتهم للدعم الحكومي.

تتمحور دوافع هذه التغييرات حول أسباب مثل تدهور قيمة الليرة السورية وزيادة كلفة استيراد المواد الأساسية، في حين يكون السبب الرئيسي الفساد وسوء الإدارة ولأن الحكومة عاجزة عن إيجاد حل ولا تتجرأ على محاربة الفساد، يدفع المواطن السوري الثمن من قوت يومه، لأن تقليص الدعم سيؤدي إلى تفاقم الأوضاع المعيشية للسوريين، خاصة في ظل ارتفاع معدلات الفقر، واستبعاد شرائح واسعة من المواطنين ما يجعل التغيير الجديد غير عادل هو أيضاً بسبب معايير التقييم المثيرة للجدل.

يعيش المواطن السوري تحت ضغوط اقتصادية ومعيشية هائلة نتيجة للأوضاع الراهنة، وقد طوّر أساليب متعددة لتحمل هذه الظروف الصعبة، وإيجاد سبل حياة تؤمن له فرص النجاة، عن طريق التكيف مع الواقع وتقليص النفقات باستغنائه عن الكماليات وإعادة تدوير الأدوات القديمة، والتوجه إلى استخدام وسائل تدفئة بديلة كالحطب والمازوت المهرب.

في حين اعتمدت كثير من الأسر على المساعدات المقدمة من المنظمات الدولية والمحلية، والتحويلات الخارجية التي يرسلها المغتربون إلى ذويهم.

حاول السوريون التعايش مع الوضع الراهن بصبر لا نظير له غير أن طول مدة الأزمات المتتالية، فاقمت من سوء الأوضاع، وأصبح التعايش على أمل تغير الظروف محاطاً بواقع يائس لا يبدو فيه بصيص نور لتغيير الأوضاع.

الأسوأ أن المجتمع السوري يتعرض لهزات قوية ففي ظل انعدام الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء وغذاء، انحرف قسم من السوريين ودخلوا في مستنقع الإدمان وتناول المواد المخدرة التي وفرها النظام السوري وشركاؤه لتكون في المتناول وبأسعار زهيدة.

يبدو تحسين الوضع المعيشي في سوريا حلماً بعيداً للغاية، على الرغم من أن توفير حياة كريمة يعد الحق الأول من حقوق الإنسان لكن الخيارات تبدو محدودة ومعقدة، فأصبحت أكبر أحلام الشباب السوري الهروب من البلاد وتأمين تذكرة سفر إلى الخارج.

لقد استطاع النظام السوري تهجير السوريين الذي طالبوا بالتغيير السياسي واعتقالهم أو قتلهم، في حين طبق على القسم المتبقي منهم في سوريا سياسات أقل ما يمكن القول عنها أنها تدميرية سلبت من المواطنين رغبتهم في العيش، ولم يعد لهم أي أمل في الغد، وهو بذلك سلب منهم الحق في فكرة تغيير وضع البلاد لأن ذلك يبدو رفاهية كبيرة في وقت يبدو فيه تأمين مقومات العيش معركة ليس من الضرورة الفوز بها.

إن تحسين حياة السوريين يتطلب استقرارًا سياسيًا وأمنيًا كخطوة أولى، وهو أمر لا يبدو أن المجتمع الدولي يضعه في الأولوية الآن، في ظل التحركات الحاصلة في المنطقة ومحاولة تطبيق الخطط المرسومة التي لا تضع متطلبات السوريين ورغباتهم في الحسبان.

لطالما كان التجويع وسيلة لترهيب الشعوب أو قمعها أحد أشكال الحرب النفسية والجسدية التي استُخدمت عبر التاريخ لتحقيق أهداف سياسية أو عسكرية،  وهو يعتمد على الحرمان من الغذاء أو الموارد الأساسية لتحقيق الهيمنة والسيطرة.

وفي هذا فقد أبدع النظام السوري في استخدام أسلحته العسكرية والنفسية على السوريين فقد حاصر السوريين في حمص وفي الغوطة وأذاقهم من الجوع أصعبه ليجبرهم على التنازل عن مطالبهم السياسية ثم عمل على ترحيلهم من مدنهم وقراهم وجلب غرباء استوطنوا في بيوتهم، كما منع دخول المواد الغذائية أو المساعدات الإنسانية فارضاً بذلك حصاراً عسكرياً واقتصادياً.

لقد استخدم النظام السوري الحصار كوسيلة للضغط على السكان أو إجبارهم على الخضوع أو الهجرة، وها هو يعيد تطبيق التجويع بتدمير المحاصيل الزراعية وحرقها أو الاستيلاء عليها، مما يؤدي إلى تجويع السكان، والتلاعب بالأسواق لرفع أسعار المواد الغذائية بحيث تصبح غير متاحة للطبقات الفقيرة، ومتوفرة لطبقة من الأثرياء ظهرت من جراء الحرب في سوريا.

لا يمكن إخراج الأزمة الاقتصادية التي يعيشها السوريون اليوم من سياق الحالة السياسية العامة، فمسألة التجويع يستخدمها النظام الحاكم كعقاب جماعي على التمرد الذي حصل ضده، وهو بذلك يعمل على زرع الفوضى والاقتتال الداخلي بين السكان للحصول على الموارد المحدودة، ويعمل على بث الخوف من المستقبل بالتهديد بالتجويع، من خلال ترويج فكرة نقص الغذاء أو رفع الأسعار بشكل متعمد، وخلق حالة من الذعر تؤدي إلى احتكار الموارد وزيادة المعاناة.

يواجه السوريون تحديات اقتصادية حادة تشمل ارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود، مع وصول البطالة إلى مستويات قياسية وانخفاض القوة الشرائية. يعيش حوالي 90% من السكان تحت خط الفقر، ويعاني 80% منهم من انعدام الأمن الغذائي، بحسب تقارير أممية، وهو ما يهدد بمزيد من الانهيار في حال استمرار الضغوط الاقتصادية.

إن استخدام التجويع لترهيب الشعوب جريمة بموجب القانون الدولي الإنساني، إلا أنه لا يزال يُمارس ويطبق في سوريا وغيرها من دول العالم بطرق مباشرة وغير مباشرة لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى