أكراد الإقليم أمام مصيدة “المحبّة” الإسرائيليّة! (2/2)

سمير صالحة

عادي أن تكون الأذهان مشوّشة خارج تركيا أيضاً بسبب ما يقوم به دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية وحليف رجب طيب إردوغان السياسي، وهو يدعو لفتح أبواب البرلمان أمام عبد الله أوجلان مؤسّس حزب العمال الكردستاني والمسجون في جزيرة إيمرالي مدى الحياة بسبب تشكيله تنظيماً إرهابياً تسبّب بقتل عشرات الآلاف.

لماذا يغامر على هذا النحو؟ وهل يحتاج إلى فرصة سياسية من هذا النوع قد تكون كلفة ارتداداتها في غاية الصعوبة على الحركة القومية التي تعاني أساساً من تراجع شعبيّتها؟

كان الرئيس التركي الأسبق عبد الله غل في طليعة من دعا إلى تسريع التعامل مع الملفّ الكردي وإيجاد صيغة حلّ سياسي ينهي “هذه المسألة الداخلية التي تعنينا نحن، كي لا يفرض البعض الحلّ علينا من الخارج”. الأرجح أنّ ما يقلق زعيم حزب الحركة القومية اليميني دولت بهشلي الذي يبادر لتحريك ورقة عبدالله أوجلان هذه المرّة، هي المتغيّرات الإقليمية وحديث إسرائيل مجدّداً عن الشرق الأوسط الجديد بصيغة معدّلة لمشروع شيمون بيريز وفي ضوء ما يجري في المنطقة.

دعوة مثيرة للجدل

لكنّ أصواتاً كثيرة في الداخل التركي تتساءل عن الفائدة من وقوف دولت بهشلي أمام كتلة “ديم”، حزب المساواة وديمقراطية الشعوب، والدعوة إلى إلقاء السلاح وحلّ مجموعات “حزب العمال الكردستاني” والتخلّي عن شعارات ومطالب الحكم الذاتي أو الكيان الانفصالي. أوجلان فعل أكثر من ذلك أمام القضاء التركي قبل أكثر من عقدين من دون أن يؤخذ على محمل الجدّ.

لماذا يتمّ إخراجه من سجنه ولعب ورقته على هذا النحو؟ للقيام بعملية عسكرية برّية واسعة في شمال سوريا ضدّ “قسد” تجهّز على نار حامية وقد تبدأ في أيّ لحظة؟ أم للذهاب إلى طاولة حوار إقليمي يعدّ لها بعض الوسطاء مثلاً، على طريق الحلحلة في الملفّ السوري، ويجعل من “قسد” بعد إعلانها القطيعة مع كوادر حزب العمّال، طرفاً مفاوضاً على الطاولة، وهو السيناريو الأقرب الذي قد تطرحه إدارة دونالد ترامب؟

ما قاله وزير خارجية إسرائيل الجديد جدعون ساعر في أوّل حديث له بعد تولّيه منصبه، يدعم السيناريو بهذا الاتّجاه

رسالة بهشلي إلى الحلفاء والخصوم

هناك أكثر من قراءة وتحليل حول الشقّ الإقليمي في طروحات بهشلي والرسالة التي أراد توجيهها للحلفاء والخصوم في المنطقة. هناك من يرى أنّه من خلال هذه المناورة السياسية يكون قد أعطى الدولة العميقة ومؤسّساتها وأجهزتها في تركيا ما تريد، في إطار عملية تموضع جديدة مع الملفّ الكردي بشقّه الخارجي، وفي ضوء التحوّلات الإقليمية الحاصلة بعد تشرين الأول من العام المنصرم، وخطط إسرائيل المدعومة أميركياً باتّجاه محاولة فرض خرائط سياسية وأمنيّة واقتصادية على المنطقة، تحت مظلّة شرق أوسط جديد، تريد تل أبيب أن يتصدّر اللاعب الكردي الدور البارز فيه.

ما قاله وزير خارجية إسرائيل الجديد جدعون ساعر في أوّل حديث له بعد تولّيه منصبه، يدعم السيناريو بهذا الاتّجاه. ردّد أنّ إسرائيل تمتّعت منذ قيامها بعلاقات إيجابية مع الأكراد، “هذا الشعب العظيم، وإحدى أكبر الأمم التي لا تتمتّع باستقلال سياسي… فهناك مصالح مشتركة بين اليهود والأكراد في المنطقة باعتبارهما أقلّيّتيْن غالباً ما تواجهان الاضطهاد على أيدي الأعداء أنفسهم”. وتابع ساعر: الأكراد في سوريا أيضاً يعرفون أنّ إسرائيل دولة يمكنهم أن يتطلّعوا إليها، “فالأعداء استخدموا العلاقات الوثيقة بين إسرائيل والأكراد لمحاربة استقلال هذا الحليف الطبيعي”.

التّطبيع مع سوريا

صحيح أنّ أنقرة تتطلّع من خلال حملة التطبيع مع النظام في دمشق إلى حسم موضوع “قسد” ومشروعها السياسي في شرق الفرات، لكنّ الهدف الآخر هو قطع الطريق على المخطّط الإسرائيلي للتمدّد السياسي نحو شمال شرق سوريا ولعب الورقة الكردية ضدّ تركيا ودول المنطقة.

ربّما مواقف إسرائيلية من هذا النوع هي بين الأسباب التي تدفع بهشلي لتجاوز مسألة الأشخاص والأسماء في الملفّ الكردي، لكنّها هي أيضاً التي تحرّك النقاش باتّجاه رصد ومتابعة المخاطر والتهديدات الإقليمية المحيطة بتركيا، ورغبة بهشلي في سحب الورقة الكردية من يد بعض العواصم الغربية التي تحرّكها بين الحين والآخر ضدّ أنقرة.

حرّك العدوان الإسرائيلي الإقليمي الأخير على قطاع غزة ولبنان والأراضي السورية أكثر من ملفّ سياسي وأمنيّ وجغرافي

قد تكون عودة دونالد ترامب من جديد إلى البيت الأبيض فرصة تركية – أميركية لإنهاء ما بدآه قبل 4 سنوات في التعامل مع الملفّ السوري وشقّه الكردي في شرق الفرات. وقد تتحوّل إلى فرصة لدفع أكراد المنطقة نحو عمليّة خلط أوراق فيما بينهم لمناقشة الفرص والاحتمالات. حديث إردوغان عن “انسحاب تكتيكي” أميركي من المنطقة يتناسب مع ما تنتظره أنقرة لمواصلة ربط حلقات المنطقة الآمنة في شمال سوريا وإزاحة خطر الإرهاب عن حدودها. فهل يعطيها ترامب ما تريد؟

استهداف الخطط التّركيّة

يقول إردوغان: “نعمل على تعزيز جبهتنا الداخلية مع اقتراب كتلة النار التي أشعلتها إسرائيل في غزة ولبنان من حدودنا”. هناك شبه إجماع على أنّ حليفه بهشلي يضع التطوّرات الإقليمية بشقّها السياسي والأمنيّ والاقتصادي في صدارة تحرّكه الأخير. حماية مشروع التنمية العراقي، الذي تشكّل تركيا أحد أكبر روافده في مواجهة الخطّ الهندي الذي تدعمه تل أبيب، مسألة لا يمكن فصلها عن كلّ هذه التطوّرات، حيث التحقت طهران باستهداف الخطط التركية فيها.

تقول الإعلامية التركية والباحثة في مركز بروكلنز الأميركي أصلي أيدن طاش باش إنّ أنقرة بدأت تتأقلم مع نقاشات عن منطقة كردية خالية من عناصر حزب العمّال الكردستاني في شرق الفرات. ويقول الإعلامي التركي عبدالله قره كوش كلاماً مغايراً يفيد أنّ أنقرة تحاول إقناع النظام في دمشق من خلال التفاهم معه بمكاسب استراتيجية تنتظرهما من خطّ التنمية العراقي الذي قد يمرّ في الأراضي السورية.

واضح تماماً أنّ إردوغان وفريق عمله يستعدّون لمرحلة ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، ومن الذي ستفاوضه أو لن تفاوضه أنقرة حول العديد من الملفّات الخلافية التي يتقدّمها المشهد السوري وتضارب المصالح والسياسات هناك. تحاور أنقرة الجانب الأميركي المتمسّك بحالة كردية مشابهة للوضع القائم في العراق لإقناعه بخطورة سيناريو من هذا النوع على أمنها واستقرارها.

كان العراق أوّل من دفع ثمن الدخول في ساحة اختبار حقيقي في الملفّ الكردي بعد عام 2003، وبقرار أميركي يرسم معالم خارطة البلاد

لكنّها قلقة أيضاً على الجبهة الروسية حيث تبحث موسكو عن فرص الوجود إلى طاولة حوار تركي – أميركي تتعلّق بشرق الفرات. لا بل إنّ الجانب الروسي قد يكون جاهزاً للتفاهم المباشر مع واشنطن حول موضوع “قسد” ومستقبل المشروع الكردي على الحدود الجنوبية لتركيا إذا ما وجد أنّ الصفقة ستكون أكثر جدوى. وهناك أسباب إضافية تقلق أنقرة وتدفع بهشلي لعدم التريّث والانتظار.

للملفّ الكرديّ حصّته

حرّك العدوان الإسرائيلي الإقليمي الأخير على قطاع غزة ولبنان والأراضي السورية أكثر من ملفّ سياسي وأمنيّ وجغرافي. وستكون للملفّ الكردي الدائم السخونة حصّته الكبيرة ما دام متداخلاً ومتشابكاً ويعني بشكل مباشر 4 دول في الإقليم مرّة واحدة، ولأنّ القيادات الإسرائيلية تريد بضوء أخضر أميركي إنزاله عن الرفّ ورفع الغبار التاريخي المتراكم فوقه في إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد، بما قد يحمله من متغيّرات حدودية ودستورية وعرقية ومذهبية.

عاديّ جداً أن يكشف بهشلي عن المزيد من المفاجآت وأن تتكثّف الاتّصالات والزيارات وإعلان المواقف التركية في مواجهة أهداف المخطّط الإسرائيلي بشقّه الكردي الذي قد يستقوي بعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض من جديد.

قال إردوغان قبل أيام: “سنُفسد لعبة الإمبريالية التي تحاول المساس بخارطة الطريق التركيّة. فالنظام العالمي يشهد أكبر عملية تغيير تحدث منذ سنوات الحرب الباردة. نحن أمام محاولة رسم الحدود من جديد بالدم والقنابل والاغتيالات السياسية”. لكنّه تابع: “سنواصل استكمال حلقات بناء منطقة آمنة عازلة فاصلة في شمال سوريا تبعد الحدود التركية عن الإرهاب”.

كان الرئيس التركي الأسبق عبدالله غل في طليعة من دعا إلى تسريع التعامل مع الملفّ الكردي وإيجاد صيغة حلّ سياسي

كان العراق أوّل من دفع ثمن الدخول في ساحة اختبار حقيقي في الملفّ الكردي بعد عام 2003، وبقرار أميركي يرسم معالم خارطة البلاد السياسية والعرقية والجغرافية الجديدة، في نظام فدرالي يسهّل ولادة إقليم كردستان. أين ستكون الخطوة الثانية؟ وما الذي ستحمله من ارتدادات تُقلق البعض وتُفرح البعض الآخر في المنطقة، بعد الانفجار الأمنيّ والعسكري الواسع على أكثر من جبهة تريد إسرائيل إلحاقها بمخطّطها وعدم التفريط باستغلال فرصة سانحة قد لا تعوّض؟

من يختار لنفسه عالماً بوهيمياً حيث يكثر الوهم والخيال وينسى أنّه يعيش في قلب منطقة الشرق الأوسط، يدفع باهظاً ثمن السقوط في مصيدة عدم التعلّم من دروس التاريخ والجغرافيا وعالم الخدع السياسية، وهو ما يحذّر دولت بهشلي منه.

 

المصدر: أساس ميديا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى