بعد نحو أقل من شهر على توقيع اتفاق موسكو في أذار (مارس) 2020 القاضي بوقف النار في إدلب، أطلق الباحث الفرنسي المتخصص بالجيوبولتيك فرانس بالونش رؤية متشائمة للغاية عن إدلب، وحذر في تحليل نشر بمعهد واشنطن تحت عنوان «إدلب قد تصبح قطاع غزة الجديد» عازيا الأمر لعدة أسباب أوردها كالتالي: «يتجمّع حالياً ثلثا سكان إدلب في شريطٍ على الحدود التركية مساحته 1.000 كلم2 ويبلغ عددهم مليونَي نسمة، أو أكثر بأربعة أضعاف ما كان في هذه المنطقة الحدودية أصلاً. فقد استقر في تلك المنطقة مئات الآلاف من النازحين منذ عام 2012 ومعظمهم احتشدوا في مخيمات مؤقتة منتشرة على الأرض، لا سيما بعد امتلاء مخيمات النازحين النظامية. وحتى المساكن في بلدات الشريط الصغيرة مليئة بالسكان وتوفر ظروفاً أسوأ من تلك القائمة في المخيمات. إن واقع كَوْن هذه المنطقة المكتظة بالسكان ترزح الآن بالكامل تحت سيطرة الجماعات المصنفة كإرهابية، تجعل المقارنات مع غزة لا مفر منها».
أثار توصيف بالونش ذلك ردود فعل غاضبة، لكنه فتح الباب أمام عدد كبير من الباحثين الغربيين والعرب والسوريين المتخصصين بالشأن السوري إلى التسليم بالمستقبل المظلم لإدلب، انعكس تدريجيا بتراجع الاهتمام بالجيب الذي تسيطر عليه جماعة مصنفة «إرهابية» حتى من تركيا المجاورة.
علاوة على ذلك، ذكر بالونش بالمساحة المتراجعة لسيطرة المعارضة وأعداد السكان، حيث انحسرت السيطرة إلى 3000 كلم2 عام 2020 في حين كانت مساحة إدلب الكبرى (منطقة خفض التصعيد الرابعة) 9000 كلم2 عام 2017 تراجعت إلى 7000 كلم2 عام 2019 بعد الهجوم الكبير على ريف حماة الشمالي، مخلفا خسارة اللطامنة وخان شيخون وقلعة المضيق.
ولم يتوقف الباحث عن التذكير برغبة الأسد وحلفائه على القضاء على «جهادستان» كما يصف إدلب، وهو الذي كان سباقا في وصف ما حصل في سوريا بحرب طائفية، معززا الأمر بعشرات الخرائط الخاصة بتغيير النفوذ والسيطرة.
يأتي التذكير بمصير إدلب تزامنا مع الإبادة الجماعية التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد البشر والحجر في غزة، دون تمييز أو مراعاة بين مقاتل أو طفل. فإدلب التي جرى شطينتها وصبغها بالسواد خلال أكثر من 10 سنوات، يخشى أهلها والسوريون أن تلقى المصير الذي تلاقيه غزة، خصوصا، وأن الأسد لم يتوان عن استخدام كل صنوف الأسلحة بما فيها السلاح الكيميائي عشرات المرات، وثقت اللجان الدولية بعضها.
على الصعيد الإنساني، أشارت إحصائيات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية «أوتشا» الأسبوعية إلى تصاعد الأعمال العدائية في شمال غرب سوريا منذ 14 تشرين الأول (اكتوبر). حيث قُتل ما لا يقل عن 12 مدنيا وأُصيب أكثر من 40 آخرين خلال ثلاثة أيام، مع نزوح حوالي 1.951 عائلة.
وأشار أوتشا، في تقريره الأسبوعي الصادر في 24 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، منذ بداية عام 2024 وحتى 18 تشرين الأول (أكتوبر) قُتل ما لا يقل عن 46 مدنيًا، من بينهم 12 طفلا، وأُصيب 180 آخرون، من بينهم 67 طفلا، نتيجة الأعمال العدائية.
ودقت الأمم المتحدة ناقوس الخطر كونها تعاني من نقص حاد في التمويل. ومع تبقي أقل من ثلاثة أشهر على نهاية العام، لم يتم تمويل خطة الاستجابة الإنسانية لسوريا إلا بأقل من الثلث.
ولفت المكتب إلى أن خطة الاستجابة الشتوية التي تهدف إلى جمع 111.6 مليون دولار أمريكي لمساعدة 1.4 مليون شخص على مواجهة المطر والثلج ودرجات الحرارة المتجمدة، حصلت حتى الآن على أكثر بقليل من 10 في المئة من التمويل المطلوب.
وجدير بالذكر، أن 3.6 ملايين نازح يعانون من انعدام أمن الغذاء، وأن مليونين منهم يعيشون في المخيمات، وأن عدد الأطفال المتسربين من المدارس في شمال غرب سوريا يزيد عن مليون طفل.
ويضاف إلى تلك الأعداد، نحو 4000 شخص فروا من الحرب التي تشنها إسرائيل ضد حزب الله في لبنان، استقروا في شمال غرب سوريا وحدها، ووفقًا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أكثر من 80 في المئة منهم نساء وأطفال، يضاف هؤلاء إلى أعداد المحتاجين إنسانيا.
وحول التحديثات الإنسانية في آخر يومين، قال مدير منظمة منسقي استجابة سوريا الإنسانية، محمد حلاج لـ «القدس العربي» إن مناطق النزوح «ريف حلب الغربي وريف إدلب الشرقي والجنوبي ضمن أكثر من 37 قرية وبلدة» مضيفا أن «التقييم الأولي لأعداد النازحين من المنطقة خلال 48 ساعة، تجاوز 1843 نازحا يشكل الأطفال والنساء نسبة 81 في المئة منهم».
ومع انخفاض درجات الحرارة في شمال سوريا، سجلت مخيمات النازحين تزايدا ملحوظا في عدد الحرائق، وقال «منسقو استجابة سوريا» أنه سجل «أكثر من 14 حريقا نتيجة عوامل مختلفة، ما يرفع عدد الحرائق ضمن المخيمات منذ مطلع العام الحالي إلى 184 حريقاً، مسببة احتراق أكثر من241 خيمة ومسكن للنازحين» ناهيك عن الإصابات والوفيات من النازحين المقيمين في تلك المخيمات.
من الناحية السياسية، تدرك أنقرة المتغيرات الكبرى في المنطقة وهذا ما دفعها إلى محاولة حلحلة بعض القضايا الداخلية ومنها القضية الكردية المتمثلة بعقدة حزب العمال الكردستاني المصنف على لائحة الإرهاب الوطنية منذ إعلانه «الكفاح المسلح» عام 1984. حيث أرسلت رسائل واضحة على لسان زعيم الحركة القومية دولت بهجلي خلال جلسات البرلمان التركي، والسماح لعائلة عبد الله اوجلان بزيارته للمرة الأولى بعد وقف الزيارة المخصصة له قبل أربع سنوات.
على صعيد آخر، تجنب وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف في حديثه مع صحيفة «حرييت» التركية الجمعة، الاشارة إلى مخاوف متعلقة بالتحرك الميداني، واقتصر حديثه في الشأن السوري على توقف عملية التفاوض بين النظام وتركيا بسبب اصرار الأول على ضرورة «توضيح مسألة انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية» فيما تشدد أنقرة على وحدة أراضي سوريا وتأجيل سحب القوات إلى مرحلة ما بعد لقاء الأسد واردوغان.
في الميدان، رفعت فصائل الجبهة الوطنية للتحرير المدعومة من أنقرة الجاهزية العسكرية وبدأت الفصائل عمليات التدشيم والتحصين الهندسي الإضافي على محاور الجبهة مع قوات النظام السوري وحلفائه.
وعلمت «القدس العربي» من مصادر عسكرية معارضة في إدلب، أن كل الفصائل دخلت في مرحلة الاستعداد للعملية العسكرية المرتقبة، لكن من غير الواضح إذا كانت المعركة حتمية أو لا. ويشير أحد المصدرين إلى أن أنقرة لا تفضل ان تقوم هيئة تحرير الشام بعمل عسكري بدون مشاركة جميع الفصائل، دون أن يعلق على موافقة أنقرة على المعركة، الا انه اكد أن «العمل سيكون محدودا».
وفي تحديات هجوم فصائل المعارضة، قال أحد قادة الفصائل في «الجبهة الوطنية للتحرير» إن أبرز تحديات المعركة هي «تثبيت خطوط جبهة جديدة» في عمق أراضي سيطرة النظام -خصوصا- في ظل مشاركة أكيدة للطيران الروسي.
وحول الهجوم، استبعد العقيد الركن خالد المطلق، الخبير العسكري والأمني الحديث عن معركة في مناطق سيطرة الفصائل بإدلب واصفا ما يجري بانه تضخيم إعلامي وقرار المعركة غير متوفر بسبب طبيعة العلاقة الجيدة بين روسيا وتركيا، وزاد في حديث مع «القدس العربي» أن الطيران الروسي هو عقبة الهجوم الرئيسية التي ليس لها حل من جهة الفصائل.
اللافت هو إرسال تركيا تعزيزات عسكرية إلى نقاط المراقبة والانتشار لقواتها داخل إدلب، وبطبيعة الحال هذا يشير إلى تصعيد قادم، على غرار ما حصل سابقا منذ الاتفاق بين الدول الضامنة الثلاث على نشر نقاط مراقبة خفض التصعيد.
فكل مرة تشهد الأرض تحشيدات عسكرية من الأطراف، تنتهي بخسارة مناطق جديدة لمصلحة قوات النظام. ومن غير المستبعد في هذا السياق أن تتم مقايضة في الجغرافية بين روسيا وتركيا، تحقق مكسبا لأنقرة من جهة والنظام وحلفائه من جهة أخرى. وقد أعطى وزير الدفاع مؤشرات احتمال شن عملية ضد الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني.
بالتأكيد، فإن موسكو ستدعم أي هجوم عسكري في مناطق نفوذ «التحالف الدولي» شرق نهر الفرات، أو يضر بـ«قوات سوريا الديمقراطية» ويضعف نفوذها، كحال الهجوم التركي على عفرين عام 2018 لكن، في الوقت نفسه، من غير المتوقع ان يجري اتفاق على تبادل مناطق السيطرة في تل رفعت أو الشهباء التي تتمركز بها «قسد».
ما تقدم يدعم فرضية تطبيق أنقرة لالتزاماتها باتفاق موسكو لعام 2020 القاضية بفتح طريق حلب ـ اللاذقية /M4 وإنشاء ممر أمني بعمق 6كم على جانبي الطريق، بمعنى آخر تسليم تلك المناطق للنظام مقابل فتح ممر أمني يصل بين منطقتي العمليات التركية في «درع الفرات» و«نبع السلام» يساعد بتدفق النازحين من إدلب إلى ريفي الرقة وحلب عبر عين العرب/ كوباني. قد يرى الكثير أنه سيناريو متخيل ولا يمت للواقع بصلة، لكن من خبر تبدلات الديموغرافية السورية والمقايضات بين الأطراف منذ صفقة تسليم حلب وما تلاها يدرك أن لا مستحيل عندما تتلاقى رغبات الدول والنظام السوري.
المصدر: القدس العربي