إن أهم ما ميز الثورة السورية التي انطلقت في ربيع 2011، ليس أنها تحدّت أعتى نظام لصوصي بلطجي في المنطقة وربما في العالم، بل أنها أعطت إحساساً ومعنى لحياة السوريين عندما قرروا النزول للشوارع والمطالبة برحيل النظام، والحلم بحياة حرة وكريمة، إحساس يتجلى في أنهم لم يعودوا خاضعين فقط، ومادة لعبث النظام وزبانيته، بل صانعين لمستقبلهم، لتاريخهم الذين حلموا به، هذا الحلم دفع بمئات الألوف وربما الملايين للنزول إلى الشوارع في لحظة توحد وتشارك بالحاضر والحلم بالمستقبل (الشعب السوري واحد)، لكن سرعان ما أجبرهم ردّ النظام المرعب في عنفه (القتل بكل الوسائل) على خيارات أخرى، وغير مسار الثورة نحو مسارات مختلفة عما حلموا به.
استمرت الثورة السورية بمسارها السلمي، حتى أن الثوار في كثير من المناطق حاولوا استمالة قلوب الجنود السوريين من خلال تقديم الورود والمياه تعبيراً عن أن موقف الثوار ليس ضدهم، وإنما ضد نظام القتل الأسدي، لكن درجة الرعب بين الجنود نتيجة المراقبة المكثفة والمصير المرعب لمن يخرج عن الطاعة لم يترك لهم سوى الخيارات الفردية بالهروب من وحدات القتل تلك، بمعنى بقي الجيش والمخابرات وحدة متماسكة إلى حد كبير بيد النظام ومواجهة الثائرين. كانت هذه المواجهة تتصاعد يومياً باستخدام كل الأدوات والإمكانيات المتاحة لدى النظام، إلى أن أصبحت حرباً حقيقية تجاه الثائرين ومناطقهم وجمهورهم، حرباً يمكن أن نطلق عليها حرباً إبادية كونها تستهدف عمداً جمهوراً ليس كأفراد فقط، ومناطق جغرافية، وإنما كجماعات بغاية خلق “سوريا المتجانسة/ المفيدة” التي عبر عنها صراحة رأس النظام وأركانه أكثر من مرة.
صوّر النظام حربه الإبادية ضد السوريين وخاصة لقاعدته من الطائفة بأن حربه هذه حرب وجودية، لا مجال فيها للتفاوض أو التنازل، مؤججاً نيران الطائفية أكثر وجاعلاً منها وباء ينتشر في عموم البلاد، ومصنفاً الآخرين كعدو، لا مجال للتفاهم والعيش معه إلا إذا رضخ بالكامل أو “تبخر”، بالمعنى الأورويلي للتبخير، أي الخلاص النهائي منه. لاقت هذه الطائفية الممزوجة بأدوات القتل أصداء لدى التيارات الجهادية التي اقتحمت ساحة الثورة بتشجيع وتمويل من بعض الدول ذات الحسابات الخاصة في النظر إلى سوريا، التي سرعان ما انتشرت بخطاب شعبوي يدعي احتكار الحق في الدفاع عن قضايا السوريين، تحول في النهاية إلى خطاب طائفي أيضاً، الأمر الذي أضعف من قوة السوريين وحقهم المشروع، وأدخلهم في ساحة الصراعات المقيتة القائمة على الخندقة، هذه الخندقة الطائفية ربما شكلت أحد عوامل العطب والعزلة.
اتخذت الاستجابة على هذه الحرب التي أعلنها النظام طريقين، الأول تحوّل قسم من الثوار نحو العمل العسكري (وهو فعل طبيعي ومحق)، وقرر قسم آخر التفكير في خيارات وبدائل أخرى لمواجهة نظام لم يعرفوا ولم يسمعوا عن مثيل له يواجه متظاهرين سلميين بمختلف صنوف القتل بكل الوسائل، فكانت تلك لحظات فارقة بين جمهور الثورة، سرعان ما تعمقت واتخذت أشكالاً متباعدة بين عسكري وسياسي، حيث استغلت الدول الداعمة للثورة من خلال مجموعة “أصدقاء” سوريا، تلك الحظة المهمة والفارقة، خالقة من الفصائل العسكرية التي تكاثرت بشكل عشوائي وكلاء لها، مستغلة غياب الغطاء السياسي السوري، مما حولها لاحقاً إلى أدوات حرب بالوكالة تخضع لحسابات الدول لا مصالح السوريين، أولى آثارها إيقاع السوريين في شرك يصعب الخروج منه.
وعلى الجانب الآخر، المدني والسياسي، لم يكن بعيداً عما حلّ بالجانب العسكري، حيث قاوم في البدايات، عندما كانت جذوة الثورة متوقدة، ضغوط الدول، لكنه خضع في النهاية أيضاً، هذا الخضوع الذي دفع بكثير من “الوجوه” إلى مغادرة المركب والبحث عن حل شخصي، وهنا كانت بداية المأساة على المستوى السياسي المعارض: التخلي عن الهم الجماعي والآمال بالتغيير والبحث عن حلول شخصية كتحسين ظروف الحياة الشخصية والعائلية، والبحث عن وسائل لتحقيقها، سواء من خلال الهجرة والانزواء في بلاد الشتات، أو الاكتفاء بممارسة التوجيه عن بعد سواء من خلال الإعلام أو الصحافة والمنظمات “المدنية” التي تحولت فيما بعد إلى “بزنس” خفيف لدى البعض لتأمين الحدود الدنيا من سبل العيش.
نتيجة للوقوع في فخ المصالح الدولية، وطول الزمن بما يحمله من مفاعيل تآكل الجسد والروح، غدا السوريون في مواجهة حالة من الإحباط والارتباك والحيرة، فكان خيارات الهجرة من أماكن النزوح إلى أماكن تخيلوها أكثر أماناً، نتيجة لما شهدوه من اضطهادات عديدة، لكن لسوء الحظ، لم يجدوا ذلك الأمان، وعلى الأقل كما تخيلوه، فتحطم كثير من الآمال التي يطمحون إليها، إذ بقيت في أفضل الأحوال صعبة التحقيق بالنسبة لكثير من السوريين، ناهيك عن الخلخلة في الحياة الاجتماعية لكثير منهم، التي تتجلى في تزايد حالات الطلاق وانتشار تعاطي المخدرات بين الشباب.
وفي حال سوريا اليوم، خاصة بعد تهجير نصف السكان، وبؤس المعيشة التي يعانيها عموم السوريين، واضطرار الملايين على ركوب البحار والطرق الموحشة سعياً نحو الأمان، الذي لم يجدوه كما كانوا يحلمون، حيث يواجهون وحدهم في الليالي الأرق والأشباح، كما كوابيس مداهمة المخابرات كزوار دائمين، ناهيك عن محاولات التكيف الإجبارية مع مكان ولغة جديدين وواقع سياسي مغاير، نتاج لذهنية مختلفة، غدا قسم من السوريين يعيشون في أزمة وجودية جديدة نتيجة استمرار المأساة السورية بطرق مختلفة، حيث الماضي بما يحمله من أحلام وخيبات، بينما وجد آخرون طرقاً مختلفة للتكيّف أو التصالح مع ما يبدو في الوقت الراهن أنه “هزيمة” أو “فشل” للثورة من حيث عدم إنجازها للهدف/ الحلم.
من الضروري مراجعة ما حدث خلال الأعوام الثلاثة عشر الماضية كما حدثت، وليس كما “لو حدثت”، ومناقشة التداعيات، سعياً لكشف مكامن الضعف من جهة، والتمسك بنقاط القوة من جهة أخرى، وأهمها روح التضامن والعمل المشترك، وحصر المهمة بالتغيير والابتعاد عن الاستقطابات والاحتمالات الما بعدية (بعد سقوط أو تغيير النظام)، حيث إن مشاركة السوريين في مسألة مستقبلهم تتطلب التفكير ملياً في المسارات التي اتخذتها الثورة في مراحلها المتعددة، من البدايات المشرقة حتى اليوم ونتائجها المأساوية، وكلها بقصد معرفة ما يجب الاحتفاظ به من عناصر الماضي، وما يجب تجاوزه وذلك من أجل إعادة التعامل معه في المستقبل، على المستوى الشخصي والجماعي وحتى المؤسسي.
وأولى خطوات المراجعة وإعادة الحياة للحلم هي التخلص من مفهوم السياسة كما عاشها السوريون في زمن الأسد، السياسة بمعنى الخضوع وتصديق كل ما يقوله “الزعيم”، بل حتى التظاهر بذلك، وهو ما يفرض عبئاً ينبغي التخلص منه أولاً، ومن ثم التعامل بروح نقدية مع ما حدث تنشد المصلحة العامة أولاً وأخيراً، وسيجد الصادقون مع بعضهم الطريق، الطريق الذي يحمي الحلم من الانكسار.
المصدر: تلفزيون سوريا