واقع تابعة لإيران ومليشياتها في سورية، مروراً بتشديد خطة الضغط الأقصى الأميركية، ومترتبات سريان قانون قيصر: عقوبات اقتصادية تحتم قطع الطرق بين إيران وكل من العراق وسورية ولبنان، وصولاً إلى تنفيذ عمليات استخبارية وهجمات سيبرانية تخريبية داخل إيران ذاتها، بالإضافة إلى ما قيل عن تفاهم أميركي روسي إسرائيلي على إخراجها من سورية.
واصلت إسرائيل؛ في إطار ما تسميها استراتيجية “المعركة بين الحروب”؛ مهاجمة مواقع إيرانية في سورية، ورفعت سقف تحرّكها من “منع التموضع” إلى “إخراج إيران” من سورية، وفق تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، نفتالي بينيت، ما استدعى مهاجمة المواقع الإيرانية ومليشياتها على كل الأرض السورية، خصوصاً على محور القائم – البوكمال على الحدود العراقية السورية، لارتباطه بنقل المقاتلين والأسلحة إلى الداخل السوري؛ وإلى حزب الله في لبنان، واستهداف ما تقول إنه “بنية تحتية لصناعة الصواريخ وتحسين دقتها” قرب مدينة مصياف في ريف حماة، وقرب مدينة اللاذقية ومركز البحوث العلمية في حلب.
كان التصوّر الإسرائيلي قائماً على احتواء الدور الإيراني في سورية، ومنع إيران من إقامة بنية تحتية عسكرية في محيطها القريب، تهدّدها وتحدّ من فعالية قدرتها الردعية؛ واستثمار المناخ السياسي الإقليمي والدولي المؤاتي: توتر خليجي إيراني أفرز رفضاً إقليمياً واسعاً لوجود إيران ومليشياتها في المشرق العربي، على خلفية دورها التخريبي هناك، ودعمها الحوثيين في اليمن، عقوبات أميركية قاسية شلّت الاقتصاد الإيراني، وحدّت من قدرة إيران على تمويل عملياتها العسكرية، ودعم المليشيات التابعة لها في سورية ولبنان والعراق وقطاع غزة بسخاء، تناغم أميركي مع توجه إسرائيلي خليجي، يقول بضرورة إخراج إيران من كل المنطقة، الحصول على ضوء أخضر ودعم لوجستي أميركي، للعمل ضد إيران في سورية والعراق، غض نظر روسي مع تقييد فرص استهداف الطائرات الإسرائيلية بصواريخ منظومات الدفاع الجوي المتطورة إس 300 التي سلمتها للنظام، من خلال عدم السماح لأطقم النظام بتشغيلها، تظاهرات شعبية عراقية ولبنانية مناوئة للدور الإيراني في البلدين.
غير أن قدرة إيران على التكيّف مع العقوبات الأميركية، بالتنسيق مع حلفاء إقليميين ودوليين، وامتصاصها الهجمات الإسرائيلية في سورية، ومواصلتها تعزيز وجودها العسكري فيها، وتصدّيها لمساعي تطويقها وخنقها عبر تعزيز قدرتها الردعية بالكشف عن أجيال جديدة من الصواريخ أكثر دقةً وأطول مدى، ونشر أسلحة برّية وبحرية في الخليج العربي وسورية والعراق ولبنان، ومهاجمة منشأتي بقيق وخريص النفطيتين في السعودية بقوة نارية كبيرة ومحكمة، دفع إسرائيل إلى تغيير تكتيكها العسكري بمهاجمة إيران في عقر دارها عبر حزمةٍ من الوسائل والأساليب: عمليات استخبارية للتجسس والتخريب وهجمات سيبرانية ضد المنشآت المدنية والنووية، بهدف إرباك النظام وإيجاد حالة فوضى عارمة، وتكريس عدم ثقة اجتماعية بالنظام وقدراته لدفعه نحو إعادة نظر في خياراته السياسية والعسكرية، والعودة إلى حدود بلاده الطبيعية، حيث تتالى وقوع انفجارات وحرائق في أكثر من موقع ومدينة إيرانية: انفجار ضخم في موقع بارشين العسكري لصناعة الصواريخ، 26/6/2020، انفجار في مركز طب نووي في طهران 30/6/2020، تفجير في قسم تصنيع أجهزة طرد مركزي متطورة في موقع نطنز لتخصيب اليورانيوم 2/7/2020، دمر القسم، انفجار ضخم في طهران 11/7/2020، حريق في منشأة لشركة شهيد توندجويان للمواد البتروكيماوية 12/7/2020، حريق في مصنع للألمنيوم في مدينة لامارد بإقليم فارس 14/7/2020، احتراق سبع سفن في ميناء بوشهر 15/7/2020، انفجار في خط أنابيب النفط في منطقة خور موسى (سربندر) في منطقة الأحواز، ذات الأغلبية العربية، 18/7/2020، انفجار في محطة كهرباء بإقليم أصفهان، يوم 19/7/2020، حرائق غابات، حوالي 1100 غابة خلال الأشهر القليلة الماضية، دمرت ما مساحته 150 ميلاً مربّعاً من المناطق المشجرة.. إلخ.
ليست عمليات التجسس والتخريب والقتل الإسرائيلية جديدة أو طارئة، فقد سبق لإسرائيل قتل علماء وخبراء عسكريين إيرانيين في مجالي الذرة والصواريخ، وأولى العمليات في عام 2008، بعد بدء التعاون الأميركي مع الخطط الإسرائيلية، من خلال سلسلة عمليات قرصنة إلكترونية وزرع فيروس ذكي (ستوكسنت)، عام 2010، ألحق ضرراً بالغاً في البرنامج النووي الإيراني، والتعاون في سلسلة هجمات وعمليات هدفت إلى إتلاف المعدّات والأجهزة التي كانت إيران تشتريها لبرنامجها من مختلف أنحاء العام، إلى مشروع تصفية علماء الذرة، حيث أعدت قائمة بأسماء العلماء الإيرانيين، بدءاً من 2007، ولاحقتهم وصفتهم واحداً تلو الآخر؛ وفاة أردشير حسين فار في 14/12/2007 في ظروف غامضة في معمل يورانيوم في أصفهان. مسعود محمدي قتل بتفجير دراجة بخارية مفخخة قرب منزله في طهران يوم 12/1/2010، مجيد شهرياري اغتيل في عملية مزدوجة استهدفته مع فريدو عباسي ديواني، في قلب طهران يوم 29/11/2010، قتل الأول وبترت أطراف الثاني، قتل الجنرال حسن طهراني مقدم، رئيس قسم تطوير الصواريخ في الحرس الثوري، ومعه 16 من رجاله، يوم 11/11/2011، اغتيال المهندس الكيماوي مصطفى أحمد روشان يوم 11/12/2012. وكانت ذروة التعاون والعمل الاستخباري بين الولايات المتحدة وإسرائيل اغتيال القيادي الميداني في حزب الله، عماد مغنية، في دمشق يوم 12/11/2008، في عملية دقيقة ومعقدة؛ فبعد مراقبته طويلاً، حيث أقام عناصر من المخابرات الإسرائيلية (الموساد) والأميركية (سي آي أيه) في دمشق في مبنى قريب من مكان سكن مغنية، تم الاغتيال، بتفجير عبوة زرعت في سيارته بعد تجارب ميدانية على العملية لضمان نجاح التفجير عن بُعد، بكبس الزر من تل أبيب. طلبت إسرائيل كبس الزر للانتقام من مغنية، استغرقت العملية بين كبس الزر وحصول التفجير دقيقة ونصف. وخلال فترة المراقبة، شاهد فريق المراقبة القيادي في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، مع مغنية، في الشارع وحدهما، وكانت العبوة مزروعة ومجهزة للتفجير، وكانت تصفية سليماني معه ممكنة، غير أنه لم يكن ثمة قرار يسمح بذلك من الرئيس الأميركي، جورج بوش الابن، وفق رواية صحيفة واشنطن بوست 30/1/2015، فغرض إسرائيل “التصدّي لجهود إيران الرامية إلى التموضع عسكرياً في سورية، ومنع طهران من تحقيق طموحاتها النووية”، وفق وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني غانتس، في مكالمته مع نظيره الروسي، سيرغي شويغو، الأسبوع الجاري.
لم توجّه إيران أصابع الاتهام بتنفيذ التفجيرات والحرائق إلى جهة محدّدة بشكل رسمي، مع أن مسؤولين ومحللين منها قالوا إنها عمليات تخريب، لأنها في موقف دقيق ومعقد، ستوصف بالضعيفة إن لم ترد، وإن ردّت وانتقمت، كما توقع قائد القيادة المركزية الأميركية، الجنرال كينث فرانك ماكينزي جونيور، فقد تنزلق في حربٍ مدمرة، في لحظةٍ سياسيةٍ صعبة، فالوضع الاقتصادي يسير نحو انكماش كبير، والعملة الوطنية تتراجع أمام الدولار (الدولار 250 ألف تومان)، وفيروس كورونا يفتك بالبشر، 270 ألف إصابة مؤكدة و13979 وفاة على الأقل، وفقاً لوزارة الصحة. بالإضافة إلى ما أعلنه الرئيس الإيراني، حسن روحاني، من توقعات متشائمة، تحدّث عن موجة جديد تصيب ما بين 30 و35 مليون إيراني، والانتخابات الرئاسية الأميركية على الأبواب، والرئيس الأميركي، بحسب استطلاعات الرأي، في موقف انتخابي حرج؛ ما سيجعله يرى في الرد الإيراني فرصةً لتعديل وضعه الانتخابي عبر البطش بإيران. “إنها ليست جاهزة ولا تريد الحرب.. لم تعترف أنها أعمال تخريبية، حتى تحفظ ماء وجهها، وحتى لا تضع نفسها في زاوية للرد”، وفق الإصلاحي الإيراني، عباس عبدي، فلجأت، في ضوء اعتبار القيادة الإيرانية نفوذها في سورية هو من سيحدّد شكل سياساتها وحساباتها الإقليمية، والتي ستنعكس على مصالحها في العراق ولبنان والخليج، إلى عقد اتفاقٍ عسكريٍّ وأمني شامل مع النظام السوري، يسمح بتطوير القدرات العسكرية لجيش الأخير، بما في ذلك تزويده بمنظومة صواريخ دفاع جوي إيرانية الصنع، من طراز “خورداد 3” أو “باور 373” التي أسقط الإيرانيون بواسطتها الطائرة الأميركية من دون طيار من طراز غلوبل هوك، اعتبرته إسرائيل تطوّراً خطيراً، لأنه سيقلص هامش الحركة أمام الطائرات الإسرائيلية. وقد قال القائد السابق للواء التخطيط الاستراتيجي في شعبة التخطيط في الجيش الإسرائيلي، أودي ديكل، في تقرير له في مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، إن الطائرات الحربية ستكون في دائرة الخطر، حتى وهي تهم بالإقلاع من قواعدها داخل إسرائيل. وحرّكت أذرعها في العراق، لشنّ عمليات ضد القواعد العسكرية الأميركية. وفي لبنان، بإعلان حزب الله رفضه قانون قيصر، وأيّة علاقة بين أميركا ولبنان، أو فصل لبنان عن سورية، وعملت على تحصين موقفها الدولي بعقد معاهدة تعاون استراتيجية مع الصين مدتها 25 عاماً.
تواجه إيران ظرفاً سياسياً صعباً على صعيدي الداخل والخارج، حيث يسعى التيار المحافظ إلى تمزيق إرث التيار الإصلاحي، على أمل نزع رئاسة الجمهورية منه في انتخابات عام 2021، ما زاد النظام هشاشة، ويسعى إلى التصعيد الخارجي بالتلويح بالتخلي عن استراتيجية الصبر، لتحسين صورته الداخلية، بعد بروز المقاطعة الشعبية للانتخابات البرلمانية، وهو يعلم حجم القوى المناوئة والرافضة لسياسات النظام الخارجية.
المصدر: العربي الجديد