بين المتابعات والتقارير والتحليلات والتصريحات اليومية عن الحرب على غزّة، يقع المرءُ على دعواتٍ مُتكرّرةٍ إلى وقف إطلاق النار، وقلّما يقع على دعواتٍ مباشرةٍ بصيغة مهمّات عاجلة ومطلوبة لوقف الإبادة وإنقاذ القطاع وأهله من التدمير والتقتيل، باستثناء التصريحات الشجاعة التي تصدُر عن الأمين العام للأمم المتّحدة، أنطونيو غوتيريس، ومسؤولي المنظّمة الدولية، وبينهم المفوّض العام فيليب لازاريني، التي تُصوّر هذه الحرب جرائمَ ضدّ الإنسانية.
ومع أنّ وتيرة الإجرام لا تتوقّف ضدّ المدارس ومراكز إيواء النازحين، ويسمّيها كلٌّ من مجرم الحرب بنيامين نتنياهو ووزير أمنه يوآف غالانت بـ”الضغط العسكري”، ومع أنّ هوامش الحياة تضيقُ أكثر فأكثر أمام ما يزيد عن مليوني شخصٍٍ يواجهون خطر الهلاك بالقصف أو بالجوع أو بالعطش، أو بندرة الأدوية والطبابة، ناهيك بمخاطر الأمراض، إلّا أنّ هذا الواقع الكارثيَّ يَجد خارج قطاع غزّة من يعتاد عليه ويتعايش معه، بما في ذلك عدّاد الضحايا اليومي، الذي قد يُشبه في نظر بعضهم عدّاد تاكسي أجرة. ويختزل كثيرون الوضع الكارثي في أنّه مُؤْلِمٌ لكنّ عمليات المقاومة مُستمرّة، وهو ما يمنح أملاً، غير أنّ حرب نتنياهو تتوجّه شفرتها إلى المدنيين، فحين يفقد جيشُ الاحتلال جنوداً منه، وهو يخسر بالفعل بصورةٍ دائمة، فإنّ الانتقام يكون جاهزاً بقصف المدارس والبيوت، ومراكز إيواء النازحين، ولا تملك المقاومة رغم بطولاتها من وسيلةٍ لوقف الاستهداف الإرهابي المنهجي للمدنيين. وخلال ذلك، فإنّ انتصاب بناياتٍ أيّاً كانت يزعج الجنود الغزاة، فيقومون حين يصادفون فسحةً من الوقت بنسف تلك البنايات. ودائماً لديهم ذريعة “ذهبية”: إنّهم يستهدفون عناصر من حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في البيوت وفي الخيام، وفي البنايات وفي المدارس. كم مضى على هذا الوضع؟… أزيد من تسعة أشهر، أكثر من 288 يوماً، وكلّ يوم بسنةٍ ممّا تعدّون.
ليس الغرض من هذه السطور إثارة العواطف، فمن لديه عاطفة فإنّها تنبض من تلقاء نفسها من غير دعوةٍ من الآخرين. في واقع الأمر، الهدف من هذا المقال مخاطبة العقول أولاً، إذ إنّ استمرار الوضع الحالي يُنذر بمضاعفة الكارثة، علماً أنّ الهدف الجوهري لنتنياهو، وكثرة ممّن يشايعونه، هو التدمير التام للقطاع بمدنه الأربع: غزّة، ودير البلج، وخانيونس ورفح، بحيث تُجفّف موارد الحياة ويُقتل أكبر عدد من الناس، وسيكون المقامون حُكماً بينهم، بالنظر إلى ضيق مساحة القطاع، بما يحقّق هدف العنصريين الصهاينة بتدمير القطاع بكلّ ما فيه ومن فيه، من دون أن يتوقّفوا عن استخدام كلمة “حماس” في كلّ عِبَارة يتفوّهون بها من أجل تشتيت الانتباه وصرف الأنظار عن الصورة الكُلّية، وعن الوجهة الرئيسية لهذه الحرب التي تستهدف الغزّيين جميعاً، من جميع الأعمار، نموذجاً لما ينتظر شعب فلسطين. الحرب على “حماس” وفصائل المقاومة جزء من هذه الحرب، فالعدو الذي تستهدفه المؤسّسة الصهيونية هو الكُتلة البشرية، وفي سياق الحرب على هذه الكُتلة تندرج فصول استهداف المقاومة، إذ إنّ بنك الأهداف يتمثّل، أولاً، منذ بدء الحرب، في المجمّعات السكنية والتجارية، والجامعات والمدارس والمستشفيات، والمعابد والأسواق والحقول الزراعية. وقد وصف يوآف غالانت هذا النمط من الحرب لدى مُخاطبة جنوده عشيّة الحرب البرّية على غزّة في أكتوبر/ تشرين الأول (2023) بقوله: “سوف تنجزون مهمّة لا مثيل ولا سابق لها في الشرق الأوسط”. لذلك، ليس غريباً أن يلتزم بارتداء ملابس سوداء على الدوام، كحال أفراد المليشيات الإرهابية والفاشية، ومنها مُنظّمات صهيونية.
وعليه، من الخطأ الجسيم اختزال هذه الحرب الوحشية في أنّها منازلةٌ بين جيش الاحتلال وعناصر المقاومة، فمع الأخذ بالاعتبار والإجلال بطولات المقاومة وصمودها الجبّار وإنجازاتها المشرّفة في وجه آلة الحرب، إلّا أنّ هذه الحرب أشدّ خطورة من ذلك، إذ إنّها ذات وجهة استئصالية غير خافية باستخدام أسلحة فتّاكة ممنوحة من الجدّ الوديع جو بايدن، وهو ما يسعى الصهاينة إلى إخفائه، بالزعم أنّ حربهم الوحشية هي على حركة حماس ليس إلّا. يترتّب من ذلك أنّ استشراف الحلول والمخارج وصياغة الاتّفاقيات يتعيّن أن يكون مُقترناً بإدراك طبيعة هذه الحرب التي خلّفت، حتى اللحظة، آلاف الأطنان من الركام والنفايات، ما يحتاج إلى 15 عاماً لإزالته، إذ إنّ استمرار وجود الأنقاض ينذر بنشر الأوبئة، ويُعرقل مجرى إعادة الحياة شبه الطبيعية، علاوة على أنّ بعض هذا الركام يشتمل على رفات أعدادٍ لا تُحصى من الضحايا.
وبينما يسعى نتنياهو، بكلّ ما تَملِك يمينه، إلى إطالة أمد الحرب أطول ما يمكن، فإنّه ليس سرّاً أنّه تجري هنا وهناك مداولات حول ما بعد الحرب، وكذلك حول الهدنات المُفترضة، ومن سوف يسيطر على القطاع في تلك الأثناء، والمفاوضات التي جرت بشأن مستقبل معبر رفح هي جزء من هذه المداولات، إذ يرفض نتنياهو أيّ وجود فلسطيني في المعبر، ويرغب مثلاً بنشر عناصر من شركات أمن أميركية خاصّة. وسبق أن طُرِحَت فكرة نشر قوّات عربية ودولية، وما زالت هذه الفكرة قائمة بين واشنطن وعواصم عربية وأوروبية. ومن الواجب الوطني التعامل مع هذه الفِكَرِ باهتمام وحذر شديديْن، من منطلق جوهري، وهو وضع حدّ للحرب القذرة. وفي القناعة أنّ من الخطأ الاستخفاف بهذه الأفكار أو المسارعة إلى رفضها جملة وتفصيلاً، ومن حيث المبدأ، وبحُجّة أنّ اليوم التالي للحرب “شأن فلسطيني خالص”، فالقول بالشأن الخالص لما بعد الحرب ينسحب على الحرب نفسها، ما يُعفي الأشقاء والأصدقاء، وغيرهم، من أيّ دور لوقف الحرب، المقاومة لن تستطيع وحدها أن تُنجِز هدف شلّ آلة الحرب، ولا إعادة بناء القطاع، فهي بحاجة اليوم وغداً، وابتداء من اليوم، إلى التجسير مع أطراف عربية ودولية، وإبداء حنكة سياسية كافية، وليس على طريقة الهبّة التي ووجهت بها تصريحات وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، عن تحبيذ بلاده فكرة نشر قوّات دولية في القطاع بقرار أممي، من أجل تمكين السلطة من الإشراف على القطاع، والانتقال من ذلك إلى معالجة القضيّة كلّها، قضيّة إنهاء الاحتلال وإقامة دولة مُستقلّة، إذ إنّ إخراج قوّات الاحتلال من القطاع يُمثّل ويجب أن يُمثّل أولوية مطلقة. وبدلاً من اعتبار “أيّ قوّة عربية أو أجنبية بمنزلة قوّات احتلال”، حسب بيانات مُنفعِلة تهدر فرص الحوار مع العالم، واستدعائه للتدخّل الإيجابي، فإنّه من الواجب المشاركة في مناقشة هذه الفكرة وحيثيّاتها، بروح من الجدّية والمسؤولية، فلطالما دعا مسؤولون فلسطينيون إلى نشر قوّات دولية تتبع الأمم المتّحدة في الضفّة الغربية المُحتلّة، ولم يكن أحد ليعترض على هذه الدعوة سوى الاحتلال نفسه. الآن، وقد تغيّر وضع غزّة وبات أقسى من وضع الضفّة، وبات القطاع منكوباً بصورة مروّعة، وفَقَد طابعه الحضري، فإنّ وجود قوّات دولية مُتّفق عليها قد يُمثّل مرحلةً انتقاليةً مُؤقتةً يحتاجها المجتمع في غزّة حاجة وجودية. لا بدّ من التفكير قليلاً خارج الصندوق من أجل كسر الجمود الحالي، وفتح نافذة للأمل أمام مليوني غزّي متروكين لمصيرهم المأساوي، فحرب الإبادة هي “ما علمتم وما ذقتم” أيّها الغزّيون، ولم يذقه أحد غيركم سوى أبناء شمال الضفّة الغربية في جنين ونابلس وطولكرم.
من المُقرّر أن تستضيف بكين اليوم السبت (20/7/2024) جولةً جديدةً من الحوار الذي لا ينتهي بين المُكوّنات الفلسطينية، وبالذات بين حركة فتح والسلطة الفلسطينية من جانب، وحركتي حماس والجهاد الإسلامي من جانب آخر. إذا كانت هذه الأطراف تشعر بالمسؤولية تجاه شعبها ووطنها، عليها أن تهتبل الفرصة وتستأنس برأي القيادة الصينية في أفضل السبل وأنجعها لوقف الحرب على غزّة. وكذلك، في أفضل الصيغ للشروع في إعادة الحياة إلى القطاع المنكوب في “اليوم التالي” لوقف الحرب، مع إبداء الترحيب بدور صيني فاعل، الآن وغداً، في قضية إنهاء الاحتلال. فمثل هذا التوجّه إلى استقطاب الفاعلين الدوليين، والإصرار على كسر الجمود الخطير، هما ما يثيران احترام الناس، وليس تهدئة الخلافات الفئوية بين الجانبَين.
المصدر: العربي الجديد