في أكبر ثلاث دول أوروبية؛ فرنسا وإيطاليا وألمانيا، فاز اليمين المُتطرّف في انتخابات البرلمان الأوروبي، فيما حقّق نتائج غير مسبوقة في النمسا وهولندا، ومفاجأة في إسبانيا، في ما يبدو أنّه ربيع اليمين المُتطرّف في أوروبا، على وقع أزماتٍ اقتصادية ومجتمعية تعيشها القارّة، التي تُبحر نحو مُستقبل مجهول في ظلّ تراجع الفعّالية الاقتصادية والجيوسياسية.
ساهم ضعف أداء الأحزاب التقليدية (يمين الوسط والاشتراكيين والخضر)، التي حكمت في بلدان عديدة، في صعود اليمين بدرجة كبيرة، فقد عجزت هذه الأحزاب عن إدارة السياسات الاقتصادية والاجتماعية، ولم تستطع بلورة سياسات لمواجهة اليمين المُتطرّف، بل أحدثت تغييرات في سياساتها باتجاه اليمين المُتطرّف، لاعتقادها أنّ المجتمعات الأوروبية ترغب بهذا النمط من السياسات، بدليل أنّ حكومات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فعلت كلّ ما يمكن أن يفعله حزب الجبهة الوطنية لو كان في السلطة، لكنّها بهذه السياسات قوّت قاعدة اليمين المُتطرّف، وزادت من أرصدة التوجّهات المُتطرّفة في فرنسا. تحولت الأحزاب التقليدية إلى أحزاب كهلة، حتّى خطابها السياسي صار بعيداً عن هموم الشباب وطموحاتهم، وقد كان لهذا الأمر انعكاسه الواضح من حيث ميل كتلة الشباب إلى الأحزاب اليمينية المُتطرّفة، ما رجّح كفّتها في فرنسا وهولندا وإيطاليا وألمانيا. وفي ظلّ لعبة استقطاب حادّة، استطاع اليمين المُتطرّف تحقيق مكاسب مُهمّة من خلال انزياح كتل اجتماعية مُهمّة من المجتمعات الأوروبية إلى أفكاره.
ولعب العامل الجيوسياسي دوراً مُهمّاً في تظهير هذه النتائج، بالإضافة إلى قضايا الهُويّة، وما أفرزته الهجرة من إشكالات، كذلك، الصراع العالمي والحرب الأوكرانية الروسية والتنافس الصيني الأميركي وتراجع فعالية أوروبا بدرجة كبيرة في المستوى العالمي. وعموماً، يأتي صعود اليمين المُتطرّف في أوروبا في سياق عالمي يشهد انتعاشاً قوّياً لليمين، والأمثلة في الولايات المتّحدة والهند وأميركا اللاتينية كاشفة في هذا المجال، حيث تستثمِرُ التيّارات اليمينية في إذكاء الفوبيا من الآخر، والتلاعب بسيكولوجيا الجماهير، والتأثير في خياراتها السياسية. لكن يبدو أنّ فرنسا “الماكرونية” تذهب في اتجاه معالجة من خارج الصندوق لظاهرة صعود اليمين المُتطرّف، بعد اكتساح قوائم الجبهة الوطنية، بقيادة جوردان بارديللا، للمقاعد المُخصّصة لفرنسا في البرلمان الأوروبي، بعد حصولها على نسبة أكبر من الثلث في مواجهة مختلف التيّارات والأحزاب السياسية الفرنسية، ورغم أنّه ليس بالضرورة أن يكون للانتخابات الأوروبية صدىً في المستوى الوطني، فقد اعتبرها ماكرون بمثابة استفتاء ضدّ سياساته، وبناءً على ذلك، قرّر حلّ الجمعية الوطنية (البرلمان الفرنسي) والدعوة إلى انتخابات جديدة.
وقد أثار هذا القرار غضب فئاتٍ مجتمعية، ومكوّنات سياسية، عبّرت عنه الصحافة الفرنسية، التي اعتبرت أنّ خطوة ماكرون مُقامرةً بمستقبل السياسة الفرنسية، وخطوةً في مسار تسليم السلطة لليمين المُتطرّف، الذي يعيش لحظة انتعاش وارتفاع المعنويات، في ظلّ جهوزية قواعده المُستنفَرة لخوض الانتخابات، والمُتمتّعة بتنظيم جيّد، على عكس الأحزاب الأخرى، التي تعاني في هذه المرحلة من انعدام ثقة قواعدها ويأسها من إمكانية تحقيق الانتصار على اليمين الُمتطرّف. لكن، على عكس ما ذهبت إليه صحيفة ليبراسيون؛ أنّ ماكرون بدا وكأنّه “طفل غاضب على نحو مفاجئ” في مواجهته الصدمة، إلّا أنّ ماكرون، الذي كان مُطّلعاً على استطلاعات الرأي، والسرعة التي اتخذ بها القرار، تدلّ على أنّ هذا الخيار كان حاضراً وناقشته الدائرة الماكرونية، بدليل ما نقلته مجلة لوبان عن محيط ماكرون من أنّ القرار جريء وستكون له نتائج مُهمّة لصالح حزب ماكرون. وفي ضوء ذلك، يمكن قراءة قرار ماكرون أنّه استراتيجية مبنية على احتمالين. الأول، رغبة ماكرون في حصول ردّة فعل عكسية في ظلّ تخوّف شرائح كثيرة من المجتمع الفرنسي من فوز اليمين المُتطرّف، وبالتالي، ستكون مُضطرة إلى شدّ عصبها والنزول بشكل كثيف للانتخابات، إذ يوجد اعتقاد أنّ فئات كبيرة من الفرنسيين لم تشارك في الانتخابات الأوروبية (بلغت نسبة المشاركة 40%)، والواضح، من اليوم الأول الذي تلا الانتخابات البرلمانية، وخروج المظاهرات المُندّدة بفوز اليمين المُتطرّف في المدن الفرنسية، أنّ الانتخابات المُقبلة ستكون حامية الوطيس، وأنّ خطة ماكرون قد تلاقي نجاحاً فعلياً.
الاحتمال الثاني، في حال فوز اليمين المُتطرّف في انتخابات الجمعية الوطنية، سيعمل ماكرون على استهلاكه قبل الانتخابات الرئاسية من خلال وجوده في السلطة، وإمكانية عرقلة مشاريعه وخططه. وبالتالي، إظهار عجزه للجمهور الفرنسي ومحدودية فاعليته، وبذلك، يكون ماكرون قد نصب فخّاً لليمين المُتطرّف بتوريطه في السلطة في ظلّ ظروفٍ لن يستطيع من خلالها تقديم أيّ شيء مُهمّ، إذ من السهل أن تكون في المعارضة وتنتقد السلطة، ومن الصعب، عندما تصل إلى السلطة، تنفيذ كلّ الوعود التي تُقدّم.
إذاً، هي مفاضلة بين سيّئَين، واستراتيجية بعيدة المدى، تنطوي في ظاهرها على مغامرةٍ، لكنّ ماكرون، في حساباته، يرى أنّه لا يمكن كسر حلقة اليمين المُتطرّف إلّا من خلال صدمة أو لعبة سياسية، طالما أنّ الظروف لا تسمح بإنتاج سياساتٍ حقيقية معاكسة لفكر اليمين، ويمكن أن تحقّق نجاحاتٍ في ظلّ الظروف المُعقّدة التي تحيط بفرنسا، وأوروبا عموماً، وخاصّة التراجع الاقتصادي وتراجع المكانة الاستراتيجية على المستوى العالمي، إذ تعاني فرنسا من أزمة اقتصادية في ظلّ ازدياد الدَين العام والتضخّم المرتفع، وتراجع القدرات التشغيلية، وهي مشاكل مُزمنة يصعب حلّها بين يوم وليلة.
المصدر: العربي الجديد
هل سيكون لدينا بأوروبا ربيع اليمين المُتطرّف على وقع أزماتٍ اقتصادية ومجتمعية تعيشها القارّة، تقدم بالدول الثلاث الأكبر “فرنسا وإيطاليا وألمانيا” ونتائج غير مسبوقة في النمسا وهولندا، ومفاجأو في إسبانيا، فهل سيستطيع ماكرون إعادة التوازن بفرنسا؟ كان له إخفاقات بأفريقيا ولبنان كبيرة، ومواجهة مع الإسلاموفوبيا.