الأزمة المالية للسلطة الفلسطينية مزمنة وبنيوية وليست وليدة اللحظة، إذ بنيت السلطة لتكون معتمدة اقتصادياً على أموال المانحين وعلى قرارات قوة الاحتلال، إسرائيل، وإملاءاتها بموجب إطار اتفاقية أوسلو، فبروتوكول باريس الاقتصادي (الملحق الاقتصادي لاتفاقية أوسلو الأمنية السياسية) هو الإطار المؤسّساتي الناظم لهذه الاعتمادية، وبموجبه تجني إسرائيل أموال المقاصّة نيابة عن السلطة الفلسطينية وتحولها أو لا تحولها إلى السلطة، بناء على المعطيات السياسية ودرجات الابتزاز السياسي المبتغاة. والمقاصة هي عائدات الضرائب والجمارك وأموالها على السلع الفلسطينية المستوردة وعلى الحركة التجارية الخارجية المعتمدة كلياً على إسرائيل والمحتواة منها، تجمعها وزارة المالية الإسرائيلية وتحوّلها (أو لا تحولها) شهرياً إلى الحسابات البنكية للسلطة الفلسطينية بعد خصم جزء كبير منها بدل ديون كهرباء ومستشفيات وغرامات وعمولات وخصومات أخرى متعدّدة. وتشكّل أموال المقاصة هذه دخلاً رئيساً للسلطة، إذ بلغت حوالي ثلاثة مليارات شيكل خلال الربع الثالث من العام 2023، لتشكّل ما يقارب 63% من إجمالي الإيرادات العامة للسلطة الفلسطينية خلال ذلك الربع. وخلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2023 مثلاً، بلغ متوسط أموال المقاصّة (عائدات الضرائب) بعد الخصومات الإسرائيلية حوالي 730 مليون شيكل شهرياً.
وعليه، أموال المقاصّة وأموال المانحين تشكّل شريان الحياة للسلطة الفلسطينية ومؤسّساتها، وكلا المصدرين خارجي بطبيعته، وهما رهينة للاشتراطات والابتزازات الخارجية، ومكبّلان قدرة السلطة على الفعل المستقل بعيداً عن الارتهان لشروط قوة الاحتلال واشتراطات مجتمع المانحين وقيوده. وهذا كله هو الحال منذ تأسيس السلطة قبل أكثر من ثلاثة عقود. وعليه، الأزمات المالية المتتالية متجذّرة ومتشعّبة وبنيوية، كما البنى المؤسّساتية المقوضة للفعل الفلسطيني المستقل، حتى في المضمار الاقتصادي، تتجذّر وتتصلب على مدار العقود، وتفرض شكلاً من الاعتيادية والروتينية والتطبيع للاعتمادية والاستجداء.
ومع أن الأزمة الاقتصادية للسلطة الفلسطينية لا تتصدّر المشهد أو سلم أولوياته اليوم في غمرة العدوان المستمرّ على قطاع غزّة، إلا أن إسرائيل والمجتمع الدولي حريصان كل الحرص على تفاقم الأزمة المالية للسلطة الفلسطينية أداة ابتزاز سياسي إضافية، ولكنهما أيضاً في منتهى الحرص على ألاّ تنفجر هذه الأزمة، وتنعكس على الجانب الأمني، وتفتح جبهة اشتباكية أخرى. فهما (إسرائيل والمجتمع الدولي) يملكان مفاتيح الضغط والانفراج وأدوات التحكّم. وعليه، وكما جرى عقوداً، سينقذون، في اللحظة الأخيرة، أو ما قبل الأخيرة، السلطة الفلسطينية بالحد الأدنى لتدفع على الأقل رواتب موظفيها، خصوصاً العاملين في قطاعها الأمني. فصيرورة حلقة “الأزمة والإنقاذ” هذه، ديمومتها جزء من المنظومة الأشمل، وإفراز طبيعي للبنى المؤسساتية وبنى القوة والضعف المنوطة بتلك المنظومة.
أما عن علاقة السلطة الفلسطينية مع مجتمع المانحين فهي اعتمادية مطلقة على أموالهم وعلى تدخّلاتهم السياساتية، فالمانحون يشكلون خط الإمداد الأوكسجيني للسلطة عن طريق دعمهم المالي، وإن تضاءل وقل كثيراً في السنوات الأخيرة، خصوصاً أن مجموع الدعم الدولي في السنوات الثلاثين الماضية وصل إلى أكثر من 50 مليار دولار، فالمجتمع الدولي (بمعنى الحكومات والأنظمة والمؤسّسات الدولية) يرى في السلطة ومشروعها السياسي المبرّر والحافز لتقديم هذا الدعم، وهم مستمرون بذلك، وإن بوتيرة أقل من قبل، لأسباب ذاتية متعلقة بالدول والحكومات المانحة نفسها، وليس لأي اختلالٍ وظيفي أو لأي حياد عن الخط والنهج السياسي من السلطة الفلسطينية.
في نهاية المطاف، يبقى مجرّد وجود السلطة أحد أهم منجزات مجتمع المانحين من وجهة نظرهم، وهم حريصون على عدم التفريط بهذا الإنجاز الذي يعفيهم من الشعور المتواصل بالذنب السياسي. وهذا ما يفسّر، ولو جزئياً ولكنه جوهري، كل الحديث والخطط التي تدور حاليا بشأن كيفية تقوية السلطة الفلسطينية وإعدادها للمرحلة المقبلة، ولليوم التالي، وإصلاحها وبعثها وتنشيطها.
هل من الممكن إصلاح الجسم نفسه القائم منذ أكثر من 20 عاماً وإعادة إصلاحه، إحياؤه وإعادة إحيائه؟ الجواب واضح، ولكن جُلّ مجتمع المانحين يرفض ويخاف من الإقرار بالإجابة، على الأقل في العلن. أمّا عن الحلول والأدوات لتجاوز المشهد الاقتصادي الحالك اليوم، فهذا يتطلب الانخراط في عملية تنموية تحرّرية بعيدة كل البعد عن إطار “أوسلو” وبروتوكول باريس الاقتصادي، وعن الإطار والنهج الاقتصاديين اللذين جرى تبنيهما على مدار العقود الماضية، وآمنا بإمكانية بناء اقتصاد مستقل وقابل للحياة تحت وطأة الاستعمار الصهيوني الكولونيالي الإحلالي.
تتطلّب الخطوة الأولى الإقرار بفشل هذا النهج والانخراط بفعل جمعي من أجل إصلاح كل التشوّهات البنيوية التي أحدثها الإطار الاقتصادي لاتفاقية أوسلو، التي تتطلب بالضرورة انخراطًا جدّيًا في إعادة تفكير جذرية في الإطار المهيمن الراهن للاستيضاح بشأن الفائدة المؤسّسية التي تُحققها السلطة الفلسطينية ودورها في النضال من أجل تقرير المصير، بما في ذلك الدور المتعلق بالشقين، الاقتصادي والتنموي، فالاقتصاد لا ينفصل عن السياسة، وهي لا تنفصل عنه، مهما حاول جاهداً مجتمع المانحين، بتبنيه نظرة ورؤية إنمائيتين باعتبارهما مقاربة تكنوقراطية تقنية غير سياسية ومحايدة. المطلوب تبنّي مقاربات مُدرِكة هياكلَ القوة وعلاقات الهيمنة الاستعمارية، من أجل ربط العملية التنموية والفكر والفعل الاقتصادي بالنضال من أجل الحقوق والمقاومة والتحرّر.
المصدر: العربي الجديد