تبدو غائمة وانكسرت قوادمها القضايا والإشكاليات حول المفاهيم الكبرى والأيقونية التى تأسست عليها الحداثة الغربية، وامتدت إلى غالب ثقافات العالم، مثل الحرية، والعدالة، والعقلانية، والإخاء، والمساواة، ومعها أيضا في مجتمعات الجنوب قضايا حركات التحرر الوطنى، مثل السيادة الوطنية، والاستقلال، وحق بقايا الشعوب المستعمرة في تقرير المصير، والدفاع الشرعى، والمقاومة المشروعة من الشعوب المحتلة، للمحتلين لأراضيها. قيم الحداثة، ومفاهيمها، وأقانيمها الكونية وحرياتها العامة والفردية ، والمؤسسات السياسية، والمنظومات الدستورية، والقانونية المجسدة لها ظلت موضوعا لاستلهامات النخب السياسية، والمفكرين، والمثقفين فى المرحلة ما قبل الكولونيالية، وما بعدها، إلا أن واقع العالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، أدي إلى تشكل النظام الدولى من الثنائية القطبية، واحتدام الصراع الإيديولوجى، ما بين الإمبراطورية الفلسفية الماركسية بقيادة الاتحاد السوفيتى السابق، وما أطلق عليه “العالم الحر”، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. الصراع بين كلا الكتلتين أدى إلى تمدده وانعكاساته ومنافساته فى الأنظمة الإقليمية الفرعية، ومعه صراعاته الإيديولوجية، والحرب الباردة . تمثلت غالب الدول المستقلة حديثا بالتوجهات الخاصة برأسمالية الدولة الوطنية، تحت مسمى أيديولوجى الاشتراكية، وبعضهم اتخذ من الطريق اللارأسمالى للتنمية، مساراً اقتصادياً واجتماعيا، يتأسس على التعبئة السياسية والاجتماعية، ونفى الصراعات الطبقية، وقمعها بالأساليب الأمنية فى مقابل بعض الحقوق الاقتصادية، والاجتماعية، كالتعليم والعمل، وسياسيات الدعم الاقتصادى..الخ. من ناحية أخرى كانت الحريات السياسية، والفردية مصادرة، مع إغلاق المجال العام، أو حصاره، وقمع المعارضات السياسية. كانت فكرة تحالف الطبقات الاجتماعية فى مواجهة الاستعمار مستمدة من المثال الماوي -فى أطروحة ماو تسي تونج تحالف القوى الثورية المعادية للاستعمار في نهاية الاربعينيات- ومن المثال السالزاري .
لم تكن ثمة تحالفات طبقية أساسا، نظراً لعدم تبلور البنيات الطبقية فى هذه المجتمعات وخاصة الانقسامية في المنطقة العربية ، وأيضا لعدم تطور الرأسمالية الناشة فى هذه المجتمعات تحت الكولونيالية، وما بعدها، وأيضا تطور العلاقات الاجتماعية فى ضوء شروط الإنتاج السائدة.
فى ظل تراجع الإمبراطورية الماركسية، وأزماتها، في ذروتها ثم مابعد سقوط حائط برلين أخذت بعض الدول فى المنطقة تراجع سياسات رأسمالية الدولة، إلى ما كان يسمى بالانفتاح الاقتصادى، ثم الإصلاح الاقتصادى، وإعادة الهيكلة لوسائل الإنتاج والعودة إلى الطريق الرأسمالى للتنمية.
كانت التصورات الشائعة أن بعضا من الإصلاح السياسى، قد يؤدى لعودة الحريات العامة، والشخصية، بينما الواقع الموضوعى، وطبيعة السلطات السياسية الحاكمة، تشير إلى أن المعادلة الجديدة تتمثل فى حريات السوق، والعرض والطلب، واستمرارية موت السياسة، وحصار المجال العام على الرغم من النصوص الدستورية التى تنص على هذه الحريات العامة والشخصية من خلال القوانين التى تقيدها، وتصادرها، أو استمرارية نظم الاستثناء، والطوارئ! من هنا تأسست مجدداً الرأسمالية بلا حريات على نحو أثر على حيوية هذه المجتمعات العربية، وعلى الإبداع العلمى، والحريات الأكاديمية، والحياة اللا سياسية فيها!
فى ظل هذه السياقات الاقتصادية، والاجتماعية تراجعت الحركة الثقافية، وشمل الاستهلاك الفئات الاجتماعية المختلفة، ومن ثم تسليع الحياة، والأفكار، والبشر، وبات مفهوم السوق، يشمل كل شئ، القيم، والتدين، والإعلام، والسلوك الاجتماعى، ومن ثم تحولت قيم الاستهلاك المادى والرمزى إلى مركز الحياة والسلوك الاجتماعى، بديلا عن العلم والمعرفة والثقافة والإبداع. باتت الحرية قرينة الاستهلاك المكثف، سواء من خلال القدرة على إشباعه، أو الاستدانة، أو السعى لتحقيقه. الحرية كسلعة استهلاكية، أدت إلى كبح الشوق الإنسانى فى العالم العربى للتحرر الفردى، والجماعى السياسى، والفكرى!
ساعد على ذلك الهجرة إلى النفط سعيا وراء الرزق، وتحقيق تراكم مالى، على نحو أدى إلى بعض الاستعارات للتدين السلفى والوهابى السائد فى الدول النفطية آنذاك، وخاصة بعد حرب أكتوبر 1973. دعمت السياسات النفطية الدينية والخارجية- وخاصة مع الولايات المتحدة لمواجهة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان – هذه التوجهات داخل دول العسر المالى العربى. لا شك أن نمط التدين فى إقليم البداوة المميكنة هناك، أدى إلى فرض قيود، على مفهوم الحريات الحداثى، لصالح القيود التأويلية الوضعية على الحريات الفردية وجماعية، وضبطها وتقييدها، وفق هذا المذهب السلفى السياسى، أو ذاك، على نحو وظّفتهً السلطات السياسية فى المشرق والمغرب العربيين لصالحها، فى دعم هذا التوجه، لفرض سياسة مصادرة الحريات العامة، وقيود على الفردية.
أدت هذه التوجهات السياسية، والاقتصادية والدينية السياسية إلى إنتاج معارضات دينية ضارية لها، تشكك فى شرعية هذه السلطات، والدولة الحديثة، والدساتير والقوانين الحداثية المبتسرة، والمطالبة بتغييرها جذرياً! أثرت هذه التحولات فى التدين الشعبى وإلى ازدياد التطرف السلوكى، والازدواجيات بين المظهر الدينى الشكلى السلوكى، والخطابى، وبين الفعلى المناقض له، تماماً!، وهو ما أثر سلبيا على التدين الفردى، وعلى الحرية الفردية، التى باتت موضوعا لرقابة الأخرين! ساهمت هذه التوجهات الدينية الدعوية، والسياسية فى إنتاج تناقضات حادة، بين الانتماء الوطنى للدولة، وبين الانتماء الدينى. الأخطر أثر ذلك على حقوق الأقليات الدينية، والعرقية، واللغوية، والقومية والمواطنة فى المجتمعات العربية الانقسامية. والقيود التى فرضت عليها، وأدت إلى نزاعات طائفية، وعرقية، دينية، ومذهبية، وقومية! من هنا برزت الصراعات بين الفكرة العربية الجامعة، وبين الفكرة الإسلامية الجامعة، وصراعات هوياتية داخل هذه المجتمعات، وظف بعضها بعد ذلك لصالح دفاع السلطات الحاكمة عن وطنياتها الهشة التى لم تتحقق شروطها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والثقافية والتاريخية باستثناء مصر، والمغرب.
كرست هذه التوجهات حصار مفهوم الحرية، وتجسداته السياسية، والدستورية، والفعلية، خاصة فى ظل انهيار مفهوم السرديات الكبرى، والقيم المطلقة، لصالح التحول إلى ما بعد الحداثة، وعالم النسبيات، والمابعديات، وهو ما أثر سلبا فى المجتمعات العربية، على مفهوم الانتماء الوطنى، ومفاهيم الوطنية والتحرر، ومن ثم أثر على مركزية المسألة الفلسطينية، ووضع الأقليات الأفريقية فى السودان، على نحو أدى إلى استقلال الجنوب عن الشمال! وكانت انعكاسات ذلك في العراق بين القومية الكردية والعربية والشيعية السياسية والعشائر السنية، وأيضا فى موريتانيا تجاه حقوق “السودان”- الموريتانيين الأفارقة- في مواجهة البيضان، ووضع الأقليات الأمازيغية، والبربر فى الجزائر، والمغرب -استطاعت المغرب، تجاوز ذلك بالاعتراف ببعض الحقوق للامازيغ ثقافيا ولغويا! ولا تزال المشكلة قائمة فى بعض البلدان العربية.
لا شك أن تسليع مفهوم الحرية، وتحوله إلى جزء من عالم الاستهلاك، والاشتهاءات والرغبات فى سوق السلع والخدمات، وتفاقم وتمدد هذا الوضع مع حالة التذرى المجتمعى، والتشظى، وغياب السرديات الحداثية الكبرى، وأيضا السرديات الوطنية، لصالح الفردنة -دونما فردانية جماعية- وظواهر التشيئ الرقمى، والتحول من الحياة الفعلية إلى الحياة الرقمية.
تمثل الفضاءات الرقمية، ولغتها، وخطاباتها – المنشورات، والتغريدات، والصور والفيديوهات الطلقة – إلى مجالات للتحقق الفردى الرقمى، ومن ثم إلى توزيع فوائض القمع الذاتى، والسياسى، والدينى الفعلية علي خطابات الرقمنة، ومن ثم إلى عدم الفاعلية على الواقع الفعلى الموضوعى، والأهم التحول من المبادرات الفردية والجماعية فى الحياة الفعلية، والسعى إلى تحقيقها سياسيا، وقانونيا إلى الافعال الفردية نسبياً على الواقع الافتراضى.
الأهم أن تحليل عينة من توجهات الحياة الرقمية، تشير إلى سعى الجموع الرقمية الغفيرة، إلى التحقق والحضور الفردى بديلا عن التحقق الفعلى السياسى والاجتماعى الجماعي والفردي الفعلي ، والقانونى فى العالم العربى، وإلى غياب نظرات مستقبلية حول مواجهة مشكلات المجتمعات العربية -إلا قلة قليلة-، وإعادة النظر فى مفاهيم الحرية فى عالم متغير، يسوده الذكاء الاصطناعى، والإناسة الروبوتية وانعكاسات ذلك علي الشرط الإنساني الوجودي في المقبل من السنوات والعقود .
المصدر: الأهرام