ظهرَ نتنياهو قبل أيام إلى جانب وزير الخارجية الأميركي، متوعّداً بشار الأسد بسقوط نظامه إذا بقي مرتبطاً بإيران، فلم يتأخر ردّ الثاني وظهر مستقبلاً رئيس الأركان الإيراني، بعد توقيع الأخير اتفاقية تعاون عسكري شامل مع وزير دفاعه. يجوز بالتأكيد قراءة الحدثين على نحو مختلف، وأن يكون تهديد نتنياهو استباقاً للاتفاقية التي يعلم بالتحضير لها، وأن يأتي توقيعها استئنافاً لمسار إيراني لا تلجمه حتى الآن الضربات الإسرائيلية أو العقوبات الأمريكية.
قد يُقال الكثير عن تواضع القدرات الإيرانية العسكرية، وتالياً عن عدم أهمية هذا الاتفاق الذي يُفترض به دعم قوات الأسد. إلا أنه ليس اتفاقاً رمزياً فحسب، ولا إعلامياً موجهاً إلى جمهور الممانعة أو إلى الخصوم. هو اتفاق يعكس اهتماماً إيرانياً غير مسبوق بقوات الأسد ككل، بينما انصب انشغال طهران “خاصة منذ انطلاق الثورة” على تأهيل الميليشيات والسيطرة عليها، سواء كانت خارج ما يسمى القوات النظامية أو تتبعها شكلياً. القسمة الرائجة إعلامياً إلى وقت قريب جداً وضعت “القوات النظامية” من نصيب موسكو، في حين يتركز نفوذ طهران على الميليشيات، ومن ضمنها الفرقة الرابعة حسبما يُشاع.
راجت أيضاً فرضية سعي موسكو إلى حل الميليشيات المدعومة إيرانياً، أو دمجها في القوات النظامية التي باتت تشرف عليها، بل قيل الكثير عن الضباط الروس الذين يديرون مقر الأركان في دمشق. لا يخرج عما سبق الترويج لنجاحات روسية في إطار التنافس بين موسكو وطهران، وكأن هناك حرباً خفية بين الطرفين تحقق لموسكو مصالحها ولواشنطن وتل أبيب مطالبهما في إبعاد طهران. وإذا صدّقنا ذلك كله فإن الاتفاق الجديد يعني اختراق الإنجازات الروسية السابقة كلها، وهو موجّه في المقام الأول ضد مصالح “الحليف” الروسي، لأنه يضع لأول مرة الجانب الإيراني شريكاً عسكرياً للقوات النظامية التي كان يسهل إلصاق تبعيتها بموسكو، بسبب الجهود الروسية الأخيرة وأيضاً بسبب علاقة عمرها عقود من التسليح والإشراف والتدريب الروسيين.
على صعيد متصل، أوحى غياب بشار الإعلامي مع العديد من أحداث الأشهر الأخيرة بأنه ممسوك روسياً، وبأن تغييبه وتهميشه يمهد لتطورات في الاتجاه المخالف للاتفاق الأخير. ظهور بشار مستقبِلاً رئيس الأركان الإيراني بعد توقيع الاتفاق، وكلامه عن العلاقة الاستراتيجية التي تربط بين الطرفين، إما أنه ينقض التحليل السابق أو أنه يطل من النافذة الإيرانية برضا روسي. لكن، من دون استبعاد رغبته في اللعب بين الحليفين، ثمة أسباب تدفع بشار في اتجاه طهران أكثر من تلك التي تضعه كلياً في سلة موسكو.
أيضاً، قيل الكثير عن تفضيل الموالين موسكو على طهران لدوافع متعلقة بالتبشير الشيعي، وكأن بشار كان يتوق إلى من يخلصه من الهيمنة الإيرانية أو هو مكترث بمزاج مواليه. الواقع قد يخالف تلك التحليلات المنطقية، لأن الشراكة الأسدية-الإيرانية أثبتت متانتها منذ عقود، وهي بين شركاء أكثر تقارباً وتماثلاً من الحليف الروسي المستجد بحضوره المباشر في المنطقة. تدني قيمة الشريك الأسدي ينبغي ألا ينسينا أنها من أقوى التحالفات وأكثرها ديمومة في المنطقة، تحالف يسنده ما هو سياسي أو استراتيجي تقرره طهران، لكنه يقوم أيضاً على ذهنية متشابهة وعمل متكامل لسنوات طويلة على العديد من المستويات، بما في ذلك أحطّها من قبيل الاعتماد الممنهج على تجارة المخدرات أو تزييف العملة.
ما يسهم في إنعاش الدور الإيراني أن موسكو نفسها اختارت سياسة المواجهة التقليدية، ففي الأيام الأخيرة أعلنت انسحابها من الآلية الأممية لتبادل المعلومات حول المواقع الإنسانية في سوريا، ثم استخدمت حق الفيتو بهدف وقف دخول المساعدات الإنسانية عبر تركيا. كما نعلم فإنها استغلت تبادل المعلومات في ما مضى لقصف العديد من المستشفيات، وكانت في ما سبق قد اشترطت تخفيض عدد منافذ تقديم المساعدات من أجل الموافقة على التمديد، أي أنها في المجالين تمارس السياسة الأسدية ذاتها من تجويع وقصف المنشآت المدنية الحيوية، بينما تحتج على قانون أحادي هو قانون قيصر.
التفاؤل بالدور الروسي لم تكن موسكو مصدراً له، فعلى مستوى السياسات لم تطرح يوماً تصورات تقترب مما هو مأمول منها. إنها، لأول مرة، ينال احتلالها رضا طيف واسع من القوى الدولية والإقليمية المعنية بسوريا، ويسلّم لها بالبقاء وبنفوذ مستدام، وبالمساعدة في إعادة الإعمار فيما لو قررت إدارة انتصارها بمنطق الطموح لا بمنطق الجشع الأعمى والمواجهة. هذه العقلية الروسية هي ما يجعلها أسيرة الشريك الإيراني، وأسيرة قرارها الإبقاء على بشار الذي يبقى هواه إيرانياً مهما رضخ لشروطها وإذلالها. ثم إن هناك فرقاً بين ما تقدر عليه نظرياً وما تقدر عليه واقعياً، إذ من السهل عليها نظرياً التخلص من بشار والبدء بمرحلة جديدة مطلوبة ينتظرها السوريون والخارج، لكن هذا التبسيط لا يتوافق مع واقع العلاقات الروسية-الإيرانية التي تتجاوز بأهميتها الشأن السوري، وتملك فيها طهران العديد من مفاتيح القوة، بما فيها القدرة على تحويل سوريا إلى مستنقع لموسكو.
كانت موسكو قد أوقفت حملتها “غير الرسمية” على بشار الأسد، وأعادت التأكيد على دعمه من قبل مسؤولين حكوميين، وها هو يطل عبر الاتفاق العسكري مع طهران، بما يطوي صفحات من التكهنات حول اقتراب التسوية التي قد تطيح به. عودة بشار، في أجواء المواجهة الحالية، لا يمكن أن تكون سوى وصفة لتصعيد ما، على غرار وجوده الذي أصبح عنواناً للحرب. رئيس الأركان الإيراني كان قد أشار بعد التوقيع على الاتفاق إلى الوجود التركي الذي ينبغي أن ينتهي باتفاق أنقرة وبشار أمنياً، ومن المعلوم أن بشار الأسد يتطلع إلى استرجاع المناطق الواقعة تحت النفوذ التركي، وهو غير راض عن السياسة الروسية التي تمنع حتى الآن تجدد الحرب. لكن شبح مواجهة عسكرية إيرانية-إسرائيلية قائم أيضاً عبر سوريا ولبنان، والاتفاق الجديد بين بشار وطهران قد يعفي موسكو من مسؤولياتها وحرجها إزاء الغارات الإسرائيلية، وفي الوقت نفسه ينتقص من دورها كإطفائي وإداري يهندس توزيع مناطق النفوذ. وفق تعبير كلاسيكي، يبدو أن موسكو لا تستطيع التقدم خطوة إلا وتتراجع خطوتين إلى الوراء، هكذا يتقدم بشار خطوة من دون أن يبارح مكانه.
المصدر: المدن