ذهب بشار الأسد إلى القمة العربية التي عقدت منذ بضعة أيام في العاصمة البحرينية المنامة، لكنه بقي ساكتاً، أو بالأحرى مستمعاً، حيث لم يخصص له وقت لإلقاء كلمة فيها، الأمر الذي أثار استغراب المراقبين ومعهم العديد من السوريين، الذين تساءلوا عن أسباب بقائه في وضعية الصامت، وهو المعروف بثرثرته الفائضة، وليس من عادته أن لا يفوت فرصة مثل هذه، كي يدلي بفذلكته وترهاته التي تثير الغثيان والقيء حين يتخذ دور المحاضر والمعلم والواعظ، وغالباً ما يتفوه بكلمات وعبارات لا يفهم معناها تماماً، وتدلّ على مدى غبائه وتفاهته.
إذاً، تحول الأسد إلى مستمع هذه المرة، واكتفى بالجلوس على كرسي سوريا في القمة العربية، كي يسجل حضوره للمرة الثانية منذ إعادة عضوية نظامه في الجامعة العربية، في حين ارتاح من كان حاضراً في القمة، وخارجها، من تبعات الاستماع إلى مخاتلاته واسترسالاته السائبة. وربما اضطر إلى اتخاذ هذه الوضعية، لأنه استمع إلى نصيحة أحدهم، كي لا يثير المزيد من التساؤلات عما قدمه خلال الفترة الماضية بخصوص متطلبات التطبيع العربي، ولكيلا يتمّ تسليط الضوء على المبادرة العربية، التي أراد واضعوها أن يتعاون النظام في قضيتي، مكافحة تهريب المخدرات إلى البلاد العربية وخاصة الأردن، وإعادة اللاجئين إلى بلادهم، فضلاً عن عدم انخراطه في الحل السياسي وفق القرار 2254.
لم يلجأ نظام الأسد إلى تمرير الوضعية التي اضطر إليها بشار الأسد في قمة المنامة، بل راحت وسائل إعلامه تحاول، بشكل يثير الضحك والاستهجان، تبريرها بالزعم بأنها تعبرّ عن تسجيله موقفاً حيال المنظومة العربية، وذلك “انطلاقاً من ثبات الرؤية السورية تجاه المستجدات التي تشهدها المنطقة، إذ سبق أن حددّ وعلى مدى سنوات عديدة رؤيته لمختلف القضايا العربية بما فيها العروبة والقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي وإصلاح الجامعة العربية”، وبالتالي لا داعي لأن يعيد تكرار رؤيته ومواقفه الثابتة حيال القضية الفلسطينية وسواها من القضايا العربية، لأن “ما تمر به المنطقة العربية اليوم يؤكد أن ما طرحه الرئيس عبر قمم عديدة سابقة أثبت أنه الرؤية الوحيدة القادرة على تحقيق المصالح العربية”، وعليه، فإن صاحب الرؤية الاستشرافية آثر وضعية الصامت احتجاجاً على عدم الأخذ بما حدده في مواقفه السابقة حيال القضية العربية بشكل عام، والقضية الفلسطينية بشكل خاص. وهو أمر يثير السخرية المريرة، بالنظر إلى حجم وقاحة هذا النظام، الذي لا يعرف سوى إنتاج وتسويق التدليس، وتزييف المواقف والخطابات، وإطلاق الشعارات الفارغة، وتزيين مواقفه بالافتراءات والكذب، ومحاولة طمس حقيقة مواقفه المفضوحة أمام الجميع.
قد يكون أحد أسباب وضعية الأسد الصامتة هي أن لجنة تحضير قمة المنامة اعتمدت تقليص توقيت كلمات المشاركين إلى ثلاث دقائق، بعد أن كانت مفتوحة في القمم العربية السابقة، وهي مدة لا تكفي الأسد كي يسترسل في ترهاته وافتراءاته، ويطلق العنان لشهقاته وقهقهاته اللتين اعتاد على إطلاقهما بشكل فاقع في كل حطاباته. إضافة إلى أن تقصير مدة الكلمات كان بهدف تخصيص وقت أكبر للمداولات والنقاشات حول قضايا القمة الكثيرة، وخاصة القضية الفلسطينية، وهو لا يملك الأسد شيئاً يمكن أن يقدمه في دعم هذه القضية وناسها، بالنظر إلى حرصه منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة على اعتماد موقف محايد، حيث لم يسمح لأي مظهر من مظاهر التضامن الشعبي مع أهل غزة في مناطق سيطرته، والتزم بالتهديد الإسرائيلي من مغبة الرضوخ لمطالبة النظام الإيراني باتخاذ مواقف داعمة لحركة “حماس”، وبعدم السماح لأي فصيل إيراني بإشعال فتيل جبهة الجولان.
سبق للأسد أن شارك في قمة الرياض الاستثنائية، التي عقدت في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، ومنذ ذلك الحين لم يقدم أي دعم للفلسطينيين في حرب الإبادة التي إسرائيل عليهم في قطاع غزة، بل اتخذ في قمة الرياض موقف المحاضر الذي أراد أن يفهم الزعماء العرب ممكنات وحيثيات الحرب والسلام مع إسرائيل، وانتهز القمة بوصفها مناسبة كي يؤكد على أن الانتقال “من حضن لآخر”، لا يعني تغيير “انتماء” الإنسان، وتوجيه رسالة لقادة الأنظمة العربية بأن نظامه باق على موقفه وتحالفاته السابقة، وأنه لا يزال يتخذ حضن ملالي النظام الإيراني ملاذاً له، لذلك راح يشكك بفعالية جامعة الدول العربية، وزاود على المطالبين بضرورة تطوير آلية علمها “تماشياً مع العصر”، ومراجعة ميثاقها ونظامها الداخلي.
قد يكون النظام البحريني، الذي لا يفترق كثيراً عن نظام الأسد، هو من نصح الأسد باتخاذ وضعية المستمع، وذلك تحسباً من استفزازه الحاضرين في القمة، وحرصاً من ساسة البحرين الذين استضافوا القمة على إنجاحها وفق معاييرهم، وربما وعدوه بالتوسط لدى ساسة الولايات المتحدة، كي يتخذوا مواقف لينة حيال خطوات التطبيع العربي مع النظام.
لا شك في أن مشاركة الأسد في قمة البحرين، تعدّ خطوة أخرى في مسار التطبيع العربي معه، الذي تحدد وفق مقاربة “خطوة مقابل خطوة”، التي تتطلب من نظامه القيام بخطوة لكبح عمليات تهريب المخدرات من أراضيه، وتأمين الأرضية اللازمة لعودة اللاجئين إلى ديارهم. وتشكلت وفقها لجنة اتصال عربية لم تتمكن سوى مع عقد اجتماعها الأول، في حين أن اجتماعها الثاني الذي كان مقرراً في بغداد في الثامن من مايو/ أيار 2024، ألغي لأن النظام لم يقدم أي خطوة حيال القضايا المطلوبة منه.
يبدو أن رغبة النظام في استثمار التطبيع العربي هي من أجبرت الأسد في نهاية المطاف على اتخاذ وضعية المستمع على مضض، وذلك أملاً في يستثمر النظام البحريني دبلوماسيته من أجل المضي في اتخاذ خطوات تطبيع أخرى معه، ربما مع النظام السعودي. وقد يكون اللقاء الذي جمع الأسد بولي العهد السعودي محمد بن سلمان على هامش القمة، يصب في هذا المنحى، لكن النظام يعلم أن عليه القيام بخطوات، وأن لكل دولة عربية اشتراطاتها ومصالحها الخاصة، ولا يمكنه اللعب معها طويلاً.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا
المقال ليس بالضرورة ان يعبر عن رأي الموقع