عندما يصل هذا الملحق إلى القارئ سيكون الرد العسكري الإسرائيلي على الهجوم الإيراني من خلفنا غالباً. كل عمل عسكري تبادر إليه إسرائيل ينطوي على كثير من الترددات مع قرب ليل الفصح وحتى مع مزاج آية الله في قم والرئيس في البيت الأبيض. إن انتقال إيران إلى هجوم مباشر، علني، ضد أهداف في إسرائيل يفتح صفحة جديدة في الحرب بين الدولتين.
واحد من أصحاب القرار المركزيين أبرز سبب تبرير عمل عسكري الآن، ويسعى لعملية تكون موضعية ومحدودة وعاقلة. وجسد رأيه بقصة رائعة من الكتب المقدسة (التناخ). أوصي القراء بأن يفتحوا سفر صموئيل أ، الإصحاح 24. أراد الملك شاؤول يقتل داوود، فلاحقه. ذات يوم، دخل شاؤول ومقاتلوه إلى مغارة اختبأ فيها داوود ومقاتلوه. “يقول له رجال داوود ها هو اليوم الذي قال فيه الرب لك ها أنا أعطيك عدوك في يدك”. بكلمات أخرى: اقتله. أمامك فرصة.
لكن كانت لداوود مخططات أخرى. اقترب من شاؤول وقص له في الخفاء طرف معطفه. لم يشعر شاؤول بضر، نهض ورحل. وعندها ظهر داوود من خلفه، لوح بقطعة القماش وقال: “ها هو اليوم رأت عيناك… قطعت طرف معطفك ولم أقتلك، فاعلم أني لا أكن لك شراً”.
شاؤول، حسب رواية التناخ، تأثر بالبادرة الطيبة، فتصالحا. لا احتمال أن إيران سترد هكذا على العملية الإسرائيلية؛ لقد أخطأت شعبة الاستخبارات في تقدير الرد الإيراني على تصفية الجنرال زاهدي في دمشق؛ وقد تخطئ مرة أخرى.
الأوراق الجديدة
ثلاث حكومات خرجت راضية من أحداث السبت الأخير. فقد أثبتت الإدارة الأمريكية قدرة عسكرية وتحكماً بالتحالف الإسرائيلي – السُني الذي أقامته: هذا انتصار تكتيكي واستراتيجي؛ وحكومة إسرائيل صدت الهجوم واستعادت لنفسها عطف حكومات الغرب ووسائل الإعلام الدولية وأجزاء في الرأي العام: هذا انتصار تكتيكي واستراتيجي.
أثبت النظام الإيراني بأنه قادر على مهاجمة دولة أجنبية بمئات الذخائر الفتاكة. صحيح أن الهجوم صد وتكبدت إيران فشلاً تكتيكياً، لكن لها حقاً كاملاً في الاعتقاد بأنها حققت انتصاراً استراتيجياً. ربما تتصرف كقوة عظمى على حافة النووي، وقد تسمح لنفسها. في المرة التالية، ستطلق ذخيرة أكثر بوتيرة أسرع في توقيت أكثر راحة. إذ يمكنها التغلب على المشاكل التكتيكية.
هو تحذير لمقرري السياسة: التحالف الدولي الذي صد الإطلاقات من إيران ليس ملتزماً بإسرائيل إلى الأبد؛ لا أمريكا ولا بريطانيا وبالتأكيد لا الأردن والسعودية. محظور التعاطي معه كهدية مجانية، كشيء مسلم به. لنجاح السبت الماضي الكثير من الآباء، وكل منهم يتوقع مقابلاً.
في الخطاب الداخلي، في المستوى السياسي والعسكري على حد سواء، هناك من بحث عن طريق لاستغلال الفرصة. إيران وأفعالها عادت إلى مقدمة المنصة، وهذا خير؛ وكلاؤها رأوا كيف أنها تنضم إلى المعركة وإذا بها تصد وتهان حتى النهاية. نصرالله قال لنفسه، كما لاحظ أحد المسؤولين الإسرائيليين، نصف سنة وأنا أقاتل إسرائيل وأفقد ضباطاً كباراً ومقاتلين، وعندما ينضم سيدي مع كثير من الضجيج والرنين، لا ينجح في تسجيل هدف واحد على العدو. فلعل خيار المفاوضات ليس سيئاً بهذا القدر.
والأهم، أن الغرب يفهم بأن النظام الإيراني يسير بعيداً، وبات خطيراً أكثر مما اعتقدوا. وهذا يؤثر على الطريقة التي يرى فيها الغرب المشروع النووي. لعله يجب اقامة تحالف أكثر توثيقاً ونجاعة لهزيمة إيران.
أو على سبيل البديل، لعلها فرصة لحل مشاكل أخرى. لإسرائيل أوراق جديدة لتلعب بها. تريدوننا ألا نهاجم إيران؟ حسن. دعونا نحل مشكلة رفح. دعونا نحل مشكلة حزب الله. أو العكس، دعونا نوجه ضربة أكبر لإيران وعندها نعلن عن نصر مطلق سوقناه لقاعدتنا طوال أشهر، ونسمح لأنفسنا بإعطاء السنوار كل ما يريد ونتلقى كل المخطوفين ونتجاوز رفح.
كل هذا لم يحصل هذا الأسبوع. تلبثت إسرائيل في توجيه الضربة لإيران –لأسباب عملياتية– فتح الباب لضغط دولي بدأ يقضم بالدعم لها. رون ديرمر، مبعوث نتنياهو إلى الإدارة الأمريكية، وصل إلى واشنطن. وهو غير مفوض تفويضاً واضحاً، لا في موضوع رفح ولا في موضوع إيران. نصف سنة وإسرائيل تتحدث عن مسألة اليوم التالي. كل القيادة الأمنية، من الجيش لـ “الشاباك” وحتى الموساد، ملأت الغرف المغلقة بأننا إذا لم نعمل على بديل لحماس في غزة، فستضيع كل إنجازات الجيش هباء، وستعود حماس. بعض من وزراء الكابنيت يقولون أموراً مشابهة، ومثلهم جنرالات متقاعدون يظهرون في وسائل الإعلام. الجيش الإسرائيلي يبقي خلفه فراغاً، والفراغ يمتلئ. حماس تعود إلى دير البلح، إلى خانيونس، تعود على نحو صغير إلى شمال القطاع أيضاً، لكن نتنياهو يصر على موقفه. “مالطا يوك”، أي لا توجد مالطا. هكذا قال الأتراك بعد أن هزموا في المعركة على الجزيرة. “غزة يوك”، أي لا توجد غزة، يقول نتنياهو. أوراق أم لا أوراق، يبدو أن إسرائيل ليست في اللعبة.
يريد اتفاقاً
مئات الأشخاص، في الجيش و”الشاباك” وهيئة الأمن القومي يعملون منذ نصف سنة على مسألة المخطوفين. آراؤهم عن السنوار وحماس متنوعة؛ كل وخبراته، كل وتحليلاته. بقدر ما أعرف، يسود هذه المنظومة إجماع حول موضوع واحد: السنوار يريد اتفاقاً.
يريد الاتفاق بشروطه؛ قاتل وحشي، بل وربما مجنون، لكنه ثابت جداً، لا يغير شروطه منذ أشهر. العرض الحماسي الأخير الذي طرح على إسرائيل يدور حول المطالب إياها. السنوار لا يشدد مطالبه: هو يتمسك بها.
للأسف، قد يسمح لنفسه بذلك؛ إما أن يكون واثقاً بأن إسرائيل لن تصل إليه أو أنه لا يأبه له. حقوقه كشهيد حصل عليها من الآن. ها هي الحقائق: هي عسرة على الهضم، لكن لا توجد حقائق وافرة أخرى في هذه اللحظة.
وعليه، يصعب عليّ فهم منطق الحملة الجارية هنا في الأيام الأخيرة، حملة عنوانها “حماس لا تريد صفقة”. ظاهراً، يقف الموساد ورئيسه دادي برنياع، من خلف هذه الحملة. لكن في عصرنا لا يمكن أن نعرف ونستبعد إمكانية أن يكون هذا سوء فهم وإخراج عن السياق، بالخطأ. الدليل: لم يعلن برنياع بعد أنه يعتزل منصبه كرئيس طاقم المفاوضات. ما المعنى من إضاعة وقت رئيس الموساد ورئيس “الشاباك” واللواء احتياط ومندوب الجيش، ومئات عامليهم، إذا لم يكن الطرف الآخر معنياً بالصفقة.
عندما يغيب المنطق، تولد نظرية مؤامرة. وهذا ما يحدث في الحالة المشحونة والحساسة جداً هذه. تقول النظرية: أمام ضغوط عائلات المخطوفين، وأمام المصدرين المجهولين في طاقم المفاوضات اللذين ادعيا في برنامج “عوفدا” التلفزيوني بأن نتنياهو يفشل الصفقة، بحث مكتب رئيس الوزراء عن ابتكار يطفئ النار؛ فتطوع رئيس الموساد بالعمل نيابة عنهم.
ولعل الحال مقلوب على مقلوب: رئيس الموساد، من خلال الناطقة بلسانه، يسعى لإقناع الجمهور بمن فيهم عائلات المخطوفين، بأن لا مفر من السير حتى النهاية وقبول كل مطالب حماس ووقف الحرب، والانسحاب من القطاع والسماح لحماس بإعادة بناء نفسها، مقابل المخطوفين. كثيرون في الساحة مقتنعون بأنه إذا واصلت الحكومة سياسة عدم القرار خاصتها، فلن تكون النتيجة النهائية بعيدة عن هذا. يصعب عليّ أن أصدق بأن رئيس الموساد يسعى لهذا.
لا، يقولون لي. المقصود هو التأثير على السنوار وعلى الوسطاء الإيضاح بأن صبر إسرائيل يقترب من نهايته. لا أعتقد أن السنوار يعيش اليوم حسب العناوين في صحف إسرائيل: المشاهد الأصعب لم تساعد في تغيير رأيه. أما بشأن الوسطاء فيجرون حساباتهم، حساباتهم فقط: قطر ترفض الاستسلام للطلب الإسرائيلي بإبعاد عائلات حماس من أراضيها ومصادرة أموال المنظمة، وتعمل من أجل ذاتها وليس من أجلنا، ومثلها مصر أيضاً؛ أمس دخلت شاحنات محملة بالسجائر إلى غزة. فهل هذه مساعدة إنسانية؟ علاج لتحسين الصحة؟. لكن أحداً ما في مصر يريد أن يكسب المال من الوساطة.
الفرص التي فوتت
نشأت الفرصة مرتين لإجبار حماس على تليين مواقفها: الأولى في أثناء العمل على الصفقة الأولى، في تشرين الثاني 2023. كان السنوار بحاجة يائسة للوقود والأدوية والغذاء. الضغط العسكري في شمال القطاع، في مدينة غزة وبناتها، كان صعباً جداً عليه. وافق على تحرير مخطوفين. عندما رأى أنه ينقصه مخطوفون كي يستوفي شروط الصفقة وطلب تغييرها، استخدم الطرف الإسرائيلي الفيتو. كان هذا خطأ مأساوياً. أولئك الذين اتخذوا القرار في طرفنا لم يتصوروا بأنهم يحكمون على المتبقين بنصف سنة في الجحيم وربما بالموت.
أما الفرصة الثانية فكانت في الشهر الماضي، في ذروة السيطرة الإسرائيلية في خان يونس. كانت إسرائيل تمسك ورقة مهمة بيدها. كانت حماس مستعدة للتراجع عن مطلب الانسحاب الإسرائيلي الفوري من القطاع كله، لكنها أصرت على إلغاء بتر القطاع وإعادة السكان إلى الشمال. استخدم الجيش الفيتو، وتمسك به نتنياهو، وتبدد الاحتمال. ريما يستخدم نتنياهو والكابنيت الفيتو حتى بدون الجيش – السؤال افتراضي. الجيش مستعد اليوم للتنازل عن البتر والسماح للفلسطينيين بالعودة إلى الشمال، لكن السنوار عاد إلى أجندته الأصلية.
في إطار الحملة يتحدثون عن أربعين مخطوفاً تعهد السنوار بإعادتهم في الماضي في إطار الجولة الإنسانية، عدد نزل في عرضه الأخير إلى أقل من عشرين. وهذا غير دقيق وفق فهمي. لم يجرِ الحديث عن أربعين، بل أقل. بقي المبدأ على حاله: نساء (بمن فيهن مجندات)، شيوخ ومرضى. السؤال: كيف يعرف المرضى؟ ربما يكون بعضهم غير أحياء. وربما تحسن وضع بعضهم. وربما فقد السنوار السيطرة على بعض من المرشحين للتحرير. ولهذا يعرض، مثلما عرض مع نهاية الجولات الأولى، السماح له بالعثور عليهم.
كما أني لا أفهم ما المتوقع أن تفعله العائلات، فلا يمكنها التظاهر أمام بيت السنوار في خانيونس؛ ما تبقى لها هو محاولة الضغط على حكومة إسرائيل. كما أن ما جرى حتى اليوم لم يجرِ بدون ضغط الحرب. لم تكن العائلات لتغفر لنفسها لو بقيت في بيوتها. ينبغي التفكير فيها وفي أزمتها.
“نفعل كل شيء لنعيد المخطوفين”، يقول الناطق العسكري دانيال هاغاري في كل مؤتمر صحافي. لا شك أن هذه هي النية. لكن الواقع أكثر تعقيداً.
المصدر: يديعوت أحرونوت /القدس العربي