في “اليوم التالي” تكون الحرب على غزّة قد وضعت أوزارها، وتكون القوات الإسرائيلية الغازية قد انسحبت من جميع أجزاء القطاع، ويكون القتال قد توقّف، والوقف المستدام لإطلاق النار قد تحقّق، وتكون المساعدات الإنسانية قد بدأت تتدفّق من دون عوائق ومن دون احتساب أعداد الشاحنات. وفي اليوم التالي أيضاً، يكون النازحون الغزّيون قد سارعوا في العودة إلى ما تبقّى من بيوتهم واستعادة ما تبقّى من محتوياتها. وفي اليوم التالي، ثالثاً، يكون قد بدأ إحصاء الخسائر البشرية والمادية وتقدير حجم التعويض المالي عمّا يمكن التعويض عنه من الخسائر الهائلة. وفي اليوم التالي للحرب، أخيراً، يكون قد أنجز ما وجب إنجازه في مستوى تبادل الأسرى والرهائن، كما في مستوى فكّ الحصار والترتيبات الأمنية على معبر رفح، وغيره من معابر. ولا تشرق شمس اليوم التالي من دون تحقيق كل ذلك (!) بكلمات أخرى، أولاً، اليوم التالي للحرب والقتال ليس على مرمى أسابيع أو أِشهر قليلة، ويحتاج التبشير بقدومه إلى توافق أطراف كثيرة، محلّية وإقليمية ودولية ذات علاقة. ثانياً، قد يتأخّر أو يتعسّر قدوم هذا اليوم التالي كثيراً إذا أصرّت حكومة إسرائيل على تحقيق أهدافها المُعلنة بحسب تفسير رئيسها، بنيامين نتنياهو، الذي يضيف مفهوم المطلق إلى تلك الأهداف كلّها. وفي جميع الأحوال، لا تشرق شمس اليوم التالي من دون أن تعرف هوية من يحكم قطاع غزّة، بعد الحرب والقتال والانسحاب.
من يحكم غزّة في اليوم التالي للحرب؟ … من الواضح والجلّي أنّ حركة المقاومة الإسلامية (حماس) لا تستطيع الاستمرار في حكم قطاع غزّة بصورة حصرية أو رئيسة بعد الحرب وانتهاء القتال وانسحاب القوات الغازية، وذلك لثلاثة أسباب: يكمن الأول في استنزاف قدراتها خلال فترة الحرب. الثاني، وهو الأكثر أهميّة، يكمن في عدم قبولها من تلك الأطراف الخارجية التي ستقدّم الدعم اللازم لعملية إعادة الإعمار (واسعة النطاق وعالية التكاليف). أمّا السبب الثالث، فيكمن في حصّتها من المسؤولية عن الخسائر المروّعة، البشرية والمادية، لعملية عسكرية بادرت إليها يوم 7 أكتوبر. ومن ناحية ثانية، لن يكون في مقدور السلطة الفلسطينية حكم قطاع غزّة بصورة حصرية أو رئيسة بعد الحرب، لافتقارها أصلاً إلى شرعية الحكم، سواء في قطاع غزّة أو في الضفّة الغربية، ولافتقارها إلى القوى الأمنية الكافية والقادرة. والأكثر أهمية من ذلك كلّه عدم الترحيب بها من الغزّيين الذين أذهل كثيرين منهم عجزُها وتخاذُلها خلال فترة الحرب والقتال. ومن ناحية ثالثة، لن يقبل الغزّيون، بعد كلّ ويلات الحرب وأهوالها، في اعتقاد كاتب هذه السطور، وصايةً غير فلسطينية، عربيةً كانت تلك الوصاية أم دولية. وبناءً عليه، حكم قطاع غزّة في اليوم التالي للحرب مرهون بتوافق القوى السياسية الفلسطينية، الوطنية والمؤثرة، على تشكيل حكومة طوارئ، تشارك فيها أو تقبل بها كلّ من السلطة الفلسطينية وحركات المقاومة الإسلامية، وتكون مقبولة في الوقت ذاته من الداعمين لعملية إعادة الإعمار، التي من شأنها محاصرة الهجرة القسرية/ الطوعية، وتسريع عودة النازحين من الجنوب إلى الشمال.
ويشرق صباح “اليوم بعد التالي” هذا، حين يكون النازحون إلى الجنوب، وجنوب الجنوب، قد عادوا إلى ما تبقّى من منازلهم في الشمال، وشمال الشمال، وبعد أن تكون عملية إعادة البناء والإعمار قد انطلقت وعلى أشدّها. وفي اليوم بعد التالي، وبالتوازي مع عملية إعادة الإعمار، يتحتّم التوافق حول إنجاز المهام الرئيسة الآتية، ذات العلاقة بتجاوز واقع الانفصال بين شطري الوطن، وبإعادة بناء البيت الوطني الفلسطيني الجامع وهيئاته التمثيلية: أوّلاً، إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، المستحقّة منذ أكثر من 15 عاماً. وفي هذا الصدد، قد تكون فكرة الفيدرالية عاملاً مساعداً في إعادة توحيد العلاقة وتنظيمها بين الشطرين؛ قطاع غزّة والضفّة الغربية. ثانياً، مباشرة بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية يجب أن يبدأ العمل الجدّي والحثيث لإعادة بناء المجلس الوطني الفلسطيني؛ البيت الوطني الفلسطيني الجامع، على أُسس ديمقراطية وتشاركية، بالانتخابات ما أمكن ذلك، وبالتوافق أينما يتعذّر عقد الانتخابات. وفي جميع الأحوال، يجب أن يكون التمثيل من خلال العملية الديمقراطية هو الغالب والطاغي. ثالثًا، مباشرة بعد انتخاب اللجنة التنفيذية الجديدة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وغيرها من هيئات جامعة، يراجع المجلس الوطني الجديد، مراجعةً نقديّةً، التجربة الفلسطينية خلال العقود الثلاثة الماضية، ويستخلص ما يلزم وما يجب من عِبَر، سواء على مستوى البرنامج السياسي أم وسائل النضال الوطني أم علاقة الاتصال والانفصال بين منظّمة التحرير والسلطة الوطنية التي جاء بها “أوسلو”، ومجروراته من الاتفاقيات والتفاهمات.
المراحل الزمنية الثلاث أعلاه، والمُعبّر عنها مجازاً باليوم واليوم التالي واليوم الذي بعده، مترابطة بصورة مُحكمة. ومن هنا لا يجافي الحقيقة من يدّعي أنّ شمس اليوم التالي لن تشرق من دون تشكيل حكومة طوارئ وطنية تقبل بها المقاومة الإسلامية (شاركت فيها أم لم تشارك)، وأنّ التوافق على مثل هذه الحكومة لن يتحقّق من دون التوافق على آلية إنجاز المهام المذكورة لليوم بعد التالي ومواعيدها. بكلمات أخرى، لن يتوقّف القتال ولن تنطلق عملية إعادة الإعمار في غزّة من دون التوافق على تشكيل حكومة طوارئ وطنية تقبل بها الأطراف ذات العلاقة. وبالمثل، لن يكون هناك توافق على تشكيل مثل هذه الحكومة من دون التوافق الفلسطيني الفلسطيني على آلية إنجاز مهام اليوم بعد التالي، والجدول الزمني المُقترن بذلك. ومن دون هذا التوافق أو ذاك، هناك مخاوف حقيقية من استمرار القتال وعدم الانتقال إلى اليوم التالي في الحالة الأولى، وهناك مخاوف حقيقية ذات علاقة باستمرار واقع الانفصال وعدم الانتقال إلى اليوم بعد التالي في الحالة الثانية.
وأخيراً، يقدّم التصوّر الموجز أعلاه الخطوط العريضة لما يتحتّم عمله فلسطينياً في اليوم التالي للحرب على غزّة، ولاحقاً، لغرض إعادة إعمار ما دمّرته الحرب الوحشية، ودمّرت كثيراً كثيراً، كما لغرض حكم قطاع غزّة بعد الحرب وإعادة ربطه بالضفّة الغربية، ولغرض إعادة بناء المجلس الوطني والسلطة الفلسطينية وتجديد الشرعيات التي تداعت وانهارت مع الزمن. غنيّ عن القول إنّ ما ورد أعلاه بشأن اليوم بعد التالي ليس جديداً، لكنّه يصبح أكثر وضوحاً وإلحاحاً بعد الحرب. وليس خافياً أيضاً أنّ مثل هذا التصور يفترض انسحاباً كاملاً للقوات الإسرائيلية الغازية من قطاع غزّة، وإنهاءً للحصار الخانق والظالم وطويل الأمد. هناك ما يبرّر مثل هذا الافتراض، خاصة إذا أخذنا بالاعتبار تلك التغيرات الجدّية التي طرأت على مواقف دول وشعوب كثيرة، خصوصاً في أوروبا الغربية والشمالية والأميركيتيْن، باتجاه التعاطف مع المظالم والطموحات الوطنية الفلسطينية، وباتجاه النفور من الدولة الصهيونية، بسبب ما ارتكبته، وما ترتكبه، من الفظائع والجرائم. وختاماً، إلى جانب ويلات الحرب وأهوالها على غزّة، وحصادها المرعب وغير المسبوق من الأرواح البريئة والأعيان المدنية (كما يعرّفها القانون الدولي)، هناك فسحات أمل وأبواب نجاة، يؤشّر عليها التصوّر أعلاه بشأن مهام اليوم التالي للحرب والقتال، واليوم الذي يليه. فما أحوجنا اليوم، نحن الفلسطينيين الحائرين إلى ذلك الدليل الذي يُوجّهنا ويضبط إيقاع خطواتنا على الطريق نحو الخلاص الوطني.
المصدر: العربي الجديد