سيبقى ردّ طهران ليلة الأحد الفائت على قصف إسرائيل القنصلية الإيرانية في دمشق، يوم الأول من إبريل/ نيسان الحالي، مشهداً فارقاً في تاريخ الشرق الأوسط؛ مشهداً فريداً، فيه غرابة وحتى طرافة، على أهميته. وبينما يمكن لطهران وواشنطن والإسرائيليين ادّعاء الانتصار، رغم أنّهم في خنادق متقابلة، سيؤكّد المشهد أنّ منهج حركات التحرّر في فلسطين، والعامل الذاتي الفلسطيني، في مواجهة الاحتلال، هو الأكثر تأثيراً الذي لا يمكن تجاوزه، فيما باقي المواقف والقضايا متغيّرة ونسبيّة.
افتخر إيرانيون وهتفوا فرحاً وبحماسة، فأسلحتهم (أكثر من 300 طائرة مسيّرة وصواريخ سكود وصواريخ أرض أرض)، قطعت مسافة ألف كيلو متر لتضرب إسرائيل. في المقابل، تفتخر إسرائيل، ومعها الولايات المتّحدة، أنّها أسقطت 99% من الأسلحة الإيرانية، وجعلت نتيجتها أقرب إلى صفر، ومنعت سقوط خسائر في الأرواح، بينما قتلت الغارة الإسرائيلية في دمشق 16 شخصاً. أضحت المُسيّرات الإيرانية جزءاً من الترسانة الروسيّة في أوكرانيا، وهذه “الأسلحة الثلاثمائة” لم تنطلق من إيران وحدها، بل أيضاً من العراق، ولبنان، واليمن، وسقطت في فلسطين ومُحيطها، بما في ذلك الأراضي الأردنية، ما يعني أنّ إيران قادرة على أن تقول إنها موجودة في كلّ مكان غرباً وشرقاً، لكنّه وجود غير حاسم، فهو لا يحقّق نتائج كبيرة عسكرّياً. لم يحدُث سابقاً أنّ تناقل العالم خبر انطلاق الأسلحة من بلد إلى آخر وأنّها تحتاج من خمس إلى سبع ساعات لتصل إلى أهدافها، وكأنّ الخبر يقول: على المستهدفين الاستعداد وتفادي الخسائر. … هذا مشهدٌ فريد، وجده بعضهم طريفاً. فعادةً، تكون الهجمات مفاجئة ومباغتة. بقيت إسرائيل مستيقظة مع كثير من الترقّب والخوف بانتظار وصول المسيّرات والصواريخ، وتكبّدت خسائرَ ماليّةً ونفسيّةً كبيرةً. والسؤال هنا: هل سبب هذا البطْء عجز السلاح الإيراني وتقدّم المنظومات الدفاعية الإسرائيلية الأميركية؟ أم هو جزء من قواعد اشتباك بـ”خطوط حمراء” متّفق عليها ضمنيّاً بشأن الخسائر التي يُسمَح لكلّ طرفٍ أن يُوقِعها في الطرف الآخر جزءاً من استراتيجيات الطرفين؛ الإيراني من جهة، والإسرائيلي الأميركي، من جهة أخرى؟
إسرائيلياً، لطالما كانت إيران موضوعاً يُثار لحرف الانتباه عن المسألة الفلسطينية. فمثلاً، في خطابات رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في الجمعية العامة للأمم المتحدة، يُخصّص جزء كبير للهجوم على طهران، ويتذكّره (نتنياهو) العالم وهو يحمل صورةً ترمز للقنبلة النووية الإيرانية المزعومة. ويواصل الإسرائيليون الحديث عن الخطر الإيراني، وأنّه مبرّرٌ لتطبيع عربي إسرائيلي في مواجهة الخطر الفارسي/ الإيراني/ الشيعي، مع تجاهل الموضوع الفلسطيني. وقد كان في آخر تصعيد إسرائيلي مع إيران حرفٌ للانتباه عمّا يحدث في قطاع غزّة، ولاستعادة قدرٍ من التأييد الدولي الغربي لإسرائيل بعد النقد المتزايد للجرائم الإسرائيلية في غزّة والضفّة.
إيرانيّاً، فإنّ مواجهة إسرائيل، ودعم المقاومة ضدّها، جزء من شرعيّة وأيديولوجية النظام الإسلامي فيها، ووسيلة للحصول على التأييد الشعبي داخليّاً وخارجيّاً. وتَحكمُ سياسة طهران إزاء إسرائيل قواعد؛ أوّلها الواقعيّة السياسية التي كثيراً ما تطفو على السطح، فأحياناً يجري التفاهم والالتقاء ضمناً أو صراحةً مع “الأعداء”، كما في صفقة الأسلحة الأميركية إلى إيران بوساطة إسرائيلية في الثمانينيات (إيران كونترا أو إيران غيت) أو الصمت المتواطئ إيرانياً على الهجمات الأميركية في أفغانستان والعراق وإسقاط الأنظمة هناك في بداية هذا القرن. والقاعدة الثانية، اعتماد الحرب بالوكالة، أي دعم الحلفاء لمواجهة إسرائيل والغرب، خياراً مفضّلاً. والقاعدة الثالثة، أنّه إذا اضطرّت إيران لمواجهة صريحة مباشرة مع إسرائيل، تكون وفق سياسة “حافّة الهاوية”، أي تبادل ضرباتٍ محسوبةٍ لا تؤدّي إلى مواجهة شاملة أو موجعة، وما يوضّح هذه القاعدة الثالثة، التصريحات الإيرانية التي توازت مع الهجمات تستعجل التهدئة، إذ أعلنت بعثة إيران لدى الأمم المتحدة، أنّه مع إطلاق المسيّرات والصواريخ باتجاه إسرائيل “يمكن اعتبار الأمر منتهياً” (أي أنّ هذه نهاية الردّ الإيراني)، وأعلنت الخارجية الإيرانية أنّ ما يحدُث هو “إجراء دفاعي”، في رسالة أنّ إيران لا تريد مواجهة.
عربيّاً، وجدت الدول نفسها، من جديد، في موقف شبه المتفرّج على المشهد الإيراني الإسرائيلي الأميركي. قد يجد بعض الدول ما حدث مبرّراً لشراء أنظمة أسلحة كالتي استخدمتها إسرائيل تحسّباً لهجوم إيراني. ستحتفظ ذاكرة مدن وأجيال عربية وفلسطينية، وإسرائيليين، بمشاهد ليلة الهجوم الإيراني، في سياق “تجربة” حرب غزّة، وسيكون لذلك كلّه تبعات في السلوك السياسي والجمعي العربي لاحقاً، خصوصاً على المستوى الشعبي.
أميركياً، تدرك واشنطن، أكثر من أي وقت مضى، حجم الورطة التي تؤدّي إليها السياسات الإسرائيلية، لكن الإدارات الأميركية ما زالت محكومة بمصالحها وحساباتها القديمة، وعلاقاتها مع نخب اللوبي الإسرائيلي، ويتضّح في اللحظة الحالية أنّ واشنطن ستكبح جماح ردّ إسرائيلي أو تقلّل من حجمه، وقد يكون الموقف الأميركي ذريعة لنتنياهو حتى لا يردّ بهجوم حقيقي كبير.
أثبتت ليلة الأحد أنّ القنبلة الحقيقية التي تنفجر في وجه الاحتلال، وفي وجه محاولات التجاهل الدولي، هي المقاومة الفلسطينية الذاتية. ما حدث، منذ 7 أكتوبر (2023) وصولاً إلى ليل 13- 14 إبريل/ نيسان 2024، أنّ العالم يكتشف، مرّة أخرى، أنّ الفلسطينيين قادرون على لعب الدور المركزي في الصراع، وأنّهم “الرقم الصعب”. وما ثبت منذ 7 أكتوبر وحتى ليلة الأحد الفائت أمور، أهمّها أنّه من دون حل القضية الفلسطينية سيبقى القلق في المنطقة ولا يمكن الادّعاء أنّ تطبيع المنطقة ممكن من دون حلّ المسألة الفلسطينية؛ إسرائيل تتلاعب بالمنطقة لمصلحتها، ولا مصلحة لها أكبر من مواصلة الاحتلال والتمدّد في المنطقة. ثمّ اتضح أنّ منطق المقاومة التي تعتمد على العامل الشعبي الفلسطيني، المدعوم من أشقّاء وأصدقاء، وآخرين، سيبقى الأكثر فعّالية، مع الحاجة الماسّة لدعم سياسي عربي رسمي أكبر، ولقيادة رسمية فلسطينية موحّدة.
المصدر: العربي الجديد