نُدرك جميعًا مستوى الهوان وبيع السيادة الرسمية العربية، في سوق النخاسة، وعلى قارعة الطريق، ونعي جيدًا مدى التراجع العربي، وفقدان المشروع العربي القادر على مواجهة التحديات الكبرى، التي تواجه الواقع العربي برمته، وتجعله يغوص عميقًا في اللا جدوى واللا فاعلية، بل والفوات الرسمي العربي.
لكن لم يتوقع أحد حجم ومستوى الخذلان والهوان والعجز، الذي وصل إليه واقع النظام العربي الرسمي، بينما يرى صبحًا مساءً آلة الحرب العدوانية الأميركية/ الإسرائيلية وهي تستهدف المدنيين الغزاويين، وتجعل من قطاع غزة، (هيروشيما) و(ناغازاكي) جديدة وعصرية، كنتاج للعولمة الغربية، التي أطنبوا آذاننا بها، وخلقوا منها خرائط طريق مفترضة للحضارة والتقانة والتطور. لقد راح كل ذلك يتحطم على صخرة غزة، وحجم الدمار والقتل، الذي يفقأ العين ويعيد ترتيب حيوات الناس، ومعطياتهم، على أسس جديدة لا يمكن أن تصدق بعد اليوم كل ما يتغنى به الغرب الحضاري من قيم العدل والمساواة وحقوق الإنسان، وكل مخرجات الشرعة الدولية الشكلانية لحقوق الشعوب في العالم والحياة.
ما يجري في غزة من مقتلة فاقعة وفجور غير معقول، في التعاطي الرسمي العربي والعالمي معها، دفع ويدفع شعوبنا إلى تموضعات جديدة، ومسارات حياتية متجددة، من الممكن أن تركل جانبًا جل نواتج الحضارة الغربية، وتعيد من ثم ترتيب الأولويات، وتعيد إنتاش نباتات جديدة، تساهم في صياغة حضارية مختلفة، وأكثر مصداقية، وأدعى للضرورة وللإمساك في ماهية التغيير الوطني والقومي المنشود والضروري القادم لامحالة.
لم يكن (الربيع العربي) قد أتى منذ ما ينوف عن عقد من الزمن بالصدفة، او كحالة عرضية بل عبر عما يمكن تسميته (انبثاق طبيعي) لحالة الاختمار الكبرى، التي راحت تتفاعل وترسل ديناميتها واحدة تلو الأخرى وصولًا إلى هذا الانتفاض الكبير، على كل تجليات الاستبداد المشرقي والعوالم (القروسطية) التي أوصلتنا إليها نظم العالم العربي، عبر عقود طويلة خلت وانقضت. من هنا فإن ما يجري في قطاع غزة، ومن ثم إشاحة النظر الرسمية العربية عنه، وحالة الفرجة النظمية، عن كل هذا العنف والقتل، سوف يعيد إنتاج الواقع العربي الشعبي من جديد، على أرضية أخرى، ومآلات تغييرية غاية في الوضوح والعطاء، لتكون الولادة الجديدة لربيع عربي وموجات متجددة منه، تسهم في لجم حالة الهوان والخذلان الرسمي، وتعيد إنتاج قيادات ونخب سياسية حداثية، تعبر عن الناس، وتنبت من عمق القيم الإنسانية والحضارية العربية، وتعيد إهالة التراب على الخراب البنيوي العربي، من أجل صعود مشروع عربي متمكن، بدون أنظمة (الدور الوظيفي) التي لم يعد يهمها (وهذا ما تبين من حرب غزة)غير نفسها وسلطاتها ومصالحها النهبوية، والابتزازية البراغماتية، وتغولها على الشعوب والثروات، وبيعها لسيادة الأوطان، أو الانجرار إلى علاقات تابعية لا سيادة فيها للوطنية، بل للإيرانيين تارة، أو الروس، أو الأميركان، أو سواهم.
لعل استمرار حالة التمظهر العربي الرسمي البائس، والانشغال الكلي عن آلام وأوجاع أهل غزة وأهل سورية، عبر الدخول في مسارات تطبيعية مدانة شعبيًا، مع الصهاينة، أو مع نظام الفاشيست الأسدي، إنما يجعل الحالات الشعبية غاية في الرفض والانتفاض، وهو ما شهدناه ونشهده اليوم، في الجنوب السوري/ السويداء، أو في ساحات عربية أخرى، وحتى دولية شعبية آثرت الخروج إلى الشارع والميدان، لرفض سياسة الفرجة، على ما يفعله (نتنياهو) المجرم بأهل غزة والضفة الغربية، أو ما يفعله نظام بشار الأسد بالسوريين في الشمال السوري، حيث يقوم بقصفهم يوميًا، بدلًا من الرد على من يقصف باستمرار الجغرافيا السورية، متمسكًا بشعارات إيران، (الصمت الاستراتيجي)وينسى شعار وحدة الساحات، ويمسك بسياسة النأي بالنفس، دون الرد على عدو إسرائيلي، كان من المفترض أن نظام بشار الأسد يجهز السلاح الحديث لتحرير الأرض المحتلة منه، في الجولان وفلسطين.
لقد عرت حرب غزة كل الواقع العربي الرسمي، وساهمت في كشف ما كان يُعتقد أنه مستورًا. وإن كان العري الأكبر كان لانكشاف أوهام إيران وادعاءاتها في تحرير القدس وفلسطين، وكذلك قيادة ما يسمى دول ومحور (الممانعة والمقاومة) فإن النظام الرسمي العربي أيضًا قد تعرى وسقطت عنه أوراق التوت، وأصبح كريشة في مهب الريح، ولم يعد من أحد يراهن عليه أو على وقفة جدية عربية رسمية، تنقذ أهل غزة، أو تعيد رسم ملامح مشروع عربي مناهض لإسرائيل، أو لمشروع إيران، بل أضحى الواقع العربي أكثر انكشافاً وأبعد عن أي احتمالات لإعادة استنهاضه من جديد، في ظل هذا النظام الرسمي العربي المنفلت من عقاله، والمرتمي في أحضان الغرب، والأميركان منهم بشكل أوضح.
هذا النظام الرسمي العربي المهزوم، الذي ترك الغزاويين/الفلسطينيين والسوريين يلقون الموت والقتل في شهر رمضان المبارك ، وفي عيد الفطر، وقبل ذلك وبعده، دون أن تتحرك سواكنه او يرف له أي جفن أو رمش.
أمام فقدان المشروع القومي العربي لمواجهة تحديات كبرى تواجه واقعنا العربي واللا جدوى واللا فاعلية للأنظمة العربية، لمستوى العجز أمام تحديات آلة الحرب العدوانية الغربية -الأميركية/ الإسرائيلية مستهدفة شعبنا بفلسطين/غزة وتركته وحيداً كما تركت شعبنا بسورية لتسقط أوراق التوت عن هذه الأنظمة، لتكون معطيات إنتاج ربيع عربي جديد بمآلات تغييرية غاية في الوضوح والعطاء قد إكتملت .