انقسمت الإدارة في البيت الأبيض إلى موقفين أحدهما يتمسك بالحل السياسي والآخر مواجهة طهران. في وقت تتالت فيه التصريحات للرئيس جو بايدن بأنه لن يحارب في إيران، أو يغامر بتوجيه ضربة إلى أراضيها، أكد بذلك أن الولايات المتحدة وإدارته في البيت الأبيض لن تذهب إلى حرب مفتوحة ضد طهران، فيما كانت الأخيرة تقيم ما يجري سياسياً واستراتيجياً، مما أفقد واشنطن القدرة على الردع الاستباقي في مواجهة إيران التي تتحرك في مسارات متعددة، ومن خلال مقاربة محددة أنه لا خوف من الدخول في مواجهة مع أميركا.
يؤكد ذلك أيضاً أن إيران باتت في مأمن – ولو بدرجة أو بأخرى – من أية تهديدات أميركية محتملة، مما يشير إلى أن الجانبين لا يريدان الدخول في حرب أو مواجهة، وأن الأمر مرتب بكثير من المعطيات الراسخة التي تحكم العلاقات بين واشنطن وطهران، وأن كل طرف ممسك بكل الخيارات المتاحة الراهنة والمنتظرة.
أهداف مفتوحة
من الواضح جلياً أن الرئيس جو بايدن وعدداً كبيراً من المسؤولين الأميركيين وعلى رأسهم وزير الدفاع لويد أوستن ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان، وكذلك مدير الاستخبارات المركزية ويليام بيرنز أطلقوا سيلاً من التصريحات السياسية والأمنية في شأن التعامل مع إيران وانقسم الموقف إلى توجهين:
(الأول)… تأكيد فكرة الحل السياسي والاستمرار في نهج العلاقات بل ودفع هذا التيار المؤسسات الفيدرالية بعدم شيطنة الخطر الإيراني. ومن ثم كان الاستمرار في التفاوض حول البرنامجين النووي والصاروخي، بل وتبني مقاربة مفتوحة لم تحسم في أي سياق بخاصة أن هذا التيار مضى في سياق التعايش مع الخطر الإيراني الراهن، وعدم الاندفاع في الدخول في مواجهات محتملة، وهو ما انطبق على مرحلة ما قبل وأثناء الحرب الراهنة على غزة، بل وبعد تهديد الملاحة البحرية في الخليج العربي وخليج عمان ومضيق باب المندب.
وكل ذلك يؤكد أن الولايات المتحدة فضلت التفاهمات من بعد مع العمل مع الشركاء الآخرين من دون تهديد الجانب الإيراني، بل وعندما تعرض الحضور الاستراتيجي الأميركي للخطر باستهداف قاعدة التنف كان القرار بتوجيه ضربة إلى مناطق فرعية، وإلى الوكيل الحوثي ثم تكرر الأمر مع الميليشيات الأخرى سواء في العراق أو اليمن أو سوريا.
تهديدات حقيقية
وبعد أن اتسعت المواجهات، وانفتحت مسافات الاستهداف للحضور الأميركي بل وسقوط عدد محدود من الجنود في المواجهات كان الاتجاه إلى التهدئة والترقب والتتبع، وفي إشارة إلى أن إدارة بايدن تدرك حجم التعامل وإمكانات الرد، ومن دون إثارة مواجهات أخرى، أو الدخول في مواجهات محسوبة، وللوهلة الأولى تكررت التصريحات المعلنة بضرورة التعامل مع المكونات الوكيلة وتفضيل هذا الخيار على أي خيار آخر من المواجهات، أي لا توجيه لضربة في داخل إيران والابتعاد تماماً عن المواجهات المباشرة، وهو ما ظل مطروحاً وقائماً ومن دون أي مواربات.
وظل الطرف الإيراني يتبنى مقاربة إعلامية وسياسية بأنه لا تربطه بما يجري من الوكلاء أي تفاهمات أو تنسيق من أي نوع، مما فرض استراتيجية التعامل بأن الطرفين ارتضيا بالفعل باستمرار المشهد على ما هو عليه، واستكمالاً لما جرى بالفعل من قبل في مواجهات حقيقية كانت تجري بين واشنطن وتل أبيب في مراحل المواجهات الأخرى السابقة، والتي كانت تتعلق بمسار الحرب، أو تهديد الجانبين من خلال القيام بحرب أو التهديد بتوجيه ضربة إلى المفاعلات النووية الإيرانية.
كما فضلت إسرائيل الاستمرار – بناءً على نصائح الإدارة الأميركية – عدم الانخراط في حرب مباشرة، والاتجاه إلى حرب الظل، وممارسة أكبر قدر من ضبط الموقف بينهما، وفضلت الحكومة الإسرائيلية المضي في هذه المواجهة من دون كلفة حتى الآن، وفق طبيعة الخطر الراهن والمحتمل على أمن إسرائيل.
موقف مقابل
(الثاني)… أما التيار الآخر في الإدارة الأميركية، الذي يضم قيادات من داخل الحزب الديمقراطي، وبعض خبراء المراكز البحثية والاستراتيجية ونواب في الكونغرس ومجلس الشيوخ، فرأى أن الحل في المواجهة وعدم تقديم التنازلات تباعاً إلى إيران.
ومن ثم كان الرفض الرئيس لفكرة التحالف البحري، والإعلان عن إجراءات بديلة في مواجهة ما تتبناه الإدارة الأميركية، مما يؤكد أن إيران – وفقاً لهذا التيار – تعمل في اتجاه خطر، وأن الأمر قد يؤدي إلى تقديم واشنطن تنازلات حقيقية تدفعها الولايات المتحدة المطالبة بإجراءات فعلية كاملة وخطوات جديدة، وليس فقط إطلاق تصريحات للتوافق، أو العمل من بعد مع ضرورة تطبيق استراتيجية تطويق، ومحاصرة المد الإيراني في الإقليم.
خيارات فاشلة
في كل الأحوال – وفي إطار التعامل مع الحالة الإيرانية – سيتأثر مفهوم الأمن الأميركي نتيجة لما يجري من تغييرات حقيقية وتقلبات تحدث نتيجة الوجود الإيراني في الإقليم، وبما تمثله من تحديات يمكن أن تعلن عن نفسها بخاصة أن القدرة على المواجهة أياً كان تصنيفها لا تزال قائمة.
كذلك فإن تكرار السياسة الإسرائيلية نفسها تجاه ما قد يجري قد يؤدي إلى ارتدادات كبيرة مثلما يحدث في الوقت الراهن، وسيشجع الوكلاء والفواعل من غير الدول على التحرك، وتهديد الوجود الأميركي في الشرق الأوسط، وربما امتد ذلك إلى مناطق أخرى من الشرق الأوسط إلى جنوب شرقي آسيا حيث الصراعات الكبرى مع الصين والقوى الدولية التي تتربص بالولايات المتحدة ومصالحها، مما يتطلب تحركات عاجلة من البيت الأبيض لمواجهة إيران، والخروج إلى مواجهات مباشرة بدلاً من أنصاف الخيارات وأشباه السيناريوهات التي تتعامل بها إدارة الرئيس جو بايدن مع الأخطار الإيرانية أياً كان شكلها أو مضمونها.
في هذا السياق ينبغي التأكيد أن الإدارة الأميركية فشلت في اتباع استراتيجية رادعة في مواجهة إيران، لا سيما أن هذا الأمر مرتبط بالفعل باستراتيجية أميركية باتت عقيمة وغير قادرة على التعامل، علاوة على أن تمدد الصراع الراهن في الإقليم وارد.
وربما يكون انتقال واشنطن من إدارة المواجهة من بعد مع طهران إلى استراتيجية جديدة على رأس الأولويات في الفترة المقبلة في ظل سياسات تتبنى ضرورة تغيير الزوايا وتدوير السياسات في اتجاهات محكمة، وتتعامل مع استراتيجية شاملة، بخاصة أن الانقسام حول التعامل مع إيران سيتطلب مراجعات وتقييمات تبنى على ضرورة العمل، في إطار استراتيجية التطويق وليس الاحتواء الذي تحاول الإدارة الأميركية التعامل معه في سياق ما يجري، فالتحرك الإيراني بات يعتمد على استراتيجية شراء الوقت والانتقال التكتيكي من مسرح عمليات لآخر، وهو ما قد يوقع خسائر كبيرة بالفعل للمصالح الأميركية.
رهانات مطروحة
إذاً، وفي ظل ما يجري من مراهنات إيرانية حقيقية حول السلوك والتوجه الأميركي الراهن خصوصاً مع انشغالات الإدارة الأميركية بالانتخابات الرئاسية التي دخلت مراحل حاسمة فمن المحتمل – ووفقاً للموقف الإيراني – حدوث تغييرات في الساحة السياسية الأميركية التي تواجه تقلبات يمكن أن تعيد الرئيس السابق دونالد ترمب في ظل ما يجري، ومن ثم فإن وصول طهران إلى مرحلة العتبة النووية، وتعايش الولايات المتحدة مع الخطر الإيراني، سينطبقان بدورهما على السياسة الإسرائيلية وترقبها لما يجري، بخاصة أن استمرار حرب غزة وانفتاح سيناريوهاتها قد يؤدي إلى تداعيات سلبية حقيقية على أمن الإقليم.
يعني ذلك أيضاً أن الولايات المتحدة ستدفع ثمن ما سيجري نتيجة الفشل في قراءة المشهد والرهان الحالي بأنه لا حرب مع إيران وإسقاط خيار المواجهة أياً كان شكلها، مما يؤكد أن إدارة الرئيس بايدن باتت تتعامل مع أخطار إيران في إطارها على رغم بدء مواجهات أميركية مع وكلاء طهران، تحديداً في اليمن والعراق وسوريا، وربما سيكلف الإدارة الأميركية احتمالية التدخل العسكري في اليمن، أو إعادة ترتيب أوضاعها في العراق على رغم كل ما يجري، وكذلك في وجودها المقيم في سوريا الذي بات مهدداً.
الخلاصات الأخيرة
* أدت سياسة الرئيس جو بايدن تجاه إيران إلى مزيد من التأزم الداخلي في الولايات المتحدة بخاصة في الكونغرس ومجلس الشيوخ، مما يؤكد أن الإدارة الأميركية، وعلى رغم كل ما يطرح لن تدخل في مواجهة عسكرية مباشرة مع طهران، وستكتفي باتباع السياسة الحالية نفسها، إلا إذا تدهور الوضع الأمني والعسكري، وتم استهداف الحضور العسكري الأميركي كما هو جار، وقد يزيد في الفترة المقبلة.
ومع قرب إجراء الانتخابات الأميركية المقبلة، التي ستحدد البوصلة بالضبط فإن السؤال هل نحن أمام سيناريوهات مفتوحة أم تضيق المسارات، وتتعدد الاتجاهات التي يمكن للجانب الإيراني الاستثمار فيها في كل المستويات الراهنة والمحتملة؟
* وفي كل الخيارات فإن سياسة الرئيس جو بايدن تجاه إيران – وفي حال استمرارها – ستؤدي إلى مزيد من التوترات الحقيقية والمؤثرة والمكلفة، التي ستتطلب اليقظة من صانع القرار الأميركي، خصوصاً أن إيران ستتشبث بخياراتها مع الاستمرار في دعم الوكلاء والبقاء بعيداً مما يجري، مع التأكيد أن الولايات المتحدة هي الشيطان الأكبر المهدد لأمن الإقليم، وأن على واشنطن الرحيل بقواتها من الإقليم، وألا تعمل في اتجاه إعادة تموضع قواتها مجدداً في مناطق حضورها العسكري الراهن.
ولكن هذا الأمر سيكون مرتبطاً بالقدرة على المواجهة ونقل رسائل حقيقية بإمكانية الاشتباك بكل الصور المتاحة بصرف النظر عما ستدفعه الإدارة الأميركية من كلفة حال بقاء الأوضاع على ما هي عليه.
المصدر: اندبندنت عربية
الادارة الأمريكية الديمقراطية خاصة تهادن نظام ملالي طهران ضمن سياسة الاحتواء، فبقيادة اوباما كان الاتفاق النووي وماتزال ادارة بايدن تحاول احيائه ، لم ولن يصلان الى مرحلة الصدام لأنهما متفقات على الأساسيات؟ وإعلان بايدن لم يغير من الموقف الإستراتيجي ولكن كشفه للعلن بعدم المواجهة .