منذ نشأة دولة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية التاريخية عام 1948، ركزت الخطابات السياسية، والقانونية المتصارعة حول مسألة الاحتلال، واللامشروعية القانونية له، منذ قرار الجمعية العامة حول التقسيم رقم 181 فى 29 نوفمبر 1947 (55% من أرض فلسطين للدولة اليهودية، و42٫32% من الأرض لدولة عربية)، مرورًا بالحرب الأولى 1947، 1949، والعدوان الثلاثى على مصر، إلى العدوان الإسرائيلى على الأراضى العربية فى 5 يونيو 1967، وصدور القرارات 242، 383، والقرارات ذات الصلة، وحرب 1973 التى ركزت على تحرير الأراضى المصرية، والسورية المحتلة. كانت (الأراضى) ولا تزال محور الخطابات السياسية والموازية، بين أطراف الصراع، وأيضا بعض المفاهيم القانونية الدولية حول العدوان والاحتلال غير المشروع، والمقاومة، وحق الدفاع الشرعى، والتفسيرات المتعارضة حول القرارات الدولية المتصلة، ومدى إلزامية هذه القرارات.
كانت إسرائيل ومعها الولايات المتحدة وبريطانيا والدول الأوروبية الداعمة لها تميل إلى دعم المواقف والسلوك السياسى، والحربى، والدبلوماسى الإسرائيلى، ولا تزال، ولا تهتم كثيرا بمفهوم الشرعية الدولية عبر تفسيراتها الملتوية، ومن ثم أحكام القانون الدولى العام، والحرب، والدولى الإنسانى.
ظل الخطاب السياسى والدبلوماسى العربى، يدور حول الحق التاريخى للشعب الفلسطينى، فى استرداد أرضه المسلوبة، ثم تراجع ذلك بعد القرار 242 والقرارات ذات الصلة، من أجل استرداد وتحرير (الأراضى) العربية المحتلة، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة فى الضفة وقطاع غزة وعاصمتها القدس الشرقية. كان مفهوم المناطق المنزوعة السلاح، أو مناطق (أ، و ب، وج ) جزءا من شواغل العقل السياسى والعسكرى الإسرائيلي، وذلك تحت دعاوى تحقيق الأمن للدولة المبادرة بالعدوان فى غالب تاريخ هذا الصراع إلى الآن، وهو ما يظهر فى خطاب غالب الأحزاب السياسية الإسرائيلية، خاصة اليمين، واليمين الدينى المتطرف، والولع بفكرة إنشاء أحزمة فراغ، أو مناطق عازلة، داخل قطاع غزة، ونشر الأنسجة الاستيطانية فى الضفة الغربية، وذلك لإيجاد مساحات فراغ عازلة، ترمى إلى تصفية المسألة الفلسطينية والحيلولة دون قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية. تم الاستيلاء عبر أشكال من الضغوط على القدس ومحاولة تفريغها من بعض سكانها الفلسطينيين المسيحيين أساسا، والمسلمين من خلال تحفيز بعض الدول الأوروبية، والولايات المتحدة لهم، للهجرة الطوعية!، وهو كان ولا يزال موضوعا لشكاواهم، ومطالباتهم بالدعم العربى لهم للحيلولة، دون دفعهم للهجرة إلى البلدان الغربية وهو ما لم يلق اهتماما ولو نسبيا من الدول العربية. الدولة الفلسطينية المستقلة، تبدو غائبة، وغائمة فى الفكر السياسى الإسرائيلى اليمينى، وأجهزة الدولة العسكرية، والاستخباراتية، والأمنية، وتبدو لديهم كهاجس مقيم، أو كوهم يخايل بعض العقل السياسى السلطوى العربى.
من هنا، حاولت إسرئيل بعد يونيو1967، واحتلالها الضفة وقطاع غزة أن تستعيد النظرة الاستعلائية -ذات الجذور والنظرات الاستشراقية الأنثربولوجية التابعة للكولونيالية الغربية -، وذلك من خلال إحياء نظام روابط القرى الذى كان سائدا قبل احتلالها للأراضى بعد عدوان 1967، وهو ما كان يعتمد على بعض رموز نظام العائلات الكبرى التقليدى، فى إدارة شئون السكان، وذلك كوسيط، أو جسر مع الإدارة العسكرية فى ظل الاحتلال. كانت ( الأراضى ) المحتلة، هى مركز الخطابات السياسية حول الصراع، سواء فى احتلالها، أو إدارتها، أو استيطانها، أو تفريغها . ارتبط مفهوما (الأرض)، و(الاستقلال) معا فى الخطاب السياسى، الفلسطينى، والعربى حتى اتفاق أوسلو 1، 1993، والحكم الذاتى الانتقالى، مع منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، تحت تصور أن هذه المرحلة الانتقالية ستؤدى إلى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية، التى تحولت فى بعض التصور الإسرائيلى إلى توسيع إدارى للقدس لتشمل منطقة أبو ديس، لتغدو عاصمة الدولة المأمولة!
فى خضم هذا التاريخ من الصراعات الخطابية باللغة، والمفاهيم والاصطلاحات، ومرجعياتها، وتاريخها، كانت حرية الفلسطينى، والفلسطينيين لا تثار إلا قليلا جدا فى بعض هذه الخطابات منذ نشأة الدولة الإسرائيلية، وربما إلى الآن، ومرجع ذلك ما يلى:
ـ ارتكز الخطاب السياسى حول فلسطين على تحريرها، ثم بعد عدوان 5 يونيو 1967، ركز على استرداد الأراضى المحتلة، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية على أراضى الضفة الغربية وقطاع غزة، ومن ثم لم تكن مسألة حرية الفلسطينى، والفلسطينيين مطروحة إلا فى إطار تحرير الأراضى المحتلة. بعد اتفاقية أوسلو، وإقامة السلطة الفلسطينية فى إطار الحكم الذاتى الانتقالى، أصبحت هى المسيطرة، ومعها أقامت أجهزة الأمن الداخلى، والوقائى لاعتبارات السيطرة الداخلية، وأمن إسرائيل التى باتت هى الشاغل الأساسى للسلطة الفلسطينية، والمشكلات الاقتصادية، والاجتماعية، للسكان الفلسطينيين، والتنديد السياسى والدبلوماسى بالتمدد الاستيطانى.
فى هذا الإطار كانت مسألة حرية الفرد الفلسطينى، تبدو غائمة لمصلحة اعتبارات الهيمنة والسيطرة على السكان فى مناطق الحكم الذاتى، مع ظهور بعض ممارسات الفساد السياسى والاقتصادى لبعض القادة وابنائهم ومواليهم، فضلا عن هيمنة حركة فتح على مقاليد السلطة، والمجلس الوطنى الفلسطينى.
ـ غاب خطاب (حرية الفلسطينيين)، و(الانسان الفلسطينى الفرد) فى الخطاب الدينى السلطوى الحمساوى، ومعه الجهاد الإسلامى، تحت أولويات خطاب تحرير الأراضى، والمستوطنات من الاحتلال، ومعه الأراضى الفلسطينية التاريخية فى ظل السلطة الحمساوية فى القطاع .
كان الأمن والسيطرة على السكان، وإدارة شئون حياتهم اليومية هو الأساس، ومعه تجاوزات عديدة إزاء مسألة حرية الفرد، والجماعات، لاعتبارات الحصار، والعقاب الجماعى الإسرائيلى، والتهميش العربى للمسألة الفلسطينية. من هنا لا تزال مسألة الاستقلال وإقامة الدولة هى المسيطرة فلسطينيا، وعربيا، بينما مسألة ربط إقامة الدولة بحرية الفلسطينى الفرد، والشعب فلاتزال غائمة فى الخطابين السياسيين العربى والفلسطينى. يبدو أن ذلك، سوف يكون جزءا من قضايا مرحلة ما بعد الحرب والإبادة الجماعية للشعب الفلسطينى فى قطاع غزة، وستطرح على السلطة الفلسطينية، وحماس، والجهاد الإسلامى، وفى عالمنا العربي.
المصدر: الاهرام
قراءة بتطور الخطاب الفلسطيني وفق مراحل القضية الفلسطينية من يوم النكبة 1948 وحتى طوفان الأقصى ، لتكون مسألة حرية الفرد الفلسطينى تبدو غائمة وغائبة لمصلحة اعتبارات الهيمنة والسيطرة على السكان فى مناطق الحكم الذاتى وظهور ممارسات للفساد السياسى والاقتصادى لبعض القادة وابنائهم ومواليهم، وغاب خطاب (حرية الفلسطينيين)، و(الانسان الفلسطينى الفرد) بالخطاب الدينى السلطوى لصالح أولويات خطاب تحرير الأراضى والأمن والسيطرة على السكان وإدارة شئون حياتهم اليومية قد تقبل مرحلياً .