لم يكن استخدام الإدارة الأميركية حقّ النقض (الفيتو) في مجلس الأمن ضد مشروع قرار قدّمته الإمارات يدعو لوقف إطلاق النار فورا في قطاع غزّة مفاجئا، في ضوء اعتبارها عملية طوفان الأقصى، التي نفذتها كتائب عز الدين القسّام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، يوم 7 أكتوبر، استهدفت سعيها إلى صياغة نظام إقليمي جديد، وخصوصا دمج إسرائيل فيه، يتّسق مع مصالحها، كما استهدفت مصلحة استراتيجية لها بعرقلة تنفيذ مشروع ممرّ المتوسّط مع الهند والسعودية والإمارات ودول في الاتحاد الأوروبي، وأن نتائج عملية الطوفان ستصبّ في صالح خصومها، إيران وروسيا والصين بالضرورة، ما جعل الحدّ من مفاعيلها مصلحة أميركية عليا، وجعل تبنّي الرواية الإسرائيلية التي اعتبرت عملية الطوفان تهديدا وجوديا، مصلحة وطنية والتحرّك لحماية الدولة – الثكنة التي رعتها ودعمتها ماليا وصناعيا وعلميا وعسكريا، كي تستطيع القيام بالدور المطلوبة منها في خدمة المصالح الجيوسياسية والجيواستراتيجية الأميركية في منطقةٍ شديدة الأهمية.
لم تكتفِ الإدارة الأميركية بعرقلة صدور قرار من مجلس الأمن، يدعو إلى وقف إطلاق النار، بل ووضعت شرطا تعجيزيا لهذا الوقف، وهو استسلام حركة حماس، كما أعلن وزير خارجيّتها، أنتوني بلينكن، ودعمته بتزويد الجيش الإسرائيلي بـ 45 ألف قذيفة دبّابات، كي يواصل تدميره الوحشي قطاع غزّة، وإبادة الشعب الفلسطيني، للضغط على “حماس” عبر تحميلها مسؤولية أخلاقية لموت الضحايا الفلسطينيين. شرط يعني نهاية الحركة، ومسح مفاعيل عملية الطوفان، وردع أي جهةٍ تفكّر في مهاجمة إسرائيل مستقبلا.
لم يتطابق حساب القرايا مع حساب السرايا، حيث لم ينجح الجيش الإسرائيلي في دفع “حماس” إلى الصراخ، فالأخيرة التفّت على الفخ على لسان عضو مكتبها السياسي، رئيس مكتب العلاقات الدولية والخارجية، موسى أبو مرزوق، بقوله “النازحون واللاجئون مسؤولية أونروا والأمم المتحدة”. وزاد في تعقيد موقف الإدارة وحرجه خروج تظاهرات عارمة في جميع أرجاء العالم، بما في ذلك في مدن وجامعات أميركية كبيرة، تطالب بوقف إطلاق النار، تحت تأثير الصور القاسية التي تصل من قطاع غزّة لجثث ممزّقة وأطفال تغطّي وجوههم وأجسادهم الدماء ونيران تلتهم البيوت والأجساد العالقة تحتها، من جهة، والانطباع الإيجابي لصورة “حماس” وكتائب القسّام الذي خلفته عمليات تبادل الأسرى والمختطفين، حيث الطمأنينة ظاهرة على الأسرى والمختطفين الإسرائيليين وتبادل الابتسامات والمودّة مع الخاطفين، على الضدّ مما أظهرته صور الإفراج عن السجناء الفلسطينيين الذين تعرّضوا للضرب والإهانة ومنع الأهل والمستقبلين من إظهار البهجة والسرور وتوزيع الحلويات. في مؤتمره الصحافي يوم 27/11 الماضي تباهى القيادي في حركة حماس، أسامة حمدان، بالمعاملة الإنسانية التي عاملت بها كتائب القسّام الأسرى والمختطفين من دون أن يلتفت إلى الوجه الآخر للصورة، وهو وجود مختطفين رضّع وعجائز من ذوي الاحتياجات وأطفال ونساء مرضى، ما يشير إلى عوار في السلوك الحمساوي، وحصول تباين في الرأي داخل الحزب الديمقراطي بشأن الدعم الأميركي غير المحدود أو المشروط لإسرائيل بين التيار التقدمي والشبابي من جهة وأركان الإدارة من جهة ثانية، بما في ذلك داخل الكونغرس، حيث طالبت مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ، في رسالة وجّهتها إلى الرئيس، الإدارة ببذل المزيد من الجهود لحماية المدنيين في قطاع غزّة وبضمان عدم استخدام الأسلحة التي تُرسل إلى إسرائيل بطريقةٍ تنتهك القانون الدولي. ما دفع الإدارة إلى الإعلان عن رأيها بما يقوم به الجيش الإسرائيليين وما تعلنه قيادته عن سير العدوان وأهدافه، كاشفة عن تباين في الموقف، رافضة احتلال قطاع غزّة وتهجير سكّانه وإنقاص مساحته، بإقامة منطقة عازلة، وضغطت من أجل العودة إلى المفاوضات بشأن الأسرى والمختطفين، ودعت إلى وضع قطاع غزّة، تحت إدارة سلطة وطنية فلسطينية معزّزة، في محاولة لكسر عزلتها الدولية. ولكن من دون التخلّي عن موقفها من وقف إطلاق النار أو “سحق حماس”. هذا بالإضافة إلى تركيزها على ضرورة وضع تصوّر متفق عليه لليوم التالي للحرب وضرورة العودة إلى حلّ الدولتين.
لا يعني وجود خلافاتٍ في الرأي بين الإدارة الأميركية وحكومة إسرائيل وجود فرصة لتغيير السياسة الأميركية من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فلإسرائيل موقع هام في الحسابات الجيوسياسية والجيوستراتيجية الأميركية، ضبط الوضع في الإقليم وحماية المصالح الأميركية، وكل ما يقدّم لها من مساعداتٍ ماليةٍ وعلميةٍ وعسكريةٍ يعتبر ثمنا بخسا مقابل المهام التي تقوم بها في خدمة المصالح الأميركية، في عام 1991 وقع خلاف بين إدارة الرئيس الأميركي، جورج بوش، ورئيس حكومة إسرائيل آنذاك، إسحق شامير، فهدّد بوش بتجميد ضمانات القروض التي تقدّمها الولايات المتحدة لإسرائيل، فردّ وزير الدفاع حينذاك، إرئيل شارون، “ما تدفعه الولايات المتحدة لإسرائيل مبلغ تافه، 3.8 مليارات دولار سنويا، فلو أنها صرفت على قاعدة أميركية في الخارج فيها عدد يوازي القوات الإسرائيلية لصرفت 83 مليار دولار سنويا”.
لذا كان لافتا ما طلبه حمدان في مؤتمره الصحافي من الرئيس الأميركي، جوزيف بايدن، بأخذ “قرار حاسم بإجبار إسرائيل على وقف عدوانها ضد شعبنا وعلى قطاع غزة ومباشرة وقف تزويد الكيان الصهيوني بأي نوع من الأسلحة والذخائر والعتاد الذي يقتل به شعبنا كل يوم”، و”إعادة النظر في علاقة الولايات المتحدة مع الكيان الصهيوني ووقف اعتباره حليفا استراتيجيا، فلا يأتي من وراء هذا الكيان إلا الدمار والخراب، وأدعوه إلى إعادة صياغة علاقات الولايات المتحدة مع أبناء المنطقة الحقيقيين والتوقف عن ربطها بالطارئين على هذه المنطقة، هذه العلاقات يجب أن تكون على أساس احترام حقوق أبناء المنطقة ومصالحهم، ثقافتهم وتاريخهم، فهذا هو الذي يحقق الاستقرار والأمن والسلام في المنطقة”. فدور الولايات المتحدة في إقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين ليس هامشيا أو طارئا، فقد بدأ مبكّرا مع الصهيونية المسيحية، قبل نشوء الحركة الصهيونية اليهودية، التي تبنّت فكرة قيام دولة إسرائيل، باعتبارها ترتيبا إلهيا، ودعت إلى إقامتها ودعمها.
كان الرئيس الأميركي، جون أدامز، قد دعا عام 1818 إلى “إعادة” اليهود إلى فلسطين، وإقامة حكومة يهودية مستقلة، وتبنّى الرئيس الأميركي، توماس وودرو ويلسون، وعد بلفور، بعد أن أضاف كلمة قومي إلى النصّ الأصلي للوعد، ليعني قيام كيان سياسي، دولة، وليس مجرّد مكان للعيش، حيث كانت الصيغة التي عرضها عليه وزير خارجية المملكة المتحدة، آرثر جيمس بلفور، تقول بإقامة وطن لليهود في فلسطين، وقيادة جنرال أميركي برتبة عميد عمليات العصابات الصهيونية، الهاغانا وشتيرن والبالماخ، في حرب الـ 48، وسياستها الثابتة إزاء الصراع العربي الإسرائيلي القائمة على تمكين إسرائيل، وضمان تفوّقها العسكري على الدول العربية مجتمعة، ودعمها اقتصاديا بجعالة سنوية ثابتة تفوق الثلاثة مليارات دولار، قدّمت لها منذ قيامها عام 1948 ما بين 130 و278 مليار دولار، وقرارها حسم قيمة تبرّعات الشركات والأفراد الأميركيين للمؤسّسات الإسرائيلية غير الربحية من الضرائب السنوية المستحقة عليهم، بالإضافة إلى حمايتها سياسيا باستخدام حقّ النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، استخدمته 45 مرّة لمنع إدانتها ومعاقبتها. وكان موقفها في كل الحروب العربية الإسرائيلية إلى جانب إسرائيل، بذريعة “حقّ الدفاع عن النفس” لدولة صغيرة محاطة بأعداء يفوقونها عددا بمئات المرّات؛ وتعويضها ما تخسره في هذه الحروب من أسلحة وذخائر، وجديدها أخيرا الـ 14.3 مليار دولار لتغطية احتياجاتها الاقتصادية والعسكرية في عدوانها الحالي.
لكن هذا لا يعني عدم حصول تباين مصالح في لحظة سياسية معينة، سبق وتباينت المصالح مرّات ومرّات، أخيرا على الاتفاق النووي الإيراني، وحصول ضغوط دبلوماسية أو اقتصادية أو عسكرية أميركية على إسرائيل، وإسرائيلية على أميركا، لكن عمق الترابط والتطابق يجعلها تباينات عابرة لا يُبنى عليها، ولا تفتح على تغيير استراتيجي أميركي. وهي حاليا متباينة إلى حد التناقض، فمصلحة الرئيس الأميركي توقّف الحرب في أسرع وقت، نهاية العام الجاري حسب محلّلين، خدمة لبرنامجه السياسي المرتبط بالانتخابات الرئاسية التي باتت على الأبواب، بينما مصلحة رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، وحكومة اليمين المتطرّفة استمرار الحرب وتمدّدها لأن توقفها يعني فتح صندوق باندورا، ما يرجّح التصادم والضغط الأميركي على نتنياهو، لأن ساعة بايدن السياسية تتطلّب ذلك، والأميركيين لا يفكرون إلا بمصالحهم، حتى ولو قاد تحقيقها إلى دمار كبير. كانت وزيرة الخارجية الأميركية، مادلين أولبرايت، قد علقت على ضحايا العراق من المدنيين والأطفال الذين فاق عددهم النصف مليون ضحية بالقول: “ذلك خيار صعب جدا. ولكن نعتقد أن الثمن مستحقّ”.
المصدر: العربي الجديد
طوفان الأقصى عرقل المخطط الأمريكي لصياغة نظام إقليمي جديد ودمج إسرائيل فيه، وكذلك الممر الاقتصادي الذي أطلقته في دلهي ليربط الهند بأوروبا عبر الإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل ليكون الفيتو تعبيراً عن ذلك، لأنه الدور الوظيفي لإسرائيل بالمشرق العربي ، قراءة للدور الأمريكي بإنشاء هذه الدويلة ، فهل يمكن أن تكون الخصم والحكم ؟.