هل باتت إيران تحتاج إلى صدام كبير؟

محمد قواص

يلفت مصدر مراقب لصناعة القرار في إيران إلى التنبّه في رصد بوصلة طهران في السياسة الخارجية منذ قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979. ويدعو في هذا الصدد إلى ملاحظة الخطوط الأساسية لكيفية مقاربة طهران لمسألة الحرب في غزة لجهة أنّ الحرب الإسرائيلية ليست سوى “مناسبة” جديدة في الصراع الممتدّ منذ أكثر من 4 عقود مع الولايات المتحدة وليس مع أيّ طرف آخر.
يذكِّر المصدر بأنّ العامل الإسرائيلي كان دائماً ثانوياً ووظيفياً فيما الوجهة الأميركية كانت دائماً فيصل الفلسفة الوجودية لدولة روح الله الخميني كما دولة علي خامنئي. ويضيف في نبش الذاكرة أنّ خطف الرهائن وتفجير ثكنة المارينز وتفجير السفارة الأميركية في بيروت في ثمانينيات القرن الماضي عبّرت في تلك الحقبة عن هاجس ما زال مستمرّاً بشأن موقف الدولة العميقة في الولايات المتحدة من أمن وبقاء ووجود النظام السياسي في طهران.
كنت قبل عقد من الزمن قد التقيت بأحد الدبلوماسيين الإيرانيين الذي قيل لي يومها إنّه قريب من الحرس الثوري. وفي نقاش مسألة البرنامج النووي الإيراني فهمت منه، وكان الكلام مغلقاً، أنّ إيران لم تتلقَّ من الولايات المتحدة أية إشارات علنية أو خفيّة تطمئن إيران إلى عدم تعرّض واشنطن في خططها الاستراتيجية لمسلّمة بقاء النظام في مشهد الشرق الأوسط. يضيف هذا الدبلوماسي أنّه حتى المفاوضات التي تجري (حينها) بشأن البرنامج النووي هدفها إدارة الصراع وليس إيقافه.
في ثنايا تلك الهواجس تتسرّب من ذلك الدبلوماسي رسالة شديدة الوضوح، خصوصاً أنّ أحد الباحثين المقيمين في الولايات المتحدة كان يسمع الكلام، بأنّ القنبلة النووية التي تسعى إليها إيران دافعها أساساً هذا الخطر الذي ما برحت تشكّله الولايات المتحدة على النظام في إيران، وأنّه كلّما قدّمت واشنطن واجهات قبول بنظام طهران وضمانات بوقف العداء العقائدي لوجوده تراجعت في طهران الحاجة إلى اقتناء سلاح العدم الذي “تعتبره فتوى المرشد حراماً”.

إيران والإيقاع المنضبط غزّيّاً
من يراقب موقف إيران، قيادة وحكومة وحرساً ومؤسّسات، من مسألة الحرب في غزّة، وبغضّ النظر عمّا هو شعبوي للاستهلاك المحلّي وداخل “محور المقاومة” يلاحظ ميلاً استراتيجياً شاملاً إلى إبعاد البلاد عن الحمى الغزّيّة. فحتى في تحريك “أذرع” المحور عسكرياً بإيقاعات منضبطة ما يهدف إلى تأكيد ابتعاد إيران عن أيّ مواجهة مباشرة وكبرى. وإذا ما يأخذ الردح لهجة معادية لإسرائيل وعدوانها، فإنّ لبّ الفعل والكلام يخاطب واشنطن دون غيرها.
يسهل هنا تأمّل أنّ حراك الحزب في جنوب لبنان يجري على وقع تبادل رسائل فوق ميدان هذا البلد بين واشنطن وطهران. وإذا ما زار آموس هوكستين، مستشار الرئيس الأميركي، بيروت، وزارها أيضاً موفدون دبلوماسيون وأمنيّون دوليون، ويزورها تكراراً وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، فإنّ جلبة الجنوب وجلبة بيروت واجهات لمداولات مسار بين طهران وواشنطن.
يلمّح المصدر المراقب لصناعة القرار إلى أنّ طهران “شديدة التوتّر” هذه الأيام من احتمال اختلال في موازين القوى بسبب حرب غزّة قد يربك ما امتلكته طهران من نفوذ وطموحات بدت ناضجة مثمرة خلال عقود. يكشف أنّ قناة تواصل وتداول بين الولايات المتحدة وإيران تمرّ في مسقط برعاية سلطنة عمان تنظّم إدارة الخلاف بين الجانبين. ويضيف أنّ تلك القناة تقف وراء مستوى السيطرة على الجبهات، لكنّها أيضاً وراء تسعير بعضها في الأيام الأخيرة.
والأرجح أنّ الإدارة الأميركية (كما النظام في إيران) تعتبر أنّ ما بعد غزّة سيفرض وقائع جديدة ليست واضحة حتى الآن. أمّا استمرار واشنطن في دعم إسرائيل وإطلاق يدها فيهدف إلى إنتاج وقائع أميركية جديدة (وليس إسرائيلية فقط) تُفرض على إيران، لكن أيضاً على الصين وروسيا والنظام العالمي برمّته. بالمقابل فإنّ إيران المنطلقة من هذه المسلّمة الأميركية تشعر أنّ عليها العمل على تعطيل طموحات واشنطن أو إرباكها أو فرض نفسها شريكاً ما في واقعها.
يسهل على المراقب استنتاج أعراض حرب شبه حقيقية بدأت تدور بين إيران والولايات المتحدة في جبهتين لا تستهدف إيران فيهما إلا صاحب القرار في واشنطن. بالمقابل فإنّ توازن ردع يجعل من انفجار الجبهة في جنوب لبنان أمراً عصيّاً ومستبعداً ومن الخطوط الحمر التي تسهر واشنطن وطهران على فرضها حتى الآن. لكنّ الحرب الإيرانية الأميركية وإن بإيقاعات محسوبة تدور في العراق من جهة، ومن اليمن من جهة أخرى، وقد تجرّ يوماً جبهة لبنان معها.

خطاب تحت النّار
تخاطب طهران واشنطن بأدوات تحتاج إليها مداولات مسقط، خصوصاً أنّ إيران غائبة تماماً عمّا يحاك لغزّة، ولا سيما للمنطقة بعد الحرب. وإذا ما تبرع طهران في اقتراح نفسها وسيطاً في صراعات هي شريكة فيها، فإنّ واشنطن تتجاهل نفوذها في ملفّ غزّة حتى إنّ تبرئة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن لإيران من أيّ ضلوع في “طوفان الأقصى” بدت سبباً إضافياً لهذا التجاهل.
اصطنعت إيران في مواجهات العراق فصائل ومسمّيات جديدة تمّ التعجيل بها لبعث رسائل بالنار إلى قواعد تستضيف قوات أميركية وصولاً إلى استهداف السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء. ولئن تجاهلت واشنطن الأمر واعتبرته عرضياً أو ردّت عليه ضدّ أهداف في سوريا، فإنّها عادت وتهيّبت الوضع وباتت تطالب بغداد وحكومة محمد شياع السوداني بتحمّل مسؤوليّاتها وصولاً إلى الردّ والتوعّد بالردّ داخل الأراضي العراقية.
انطلقت الجبهة الأخرى من اليمن وباتت واضحة في أهدافها الإيرانية لجهة التلويح بذهاب طهران بعيداً من خلال الحوثيين للتحكّم بمضيق باب المندب والممرّات الدولية في البحر الأحمر. وإذا ما كان التبرير يتعلّق بمنع سفن إسرائيلية من استخدام مياه المنطقة، فإنّ إطلاق صواريخ باليستية ضدّ المدمّرة الأميركية “يو إس إس ميسون” يعبّر عن استعداد حوثي-إيراني للمسّ بنظام الأمن البحري الذي تشرف عليه الولايات المتحدة في المنطقة.

تستفيد إيران من إكراهات تجبر الولايات المتحدة على عدم الانخراط في مواجهات كبرى. الثوابت التي أعلنتها واشنطن بشأن حرب غزّة ومنع اتّساعها، واستعداد الإدارة للدخول في حملة الانتخابات الرئاسية، قد تكبح واشنطن عن مجاراة إيران في استفزازاتها. لكنّ ما هو خطير، وفق أوساط مراقبة، أنّ إيران تشكو من سوء الرؤية وضعف في الاستشراف بسبب ضبابية مواقف وخطط واشنطن (ربّما أيضاً بسبب تخبّط الإدارة)، وأنّها بدأت تتخلّى عن رويّتها وتعتبر أنّ المخاطرة في الجبهات أقلّ كلفة من مجهول ما سينتج عن حرب غزة. هنا فقط قد يلتقي توتّر إيران مع رغبات إسرائيل، وهو ما قد يشعل جبهة لبنان ويدفعها نحو الحرب الكبرى ما دام الأمر يبعد الصدام المباشر مع الولايات المتحدة.

 

المصدر: أساس ميديا

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى