لعبة “المناوشات المنضبطة” التي يديرها “محور المقاومة” مع إسرائيل والولايات المتحدة في إطار “جبهة المساندة” للمقاومة الفلسطينية في غزة، قد تحقق أهدافها بالنسبة لجميع الأطراف في حال أمكن التوصل إلى وقف مستدام لإطلاق النار في قطاع غزة خلال فترة قصيرة، لكنها قد تتحول إلى لعبة خطرة، إذا طال أمد الحرب، وأوغلت إسرائيل أكثر في مجازرها ضد المدنيين بالقطاع.
وفي هذا السياق، تتحدث جميع الأطراف، وتحذر من “التدحرج” إلى حرب أوسع سواء بشكل غير مقصود، كرد فعل مبالغ فيه أو يتخطى “الخطوط الحمر” أم عن سابق تصميم من جانب أحد الأطراف، وإسرائيل على وجه التحديد، التي طرح بعض أعضاء حكومتها منذ وقت مبكر لحرب غزة شن هجوم متزامن على حزب الله في لبنان، للاستفادة من الدعم الدولي المتشكل آنذاك لإسرائيل. كما أن الأصوات من داخل الحكومة ما تزال عالية، التي تدعو لمهاجمة حزب الله وإبعاده عن الحدود إلى ما بعد نهر الليطاني وفق قرار مجلس الأمن 1701، وعدم الخضوع لحرب الاستنزاف التي يجر الحزب إليها إسرائيل. وفي السياق، أعلن كثير من سكان المستوطنات في شمالي فلسطين المحتلة ممن تم إجلاؤهم إلى العمق، أنهم لن يعودوا إلى منازلهم ما لم يتم إبعاد عناصر حزب الله عن الحدود.
وقد شهدنا في الأيام الأخيرة تجاوزا متصاعدا لـ”الخطوط الحمر”، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى خروج الأمور عن السيطرة، وهذا ما دفع واشنطن إلى إرسال أحد مسؤوليها الكبار إلى إسرائيل لبحث سبل تلافي التصعيد، لأن توسع الحرب سوف يضع الولايات المتحدة في قلب المخاطر، خاصة أن جنودها ينتشرون في العديد من بلدان المنطقة، وهم يتعرضون بالفعل لهجمات متكررة في سوريا والعراق، فضلا عن ظهور العامل الحوثي في المعادلة بعد خطف سفينة تعود ملكيتها لرجل أعمال إسرائيلي، وبروز مخاطر تهديد الملاحة الدولية في مضيق باب المندب، وهذا سوف يدفع الولايات المتحدة للانخراط أكثر في تلقي تبعات الحرب والتصادم مع الحوثيين أيضا إضافة إلى الساحتين السورية والعراقية.
والواقع أنه ربما يمكن القول إن إيران وحزب الله، باتا بسبب ما يجري في غزة في ورطة كبيرة، سواء قررا التدخل العسكري نصرة لأحد أضلع “حلف المقاومة” في غزة، والذي يخوض معركة “تحرير فلسطين وكسر شوكة إسرائيل” أم امتنعا عن التدخل.
ووفق كلام حسن نصر الله، فإن الحزب يربط توسيع مشاركته في الحرب بأمرين: الأول مهاجمة إسرائيل للحزب نفسه أو للمدنيين في لبنان، والثاني تطورات الحرب في غزة، وهذا عنوان عريض لا يمكن القياس عليه، أي أنه ترك لنفسه حرية تقدير الموقف ما إذا كان يستدعي تدخلا أوسع من جانب الحزب أم لا. لكن كل المؤشرات تفيد أن حسبة حزب الله، ولأسباب مختلفة، هي محاولة تجنب دخول واسع للحرب، مع الحفاظ قدر الإمكان على صورة الداعم والحليف الذي لم يتخل عن المقاومة في غزة.
وهنا نعود للفرضية الشهيرة، هل قرار رفع مستوى التدخل في الحرب يتخذ في الضاحية الجنوبية أم في طهران؟ وبغض النظر عن ذلك، فإن الحسابات قد تكون متشابهة في بعض الأوجه، ومتفاوتة في أوجه أخرى. وبالنسبة لطهران، فان دخول الحزب الحرب سيجعلها أقرب بكثير إلى أتونها، لأن للحزب مكانة أرفع لدى إيران من فصائل غزة، وهو يشكل أفضل استثماراتها الخارجية على الاطلاق، وإذا مسه خطر كبير، ستكون في حرج كبير إذا لم تتدخل بطريقة أو بأخرى. غير أن الحسابات الأهم هي تلك الموجودة عند الحزب نفسه، بالنظر إلى كم التهديدات الصادرة عن قادة إسرائيل والولايات المتحدة والغرب بإعادة لبنان إلى القرون الوسطى، والمقرونة بتحريك قطع بحرية ضخمة إلى السواحل الشرقية للبحر المتوسط، بل وإلى منطقة الخليج نفسها، قريبا من إيران. ويضاف إلى ذلك الضغط الداخلي على الحزب من معظم اللبنانيين، بمن فيهم حاضنته الشعبية، لتجنب الحرب التي تعني قتلى ودمارا هائلا ومئات آلاف النازحين الذين وجدوا عام 2006 ملاذا لهم في الجارة سوريا، لكن ظروف اليوم اختلفت، حيث إن سوريا نفسها مدمرة، وثمة أكثر من مليون من مواطنيها لاجئون في لبنان.
ومن هنا، يبدو أن الجهد الإيراني يتساوق مع الجهود الدولية للتهدئة، ومنع إسرائيل من مواصلة سياسة الانتقام الجنوني من قطاع غزة، وصولا إلى تخفيض سقف أهدافها في غزة بحيث تتنازل عن الهدف الأول المعلن وهو السحق التام لحركة حماس، وإنهاء حكمها للقطاع والاكتفاء بتوجيه ضربات قوية لحماس تمكن قادة إسرائيل من ادعاء النصر، خاصة إذا ترافق ذلك مع نجاح صفقات إطلاق الأسرى والمخطوفين من كلا الجانبين، وهو ما بدا أن إيران تعمل عليه بجد، بل وعرضت علنا وساطتها في هذا السياق.
ومع قرب انتهاء الرخصة الدولية، بما فيها الأميركية، لإسرائيل لتفعل ما تشاء في غزة، تتزايد الضغوط عليها لحسم الأمور بسرعة ووقف الضربات الجوية التي تتسبب يوميا بسقوط مئات القتلى والجرحى من المدنيين، وسط مؤشرات إلى أن إسرائيل خفضت حقا بفعل صمود المقاومة في غزة، وتنامي السخط الدولي إزاء جرائمها ضد المدنيين، من سقف أهدافها من إنهاء وجود حماس في غزة إلى الاكتفاء بمحاولة ضرب بنيتها العسكرية وتصفية ما تستطيع من قياداتها، مع ملاحظة أن نتنياهو وقادة آخرين في إسرائيل باتوا يرددون كثيرا اسم قائد حركة حماس في غزة يحيى السنوار لاغتياله، أو اغتيال قادة آخرين من حماس خارج غزة، كإنجاز يعفيهم من مواصلة عمليتهم العسكرية المتعثرة. وفي كل حال، تبقى هذه أهدافا غير نهائية، قد ترتفع أو تنخفض تبعا للتطورات على الأرض، وعلى الساحتين الإقليمية والدولية.
وفي حال أصرت إسرائيل على هدف تدمير حماس وإنهاء حكمها للقطاع، فإن ذلك سيزيد الحرج على طهران، وقد تضطر إلى رفع مستوى تدخلها عبر حليفها حزب الله وميليشياتها في سوريا والعراق واليمن دون الوصول إلى درجة الانخراط الكامل في الحرب.
ولمزيد من الفهم بشأن المعادلة التي تحكم موقف إيران، وبالتالي حزب الله، لا بد أن ندرك أن نجاح إسرائيل في تحقيق أهدافها المعلنة في غزة، سوف يصيب إيران بخسارة استراتيجية ثقيلة، ويؤدي إلى حصول تضعضع كبير في الحلف الذي تقوده إذ جرى شطب أحد أعمدته أمام أعين “الأخ الأكبر” الإيراني، ما يجعل بقية الأعضاء يتلمسون على رؤوسهم، حيث سيكون حزب الله هو الهدف التالي لإسرائيل حالما تتخلص من كابوس غزة، وهو ما ألمح إليه وزير دفاع إسرائيل بقوله إن ما يجري في غزة هو رسالة إلى حزب الله.
يضاف إلى ذلك، فإن مثل هذه الفرضية ستقود إلى خسارة إيران لـ “الورقة الفلسطينية” التي تشكل المظلة السياسية لكل نفوذها في المنطقة. كما أن “انتصار” إسرائيل في الحرب، سوف يفتح عهدا جديدا في المنطقة تنتفي معه ثقافة “المقاومة” التي ترعاها إيران، وقد تنفتح أبواب التسويات السياسية، وهي البيئة المنافية للخطاب السياسي الإيراني القائم على مواجهة “الصهيونية وقوى الاستكبار العالمي”، ما يجعل المنطقة برمتها تفلت من يدي إيران، وتخضع للمزاج الجديد القائم على السير في ركب إسرائيل، واستعادة حركة التطبيع معها زخمها، تحت شعارات إحياء عملية السلام.
أخيرا لا بد من القول إن انكفاء إيران عن المنطقة، قد لا يكون في مصلحة إسرائيل أيضا، لأن من شأن ذلك إطفاء جذوة الصراعات في المنطقة القائمة على أساس مذهبي (سنة وشيعة) ما قد يولد تكتلات ومحاور خارج هذا الإطار، قد لا تكون مريحة للمخططين الإسرائيليين والأميركيين الذين يريدون مواصلة التركيز على التناقضات المختلفة بعيدا عن ثنائية الصراع العربي – الإسرائيلي، حيث تشكل سياسات إيران التي تعتبرها كثير من دول المنطقة توسعية وبأذرع طائفية، عامل استقطاب واستنزاف للدول والمجتمعات العربية، وليس من مصلحة إسرائيل انتهاء هذا الدور الإيراني، حتى لو كان يعوم على شعارات محاربة إسرائيل.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا
ألا تعتبر لعبة “المناوشات المنضبطة” التي يديرها “محور المقاولة والمماتعة” مع الكيان الصه.يو.ني والولايات المتحدة تخاذل لـ “جبهة المساندة” للمقاومة الفلسطينية في غزة ؟، لأنها وإن حققت بعض أهدافها بالنسبة لملالي طهران وأذرعتها ولكنها تعتبر بداية النهاية لهذا الحلف ، وإن كانت هذه النتيجة ليست لمصلحة الكيان الصه.يو.ني لأنها لا تحقق الدور الوظيفي لهما في المنطقة .