بعد ثلاثة أشهر من التظاهر اليومي المستمر من دون انقطاع في ساحات الكرامة في السويداء، يتكرر السؤال مراراً ماذا بعد؟ ما النتيجة التي سنصل إليها؟ وما الذي تحقق على أرض الواقع؟ والسؤال الأصعب هل يمكن للسويداء أن تحقق ما لم تتمكن مظاهرات السوريين السلمية عامي 2011 و2012 من تحقيقه سريعاً فعلها التونسيون والمصريون وقتها؟ ويأتيك من يجيب، ما دام كذلك، فلما لا نذهب لمطالبنا المحلية المعاشية أو تحقيق إدارة ذاتية في السويداء، و”كفى الله المتظاهرين شر الاستمرار”!
سؤال ماذا بعد سؤال حق بالمبدأ وإجاباته المتعددة دلالة يقظة من جهة وإشارات مهمة لقراءة الواقع بمعطياته ومتغيراته بعيداً عن الأحلام في الجهة المقابلة. فيما أنه سؤال لم تكتمل أركانه ولم تفصح المظاهرات السلمية بعد عن كل جعبتها، وجعبة السوريين ممتلئة قهراً وحيفاً وتاريخاً طويلاً من تقلبات مسارات الثورة الشاقة وتحولاتها المتعددة. هو سؤال البحث في جدار أسود صلب يحيط بك من كل الجهات فيما البحث عن بقعة نور فيه هي الإجابة الشافية، فهل نعبر؟
ماذا لو سألنا: ماذا يمكن لأبناء السويداء أن يفعلوا بعد؟ كيف نستمر وإلى متى؟ وكيف يمكن للسوريين أن تمتد يدهم إلى السويداء، وهم المنقسمون بين مهجرين في كل شتات الأرض (نحو 13 ونصف مليون من المدن السورية التي ثارت ضد النظام مهجرة بالداخل والخارج)، فيما يقبع البقية من السوريين تحت القبضة الأمنية المطلقة ونيران الميليشيات الإيرانية وقواها الرديفة! هذا ولا يمكن أن نتجاهل أن المسألة السورية باتت مسألة دولية معقدة الحل تقع تحت نير مصالح الدول المتدخلة فيها عسكرياً بشكل مباشر، والمتباينة مصالحها على أرض الواقع لدرجة إمكانية اشتعال المنطقة بحرب إقليمية واسعة. حيث روسيا وإيران وتركيا وأميركيا وإسرائيل، اللاعبون الأساسيون في الملف السوري، تتضارب مصالحهم ويتجنبون صدامهم المباشر فيما بينهم.
بعد قرابة 90 يوماً من المظاهرات المستمرة في ساحات السويداء المطالبة بتنفيذ القرار الدولي 2254 والدخول بمرحلة انتقالية تفضي للتغيير السياسي الوطني العام، والذي يعبر عنه شعبياً بإسقاط النظام، من الضرورة اليوم تحليل سياقها ومحاولة وضع إجابات أولية على سؤال ماذا بعد وإلى أين؟
لليوم لم يزل النظام السوري يتجاهل مطالب السويداء، ومراهناته على شرخ صف المتظاهرين والاعتماد على الاستنزاف الداخلي لها لم تتحقق، فرغم التعب والإرهاق العام وانشغال المجتمع المحلي بمواسم الزيتون والتفاح، إلا أن المظاهرات مستمرة ومتعددة النقاط في قرى وبلدات السويداء، ولم يزل يوم الجمعة في ساحة الكرامة على زخمه واتساعه. في الجهة المقابلة، خفت الأصوات التي كانت تتهم السويداء بالانعزال وأنها حاملة مشروع انفصالي كما روج لها النظام، فقد حاول البعض الحديث عن إدارة ذاتية، أثبتت معطيات السويداء الوطنية من جهة والمادية الاقتصادية من جهة أخرى أنها مجرد وهم سياسي لا أرضية له. فيما أتت مجريات أحداث غزة لتظهر دلالات عدة أهمها التضامن الشعبي الواسع مع غزة وإدلب ورفض الجريمة التي تمارسها إسرائيل وروسيا وقوات النظام في كل منهما. واتضح للجميع أن إيران تستثمر في مجريات غزة للتفاوض على أماكن وجودها في سورية والتضحية بسكان غزة. حيث تعمل إسرائيل على تهجير سكان غزة بكل طرق جرائم الحرب المفتعلة، ما ساعد إيران على تأجيل الملف السوري واستبعاده عن ساحة التفاوض الجديدة التي حركتها مظاهرات السويداء. فمظاهرات السويداء جعلت جامعة الدول العربية تعيد النظر في مبادرتها الأخيرة بالشأن السوري والمطالبة بتفعيل الحل السياسي وخروج إيران من سوريا. وهذه أهم إيجابيات مظاهرات السويداء غير المرئية لليوم، حيث إنه في بدايات شهر تشرين أول/أكتوبر، تم إبلاغ النظام بذلك وطلب منه الاستجابة بخطوات واضحة في الحل السياسي، الأمر الذي كان أحد الأسباب الهامة لافتعال مجزرة الكلية الحربية في حمص في 5/10.
شعبياً وعلى مستوى الواقع الداخلي في السويداء، ورغم بروز الاختلاف والجدل الطويل حول الأعلام والرايات المرفوعة في المظاهرات، والتي أدت لتداخلات متعددة حول حمل علم الثورة وتباين الآراء حوله. فالبعض يكرر أن حمل علم الثورة دليل على التحاق ثورة السويداء في الثورة السورية، مقابل أن حمل الرايات الشعبية وفقط يعني انعزال السويداء وصبغها بالطائفية! فيما أوضحت مجريات الواقع العام، أن مطالب السويداء واضحة تماماً لا لبس فيها ألا وهو التغيير السياسي وتفعيل القرار 2254 وأولى خطواته الانتقال السياسي، فيما القضايا الدستورية وطبيعة نظام الحكم والعلم مسائل مستقبلية تأتي بعد المرحلة الانتقالية، حيث يتمكن كل السوريين من انتخاب ممثليهم بحرية لهيئة تأسيسية تعمل على مستقبل سوريا واستحقاقات نظام حكمها. والجدير بالقول هنا، إن الوعي الشعبي العام، واستجابة الوعي السوري العمومي معه أعاد تأكيده على أحقية التغيير السياسي أولاً وزج كل الطاقات السورية فيه. كما أن مسألة اللجنة الدستورية مضيعة للوقت وهو ما أبلغت السويداء فيه بوضوح بيدرسن! فيما الاختلاف على الرايات والأعلام عامل انشقاق داخلي في حراك السويداء الشعبي، الأمر الذي يقوض تماسكها وحراكها السلمي المطالب بإسقاط النظام وتغييره السياسي السلمي.
كما أنه من الهام جداً الدلالة على التطور النوعي الذي أتت به مظاهرات السويداء في أسابيعها الأخيرة، وهو بدء انتظامها الشعبي في قوى مدنية بدأت تعبر عن نفسها بوضوح، فكان لحضور هذه التجمعات المدنية معنى ذو دلالة واضحة على مطالب أبناء السويداء، ومن خلفهم كل السوريين، بدولة المؤسسات والقانون وإسقاط سلطة البعث واللون الواحد المتحكم برقاب السوريين لعقود خلت. ففي الأسابيع الأخيرة ظهرت على ساحة الكرامة في السويداء تجمعات المهندسين والمعلمين والمحامين والقطاع الصحي والمعتقلين والمفصولين تعسفياً، وأيضاً تجمعات شعبية من رجال الدين تردد شعار “الدين لله والوطن للجميع”، فيما يجهز الفنانون والكتاب والتجار وأصحاب الحرف المهنية أنفسهم للدخول على ساحة التظاهر، الأمر الذي ينقل السويداء إلى مساحة مدنية واسعة تستهدف دولة المؤسسات والتعددية السياسية والفكرية وأساسها المجتمع المدني. الأمر الذي يقوض أية تهمة توصف بها السويداء بالانعزالية أو الطائفية الدينية، أو محاولتها الاستفراد بسياق الثورة السورية وفرض لونها الطائفي عليها، بقدر إبرازها المحتوى والمكنون الجمعي للسوريين في مطالبهم بالانتقال لدولة المؤسسات وسيادة القانون، دولة الحق والعدالة وتساوي السوريين جميعًا بالحقوق والحريات من دون أن يفرقهم عرق أو دين أو سياسة، بقدر ما يميزهم في تعدد اختصاصاتهم وكفاءاتهم وقدرتهم على إدارة شؤونه السياسية والإدارية.
سؤال ماذا بعد إجابته في سؤال آخر هو كيف يمكن تفعيل القرار 2254، وهنا الحمل الثقيل! والوزن السياسي لإمكانية تفعيله عربياً ودولياً. هو سؤال التحديات الكبرى، سؤال القدرة على الاستمرار بالتظاهر السلمي، والانفتاح المتبادل بين السوريين وأبناء السويداء. سؤال الخروج من العطالة السياسية التي مارستها صنوف المعارضة السورية من منصات وتحالفات كل يدعي أنه الأب الشرعي للثورة، فيما الثورة كانت ولم تزل أباها وأمها التغيير السياسي. وما تفعيل القرار 2254 إلا أولى فصوله التي تتطلب تخفيف النزعات الثورية التي حملت مسألة إسقاط النظام بالقوة العسكرية، وأوقعت معظم الجغرافية السورية تحت هيمنة قوى الأمر الواقع، فيما النظام بذاته بات قوة أمر واقع محكوم بإيران وروسيا معاً.
سؤال التغيير السياسي يعني أولاً أنهم مستمرون في التظاهر السلمي، ومنفتحون على تحالف سوري وطني واسع بلا مكاسب سياسية راهنة لفريق هنا وآخر هناك، فيما الهدف المرتجى هو تحقيق نقاط القوة وتثقيل ميزان التفاوض من ميزان عسكري خاسر إلى ميزان استحقاق سياسي سلمي رابح رافعته المظاهرات السلمية وحوامله مصلحة دول الجوار العربي والمنطقة بالاستقرار والسلام، الأمر الذي يعني إنهاء حكم العسكر والاستبداد، والوصول لدولة لكل السوريين، وهذا أضعف الإيمان، فهل ثمة ما نقوله بعد غير ذلك؟
المصدر: موقع تلفزيون سوريا