كانت عملية طوفان الأقصى التي قامت بها كتائب عز الدين القسام، الذراع العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، في السابع من شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، عملاً عسكرياً باهراً. لم يتوقّع أحد أنه يمكن اختراق كل الحواجز المادية والتقنيات التي توظفها إسرائيل من أجل حماية المستوطنات فيما يسمّى غلاف غزّة، ومن أجل عزل غزّة عن مناطق سيطرة إسرائيل. ومن أهم هذه الحواجز الجدار “المتطوّر” الذي يعزل غزّة، وطوله 65 كلم بعمق يصل إلى 40 مترا تحت الأرض وستة أمتار فوق الأرض، الجدار الذي يُقال إن بناءه كلّف مليار دولار، وإنه مزوّد بتقنيات تكشف مرور العصفور في الجو والصرصور على الأرض، غير أن العبور حصل مع ذلك، وقد عمي الحاجز “الذكي” عن الطائرات الشراعية والجرافات، الأمر الذي أحدث صدمة ليس فقط في إسرائيل، بل وفي العالم الداعم لها.
من الطبيعي أن تعيد أعمالٌ من هذا النوع الروح والأمل للكتل البشرية التي يطردها النظام السياسي السائد في العالم، إلى الهامش حتى يوشك أن يصنّفهم بشرا من سويّة دنيا. ألم يصرح وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، “إننا نقاتل حيواناتٍ على هيئة بشر، ونتصرّف على هذا الأساس”؟ من الطبيعي أن يفرح الناس الذين لم تكفّ إسرائيل عن ابتلاع أراضيهم وتهجيرهم وهدم بيوتهم وقطع أشجارهم، متحدّية بذلك ليس فقط القوانين الدولية، بل كذلك الحسّ السليم وأدنى إحساس بالعدل. من الطبيعي أن يفرَح هؤلاء ويهللوا، فليس للتاريخ نهاية، ومهما بلغت قوّة المعتدي، لن يستطيع أن يضع نقطة نهاية على السطر. يبقى دائماً للمقهورين ما يقولونه، ويوجد دائماً وسيلة للفعل والتأثير.
من ناحية أخرى، ومما يلقي الضوء على العقدة المستعصية لحالنا، فقد حُمل هذا الإنجاز العسكري المهم، على يد دول وسلطاتٍ تُمعن هي الأخرى، ليس فقط في تهميش الناس والاستهانة بإرادتهم، بل وفي قمعهم وقتلهم أيضاً. الفلسطيني السوري الذي أثلج صدره إنجاز “حماس” سوف يشعر بطعنة في الخاصرة، حين يوجه مقاتلو “حماس” التحية لنظام الأسد على أنه “سورية العروبة”، النظام الذي قصف مخيم اليرموك وحاصره إلى حدود المجاعة. هذا إذا وضعنا جانباً مشاعر هذا الفلسطيني إزاء بطش طغمة الأسد بالشعب السوري على مدى دزّينة من السنين، وإحالته سورية إلى بلدٍ ممزّق وعاجز. مشاعر متناقضة أيضاً إزاء هذا الحدث، سوف تشمل الفلسطيني الذي يعيش في ظل الإكراه والقسر الذي تفرضه سلطة “حماس” في غزّة. سوف يجد هذا الفلسطيني أن السلطة التي تستبدّ به، هي التي تقوم بهذا العمل غير المسبوق الذي بثّ الرعب وألحق الذلّ بالدولة العنصرية المستعمرة التي ما فتئت ترعب شعوب المنطقة وتذلها.
ينطبق الشيء نفسه على مساهمة إيران وحزب الله في هذا العمل، وهما في تماهٍ مباشرٍ مع طغمة الأسد. من الطبيعي، والحال كذلك، أن نجد قسماً مهماً من الشعب السوري، الشعب الأكثر قرباً وتبنّياً للقضية الفلسطينية، غير متعاطف مع “حماس”، بل منهم من يرى أن لهذه العملية مآرب تتصل بمحاولة “تعبئة رصيد” نظام الأسد، وإعطائه مجالاً أوسع للبطش بالسوريين، سيما أن عملية العبور البطولية تزامنت مع عمليات القصف العشوائي وبأسلحة محرّمة دولياً على مناطق ادلب وريف حلب.
يضاف المزيد من التعقيد إلى الحال الذي نحن فيه، إذا نظرنا في أمرين. الأول، صعوبة، إن لم نقل استحالة، مواجهة الاحتلال الشبيه بالاحتلال الإسرائيلي بواسطة تنظيمات أو سلطات تراعي القواعد الديموقراطية في عملها، ولاسيما في بيئاتٍ فقيرة تتنازعها عصبيّات أهلية، ولا تاريخ لها في أشكال الحكم الديمقراطية. أولوية التصدّي للاحتلال سوف تفرض نفسها على أي سلطةٍ تتبنّى هذه المهمة، وسوف تدفعها، كما لو بقانون، إلى مزيدٍ من احتكار السلطة والتصلب الأمني وتغليب “سوء الظن” في التعامل مع المحكومين. هذا عدا عن حشد الموارد المتوفّرة من أجل العمل العسكري على حساب معيشة الناس، ويفرش هذا كله الأرض لشتّى صنوف الفساد وسوء العلاقة بالجمهور.
إذا كان “الطغاة يجلبون الغزاة”، كما يتكرّر القول، فإن التجربة في بلداننا تبيّن أن عكس هذا القول لا يقلّ صحة. ساهم الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني في صناعة أعتى الطغاة أيضاً.
الأمر الثاني، أن التصدّي لاحتلال استيطاني، كالاحتلال الإسرائيلي المدعوم، فوق ذلك، من أقوى الدول، دعماً ثابتاً لا يكترث حتى بالقوانين الدولية، استهلك أشكال المقاومة الوطنية التي نشأت وتصدّت له، الأمر الذي حرّض في شعوب هذه المنطقة العناصر الدفاعية الأعمق، وهي العناصر المتصلة بالهوية الدينية. زاد في هذه الآلية اعتماد العدو الإسرائيلي على هوية دينية أيضاً هي اليهودية، التي لها تاريخ معروف من الصراع مع الدعوة الإسلامية الأولى، التاريخ الذي نسمع صداه يتردّد في معارك اليوم في صيحة “خيبر يا يهود”.
ما حصل من استناد مقاومة الاحتلال الإسرائيلي إلى الدين، كما في لبنان كذلك في غزّة، زاد في تعقيد الحال، حين أضفى على الصراع الوطني بعداً دينياً. فمن شأن البعد الديني أن يبتلع البعد الوطني، وأن يحيل الصراع إلى صراع هوياتٍ لا تتصالح. ليس غريباً، والحال كذلك، أن لا تعترف “حماس” بإسرائيل مثلاً، فمن طبيعة وعيها لهذا الصراع أنه صراع وجودي.
اجتماع خصوصية النضال ضد احتلال استيطاني مديد، مع تولّي هذا النضال جهاتٌ تستند إلى الدين، أنتج سلطاتٍ محلّيةً شديدة الوطأة على المجتمع الذي توجد فيه. ولكن هذه السلطات الدينية شديدة الوطأة تعرض مقدرة لافتة على الإنجاز وتحقيق مكاسب عسكرية، غير أن هذا الواقع ذاته، نقصد استبداد هذه الحركات وارتكازها الديني، يسمح بأن تكون جزءاً من “محور” يجعلها في خدمة سياساته التي ستكون، بطبيعة الحال، متأثرة بمصالح الطرف الأقوى في المحور، الذي هو، في حالتنا المعيّنة، النظام الإيراني.
يبقى من المهم الإشارة إلى أن ما يمكن اعتبارها إنجازات عسكرية لهذه القوى تستجر على الناس وعلى البلاد ردوداً انتقامية باهظة الكلفة إلى حدٍّ يحيل الإنجاز العسكري إلى مأساة، بسبب الفارق الهائل في ميزان القوى مع العدو الإسرائيلي، وبسبب وقوف أقوى الدول إلى جانب إسرائيل. الحقيقة أن الردّ الإسرائيلي الباهظ المتوقّع عقب كل عملية يشكل حاجزاً سياسياً ونفسياً أكثر فاعلية من حواجز العزل المادية المتطوّرة.
معضلتنا التي لا يراها، أو لا يريد أن يراها العالم، هي ماذا يبقى أمام المغتصبة أرضهم وحقوقهم، حين تُغلق أمامه السبل السياسية، وحين يريد العالم أن يلقّنه أقسى الدروس عقب كل محاولة عسكرية يريد من خلالها أن يعيد طرح مشكلته على الطاولة؟
المصدر: العربي الجديد