في شهر أيلول/ سبتمبر من كل عام تمتلئ الصحف والمواقع بمقالات عن ذكرى وفاة المرحوم جمال عبد الناصر، وعن جريمة الانفصال، وعن عهود من قاموا بهذه الجريمة التي انقضّت على تجربة العرب في الوحدة وهي الوحيدة والفريدة من نوعها، وعاماً بعد آخر تشتد لهجة التعاطي مع هاتين المناسبتين، من خلال استذكار مآثر من كان رائداً للقومية ومحركاً أساسيا للحركات التحررية، خاصةً العربية منها، ولا غرابة أن نرى أسهم المحبة والوفاء لذكرى الراحل عبد الناصر تتعالى قيمةً كلما تكالبت قوى الشر والاستتباع على المنطقة العربيـة وشعوبهـا.
وعلى وقع نغمات اسم جمال عبد الناصر الذي أسرَ القلوب والعقول من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر, ومن عام الثورة 1952 حتى1970 عام الرحيل الكئيب والمُحزن, اسمٌ سيبقى عنواناً واضحاً بتاريخ الأمة العربية، هذا الاسم وهذا المنهج, هذا التاريخ وهذه الأصول لناصرية جديرة بالاحترام والتقدير باعتبارها دليل عمل لثورة ستبقى مستمرة، وتطويرٍ دائم من خلال حركة نقد وتجاوز نحو المستقبل واستشرافاته، وفق ضرورات النضال والتقـدم.
قبل يومٍ واحد فقط من وفاته، تمكن عبد الناصر من إقناع الملك الأردني وزعيم منظمة التحرير الفلسطينية ،حينها، بالتوقيع على وقفٍ لإطلاق النار، وإنهاء المواجهة الدامية المعروفة باسم أيلول الأسود، وبدا عبد الناصر مرهقاً بعد التوقيع وهو لازال واقفاً في ساحة النضال يكافح من أجل وحدة الأمة العربية ومن أجل يوم انتصارها، لقد رحل عن عالمنا هذا الراحل العظيم في 28 أيلول/ سبتمبر 1970، الذي بدا كغيمةٍ أظلتْ سماءَ وطننا العربي الكبير، ففي الليلةِ الظلماءِ يُفتقد البـدر.
لقد كانت لحظة ميلاد الزعيم الراحل الحقيقية، هي لحظة تأميم قناة السويس، حينها تأكدت نواياه في انتزاع استقلال مصر، وتجسدت وطنيته وعروبته التي جعلت للقومية العربية لوناً ومعنى، لقد بنى الأساس الاجتماعي الحقيقي كرافعة أساسية للديمقراطية ومن أهم شروطها، إنها الطبقة الوسطى التي نجح عبد الناصر في بنائها بإجراءاتٍ سريعة وناجزة، سواءً في قرارات الإصلاح الزراعي وتحديد المُلكية، أو قرارات التمصير التي ظلت حلم “طلعت حرب” الاقتصادي الوطني الكبير، حتى أحالها عبد الناصر إلى واقعٍ مُعاش، فقد أعاد الاعتبار للمواطن المصري بتمكينه من حقوقه، التي حاول البعض اختزالها في الحقوق السياسية، كي تكون بنظرهم مدخلاً للشيطنة وتشويه كل إنجازات الراحل العظيم وإهالة التراب على تاريخه، واتهامه بأنه عطل مسيرة هذا الوطن نحو الديمقراطية غافلين عن عمدٍ أو جهل ما ذكرناه حول الأساس الاجتماعي لهـا!
إن تأمل قضية استئناف الحياة النيابية مثلاً قبل اكتمال شروط التغيير، كانت ستقود بالضرورة لإعادة إنتاج نفس التركيبة السياسية المشوّهة، التي ثار أحرار الجيش عليها في تموز/ يوليو 1952 وأعطاه الشعب تفويضاً لإنجاز أحلامه وأمانيه الوطنية، لا يُكابر عدو أو صديق لجمال عبد الناصر في الإنجاز الاجتماعي الذي حققه في مدى زمني قصير، لكنهم يفصلون، وبتعسف، بين هذا الإنجاز والظرف الدولي والإقليمي الذي حدث في أجوائه، نظامٌ تُعاديه الإمبريالية الدولية، وقاعدتها في المنطقة (إسرائيل).
لقد كان لديه تناقض مصري داخلي مثلته جماعة الإخوان التي أصرت على أن تكون شوكة في خاصرته، بديلاً عن التعاون معه، والإفادة منه، في تنمية مصر، وإنه لازال في الأذهان والوثائق، زيارته لـ”بني سويف” بعد شهور قليلة من قيام ثورة تموز/ يوليو، وكيف أعد تنظيم الإخوان مظاهرة ترفع شعارات لا حكم إلا بالقرآن، وكيف حاولوا إبراز عضلات التنظيم وفرض وصاية الجماعة على النظام الناشئ، لكن عبد الناصر رد بثبات وثقة العارف بما سيصنع قائلاً لهم، لا تكونوا كالببغاوات تُردد دون أن تفهم، أليس تحقيق العدالة الاجتماعية هو من أحكام القرآن، لكنهم قلبوا له ظهر المجن، وأشعل نظامهم الخاص الأرض تحت أقدامه، فلم يجد بداً من ردعهم بالطريقة الوحيدة التي يفهمونها.
ولولا أن السادات وبأوامر سعودية- أمريكية، منحهم قبلة الحياة ما قامت لهم قائمة، ولو أحسنوا النوايا لتم استيعابهم ضمن البنيان السياسي الذي حاول عبد الناصر دمجهم فيه، عندما أسس هيئة التحرير لتكون حاضنة للثورة ومؤسسة لتكوين الكفاءات السياسية، لتشارك في تحمل المسؤولية وهي مشبعة بأفكار الثورة وأهدافها، لكنهم كعادتهم في إضاعة الفرص تعاملوا مع الأمر باعتباره مؤامرة عليهم، ومحاولة لإذابة فكرتهم، التي بقيت مُنافية للوطنية ومناهضة لها، وما كان لها أن تلتقي معها أبداً، وسموا هيئة التحرير “مسجد الضرار” فى إحالات لم يتوقفوا عنها أبداً، تشي بالتكفير الضمني أو الصريح.
لقد حاول عبد الناصر دمجهم وهم الفصيل الأكبر وقتها، واستثنى حزبهم من قرارات حل الأحزاب لكنهم واصلوا تآمرهم عليه، فتعامل معهم بما يفهموا، فصنعوا مظلومية كاذبة بعد وفاته، نظن أن هذا الأمر قد اتضح في وعي الكثيرين الآن، وأدركوا كيف أن عبد الناصر كان أعرف بالإخوان من غيره، وكلما قفزت للواجهة شعارات ثورة كانون الثاني/ يناير في مصر، فلا يوجد لها صدى في الواقع إلا فيما فعله عبد الناصر، وكلما تاقت النفس للشعور بالزهو القومي والاستقلال الوطني تستحضر سيرته ومسيرته، لقد كانت مصر دولة حقيقية يفتخر بها، تصنيع وزراعة وتعليم وانضباط وكفاءة في كل المناحي، فكم وزير ثقافة كان في توهج ثروت عكاشة كم وزير إعلام كمحمد فائق، وغيره كثر في كل مجالات العمل والإنتاج، دون إهمالٍ لتداعيات وانعكاسات جريمة انفصال سورية عن مصر المستمرة دون توقف حتى الآن.
لنتأمل حضور مصر في أفريقيا، إدراكاً واعياً ومبكراً من الزعيم لمعنى الأمن القومي وحدوده، تأملوا حضورها في عالمها العربي والإسلامي، تأملوا مشاركتها في تأسيس منظمة دول عدم الانحياز، ساعتها تجسد الحضور في الداخل أو في الإقليم أو العالم، كان حضور مصر والعرب ظلاً لحضوره عملاقاً بالصوتِ والصورة؛ فحين غابَ توارى الحضور في كل المساحات ولم يعد لحضور العرب أي أثر، لقد غبتَ وغابَ معك الحضور.
لقد كان لجمال عبدالناصر مشروع وطني وقومي حقيقي، قفز على معضلات السياسة الدولية الاستعمارية حينها، وأدرك قدرات مصر والأمة وآمن بحقها في الحياة التي تليق بعبقرية الزمان والمكان، كما سماها المرحوم “جمال حمدان”، واجتهد جمال عبد الناصر وفق ظروف زمانه وكانت أولوياته وانحيازاته واضحة للسواد الأعظم من الشعب، لذا كانت جنازته تصويتاً على مكانته في قلوب الشعب، الذي يُفرق بسهولة بين من يعمل من أجله ومن يعمل لنفسه، أو لحساب آخرين من أعداء الشعب الذي يراد له أن يكفر برموزه وزعاماته ويُهزم من داخله.
إن رحم أمتنا ولادٌ، وسيبقى قادراً على أن يهبَ لنا عظماء من تراب أرضها، اتفق الناس حوله أم اختلفوا يبقى عبدالناصر زعيماً وطنياً وقومياً شجاعاً، أحب وطنه وأعطاه حشاشة قلبه، إلى أن كف القلب المُتعب عن النبض في هذه الأيام، لك رحمةُ الله والجنان يا جمال عبدالناصر، وجزاك خيراً عما قدمت من خير وعفا عنك وغفر لك ما قصرت، فلم يأتِ بعدك رئيسٌ أو زعيم عربي يحملً شيئاً واحداً من صفاتك.
المصدر: الحرية أولًا