اعتباراً من التاسع من سبتمبر (أيلول)، من المقرر أن تستضيف نيودلهي القمة السنوية الـ18 لمجموعة الـ20. في نظر الحكومة الهندية، سيسلط هذا الحدث الضوء على الأهمية الدولية المتزايدة للبلاد على الساحة العالمية. في العام الماضي، أعلن رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي عند تولي بلاده رئاسة المنظمة: “خلال رئاستنا لمجموعة الـ20، سنعرض تجارب الهند ودروسها وأمثلتها لتشكل نماذج محتملة للآخرين”. وفي أغسطس (آب) من هذا العام، أكد أن رئاسة الهند للمجموعة من شأنها أن تساعد في جعل العالم “عائلة واحدة” من خلال “الجهود التاريخية الرامية إلى تحقيق النمو الجامع والشامل”. وكانت رسالة الحكومة واضحة: إن الهند تتحول إلى قوة عظمى في عهد مودي، وستبشر بعصر من السلام والرخاء العالميين.
لكن على بعد ألف ميل من نيودلهي، في ولاية مانيبور شمال شرقي البلاد، تجد الهند نفسها عالقة في صراع يشير إلى أنها ليست في وضع يسمح لها بأن تكون قائداً على المستوى الدولي. على مدى الأشهر الأربعة الماضية، أدى العنف العرقي بين أكبر جماعة في مانيبور، وهي جماعة ميتي Meitei، وأكبر أقلية فيها، جماعة كوكي Kuki، إلى مقتل مئات من الناس وتشريد 60 ألف شخص. وأضرمت الحشود الهائجة النار في أكثر من 350 كنيسة وخربت أكثر من عشرة معابد، وأحرقت أكثر من 200 قرية.
للوهلة الأولى، قد يبدو أن أعمال العنف في مانيبور لن تعيق طموحات مودي في السياسة الخارجية. ففي نهاية المطاف، سافر رئيس الوزراء حول العالم خلال الأشهر الأربعة الماضية من دون أن يضطر إلى الحديث عن الصراع. ولم يطرح هذا الأمر (علناً في الأقل) خلال يونيو (حزيران) عندما فرش الرئيس الأميركي جو بايدن السجادة الحمراء لمودي في واشنطن العاصمة. كذلك، لم يأت أحد على ذكر الموضوع عندما وصل مودي إلى باريس بعد ثلاثة أسابيع والتقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. ولم تثر تلك المسألة خلال زياراته هذا العام إلى أستراليا ومصر واليونان واليابان وبابوا غينيا الجديدة وجنوب أفريقيا والإمارات العربية المتحدة.
ولكن لا يخطئن أحد: فالأحداث في مانيبور تهدد الهدف الذي يسعى مودي إلى تحقيقه ورؤاه عن هند عظيمة. فالعنف الذي جرى في الولاية أجبر الحكومة الهندية على نشر آلاف القوات داخل مانيبور، وبالتالي تقليص قدرة البلاد على حماية حدودها من الصين التي تزداد عدوانية بشكل مطرد. كذلك، أعاق ذاك الصراع الجهود التي تبذلها الهند لكي تصبح لاعباً مؤثراً في جنوب شرقي آسيا بسبب الصعوبات التي تواجهها البلاد في تنفيذ مشاريع البنية التحتية الإقليمية ومن خلال إثقال كاهل الدول المجاورة باللاجئين. ومن الممكن أن يمنح العنف المستمر الانفصاليين الهنود والجماعات المتحيزة العرقية الأخرى فرصة لتحدي سيادة نيودلهي. وإذا بدأت هذه التنظيمات بالتمرد، كما فعل بعضها في الماضي، فإن التداعيات ستكون وخيمة. في الواقع، تعد الهند واحدة من أكثر الدول تنوعاً في العالم، فهي موطن لأشخاص من آلاف الثقافات والمجتمعات المختلفة. ولا يمكن للدولة أن تعمل وتسير أمورها كما ينبغي إذا كان هؤلاء السكان في صراع حاد.
ولا يوجد سبب يذكر يدعو إلى التفكير في أن التوترات ستهدأ في عهد مودي، وفي المقابل هناك أسباب كثيرة تدفع للاعتقاد بأن التوترات ستزداد حدتها. ويتمثل المشروع الأيديولوجي المركزي لرئيس الوزراء في إنشاء دولة قومية هندوسية يصنف فيها الأشخاص غير الهندوس، في أفضل الأحوال، كمواطنين من الدرجة الثانية. إنها أجندة إقصائية تعمل على عزل مئات الملايين من الهنود الذين لا ينتمون إلى الأغلبية الهندوسية في البلاد. وهي أجندة لها سجل حافل في إثارة العنف والاضطرابات، بما في ذلك، الآن، في مانيبور.
يحب حلفاء مودي وأنصاره أن يزعموا أن رئيس الوزراء يعمل شخصياً على تحويل الهند إلى قوة عظمى جديدة. ويشير نواب مودي، على سبيل المثال، إلى أن رئيس الوزراء اكتسب احتراماً لم يحظ به أي زعيم هندي سابق. وفي سياق متصل، قال سوبراهمانيام جايشانكار، وزير الخارجية الهندي، في يونيو (حزيران)، إن مودي “يعبر عن الهند بطرق متعددة، وأظن أن ذلك ترك تأثيراً كبيراً أيضاً في المجتمع الدولي”. وأعلنت وسائل الإعلام الطيعة والمتملقة في البلاد أن مودي هو “فيشواغورو” vishwaguru: معلم العالم ومرشده. لكن مانيبور تظهر أن أمام الهند فرصة ضئيلة في أن تصبح قائداً عالمياً ما دام مودي على رأس السلطة. فالقوى العظمى لا بد من أن تكون مستقرة، بيد أن السياسات الإقصائية التي ينتهجها الحزب الحاكم ستتسبب في ظهور تصدعات مختلفة في البلاد، مما سيخلق هوة تؤدي إلى العنف وتستنزف قدرة الدولة. لقد أرسلت مانيبور تحذيراً لمودي، وهو يتجاهل ذلك ويعرض الهند للخطر.
أبناء الأرض الأصليون
لم يكن مودي أول سياسي هندي يروج للقومية الهندوسية وحكم الأغلبية. لقد أمضى حزب رئيس الوزراء بهاراتيا جاناتا (بي جي بي) والمنظمة الأم التي يتبع لها، راشتريا سوايامسيفاك سانغ (أر أس أس)، عقوداً من الزمن في محاولة تحويل الهند إلى راشترا هندوسية، أو ما يعني أمة للهندوس فحسب. وعلى طول الطريق، أراقت هذه الجماعات الدماء بشكل روتيني. فهي على سبيل المثال ألهمت الرجل الذي اغتال المهاتما غاندي في عام 1948، وساعدت منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانغ في تدمير مسجد تاريخي في عام 1992، مما أدى إلى اندلاع أعمال شغب واسعة النطاق.
ولكن على رغم أن القومية الهندوسية كانت موجودة منذ عقود، إلا أن الحركة اكتسبت قوة أكبر من أي وقت مضى. وتوفر مانيبور نظرة ثاقبة حول الطريقة التي حدث بها ذلك. من الناحية النظرية، من المفترض أن تكون ولاية مانيبور أرضاً غير ملائمة للعنصريين الهندوس، كما أن سكانها المنتمين بغالبيتهم إلى جماعة ميتي لا يعتبرون أنفسهم تقليدياً من الهندوس، لقد اتبعوا عوضاً عن ذلك عقيدة روحانية، لها معتقداتها وتقاليدها الخاصة. واللغة التي يستخدمونها ليست الهندية، ولا تمت للهندية بصلة. في الواقع، حتى أواخر التسعينيات من القرن الماضي، سعت حركة جماعة ميتي القومية إلى الاستقلال عن الهند. وعلى أقل تقدير، ينبغي لمنظمات جماعة ميتي أن تكون مناهضة للقوميين الهندوس الذين يحكمون البلاد.
لكن حزب بهاراتيا جاناتا ومنظمة راشتريا سوايامسيفاك سانغ عملا على إقناع المجموعات العرقية، التي تشكل الأغلبية في ولاياتها، بمساندة قضيتهما (إلا إذا كانوا من المسلمين)، بحجة أن هذه المجموعات تستحق السيطرة على المناطق التي توجد فيها، تماماً كما يتعين على الهندوس أن يسيطروا على الهند بشكل عام.
وفي بعض الأحيان، يحاول حزب بهاراتيا جاناتا ومنظمة راشتريا سوايامسيفاك سانغ أن يدمجا في التقاليد الهندوسية مجتمعات أصغر ذات ديانات روحانية. لا تصل رسالتهما دائماً، ولكن يبدو أنهما نجحا في إيصالها في مانيبور. وهكذا، أصبح كثيرون من أفراد جماعة ميتي يقولون الآن إنهم هندوس، حتى أن القوميين منهم يعتبرون أنفسهم جزءاً من برنامج حزب بهاراتيا جاناتا. إنهم يعتقدون أنهم سكان مانيبور الأصليون – أبناء الأرض الحقيقيون – وأن أفراد جماعة كوكي هم مهاجرون غير شرعيين من ميانمار. وتمثل حجتهم انعكاساً للحجة التي تقدمها منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانغ في كل مكان، زاعمة أن الهندوس هم سكان الهند الأصليون في حين أن المسلمين والمسيحيين هم غرباء.
وتكيف رئيس وزراء الولاية، نونجثومبام بيرين سينغ، مع واقع الحال وأظهر نفسه بصورة تتناسب مع الوضع. كان سينغ ذات يوم سياسياً تعددياً [من دعاة التعددية] تابعاً لحزب المؤتمر الوطني الهند، وهو حزب المعارضة الرئيس، وانضم إلى حزب بهاراتيا جاناتا في عام 2017 واتخذ موقف المنحاز إلى جماعة ميتي منذ عام 2022. فاز في انتخابات ولاية مانيبور مرة أخرى، ممثلاً حزب بهاراتيا جاناتا، وكان يقود الحملة ضد جماعة كوكي. وفي الأشهر التي سبقت بدء الصراع، تبنى سياسة الإخلاء التعسفي لقرى جماعة كوكي بحجة حماية الغابات. واعتباراً من شهر فبراير (شباط)، بدأت حكومته في التحقق من التفاصيل البيومترية الخاصة بالأشخاص الذين يعيشون في مناطق التلال الخاضعة لهيمنة جماعة كوكي من أجل تحديد “المهاجرين غير الشرعيين”. وفي مارس (آذار)، ألقى باللوم على “المهاجرين غير الشرعيين من ميانمار” المتورطين في “تجارة المخدرات” في الاحتجاجات ضد جهود الدولة الرامية إلى إجلاء جماعة كوكي من قراهم. وفي أبريل (نيسان)، صرح لصحيفة تسيطر عليها منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانغ أن “مهاجري جماعة كوكي الأجانب سيطروا على الشؤون الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الخاصة بالسكان القبليين الأصليين في الولاية”.
في الواقع، إن سياسات سينغ وخطابه تتعارض بشكل مباشر مع الدستور الهندي، الذي كان مصمماً لحماية الفئات المهمشة. تمنح وثيقة الدستور جميع الأقليات الأصلية في البلاد – بما في ذلك جماعة كوكي – حماية خاصة لضمان الحفاظ على أراضيهم ولغتهم وثقافتهم. بيد أن سبل الحماية تلك تنهار في عهد مودي. فبعد إعادة انتخاب حكومة مودي في عام 2019، سارعت إلى تجريد ولاية جامو وكشمير، الولاية الوحيدة ذات الأغلبية المسلمة في الهند، من تدابير الحماية المنصوص عليها دستورياً. ثم قام مودي بعد ذلك بتقسيم الولاية إلى قسمين وخفض تصنيف الأجزاء الناتجة من هذا التقسيم، فحولها من ولايات إلى مناطق خاضعة للسيطرة الفيدرالية. وتوقع مودي أن تحدث اضطرابات واسعة النطاق، لذلك عمد إلى نشر أعداد كبيرة من القوات في منطقة كانت بالفعل منطقة عسكرية وقطع الإنترنت عنها. وكان ذلك رد فعل وحشياً، أرسل رسالة واضحة إلى المجموعات الأخرى التي تتمتع بالحماية.
وشمل ذلك جماعة كوكي، التي أصبحت تواجه الآن خطر فقدان الحماية الخاصة بها. في أبريل (نيسان) 2023، قضت المحكمة العليا في الولاية بأنه يجب على حكومة الولاية أن توصي بما إذا كان ينبغي السماح لجماعة ميتي بأن تحظى بمجموعة الامتيازات نفسها الممنوحة لجماعة كوكي، بما في ذلك الوظائف المخصصة لأفراد جماعة كوكي، والمقاعد الجامعية المحجوزة لهم، والقدرة على شراء الأراضي في مناطق تلال مانيبور (في سياق السياسة الهندية، كان هذا يعني فعلياً إعلام الولاية بضرورة منح جماعة ميتي القدرة على الوصول إلى هذه الامتيازات). وكان هذا القرار، الذي دانته جماعة كوكي على الفور في مانيبور وغيرها من المجتمعات القبلية، سبباً في اندلاع الاضطرابات الأخيرة. وعندما نظمت المجموعات القبلية مسيرة للاحتجاج على الأمر الصادر، بدأت تتقاتل مع جماعة ميتي التي أيدت هذا القرار. وسرعان ما تصاعدت الاشتباكات وتحولت إلى عملية إراقة دماء منظمة. وخضعت المناطق التي كانت غالبية سكانها من جماعة ميتي في وادي إمفال في مانيبور لعملية تطهير من جميع الأشخاص المنتمين إلى جماعة كوكي. رداً على ذلك، استهدفت جماعة كوكي أسر جماعة ميتي في عقر دارهم.
ولكن على رغم لجوء الجانبين إلى العنف، فمن الواضح أن القبائل تحملت العبء الأكبر من المذبحة. تعرضت نساء جماعة كوكي للاغتصاب ولأشكال أخرى من العنف الجنسي. ولم يبذل الجنود الهنود جهداً كبيراً لاعتقال رجال جماعة ميتي المسلحين. ولم تفعل شرطة مانيبور أي شيء تقريباً بينما كان عناصر المجموعات التابعة لجماعة ميتي ينهبون مستودعات الأسلحة الخاصة بها. منذ بدء الصراع، استولت الحشود الهائجة على أكثر من 4900 قطعة سلاح و600 ألف طلقة ــ بما في ذلك قذائف الهاون، والمدافع الرشاشة، وبنادق أيه كاي-47 AK-47 ــ من مخازن مانيبور. واستحوذت ميليشيات جماعة ميتي على ما يقرب من 90 في المئة من تلك الأسلحة.
روابط ضعيفة
ليست جماعة كوكي مجموعة عرقية معزولة، بل هي جزء من شبكة واسعة من القبائل التي تعيش في مانيبور، والولايات المجاورة لمانيبور، واثنين من الدول المجاورة للهند: بنغلاديش وميانمار. ونتيجة لذلك، فرت عشرات الآلاف من عائلات جماعة كوكي إلى هذه المناطق، مما أدى إلى تحويل الصراع في مانيبور إلى قضية إقليمية.
وأدى النزوح والعنف إلى تقويض استراتيجية مودي الكبرى. وبموجب سياسة “التحرك نحو الشرق” [أو ما يعرف بسياسة “انظر شرقاً” الرامية إلى التفاعل وتقوية الروابط مع الشرق] التي ينتهجها مودي، على سبيل المثال، تحاول الهند بناء البنية التحتية التي تربط ولاياتها النائية الواقعة في شمال شرقي البلاد بدول جنوب شرقي آسيا. لكن عدم الاستقرار أدى إلى تأخير هذه المشاريع الطموحة. فالحكومة، على سبيل المثال، لا تستطيع أن تبدأ بشق طريق سريع مخطط له يربط الهند بميانمار وتايلاند قبل أن يحل السلام في مانيبور. وعلى نحو مماثل، لا يمكنها أن تطلق مشروعاً من شأنه تحسين الوصول إلى الساحل في شمال شرقي الهند من خلال بناء طريق إلى بلدة باليتوا النهرية البورمية [الميانمارية]. (والجدير بالذكر أن النزاع الأهلي في ميانمار يعرقل هذه المساعي أيضاً). وبالتالي فإن مساعي الهند لزيادة نفوذها في جنوب شرقي آسيا تظل مجمدة، حتى مع استمرار الصين في إنفاقها الإقليمي الضخم في إطار مبادرة الحزام والطريق.
واستطراداً، فإن تداعيات الصراع الناتجة من أعمال العنف في مانيبور ليست الوحيدة التي جعلت من الصعب على نيودلهي أن تتنافس مع بكين. على مدى الأشهر الـ40 الماضية، نشأت سلسلة من المواجهات الحدودية الساخنة – والمميتة في بعض الأحيان – بين القوات المسلحة الصينية والهندية في ظل محاولة الصين أن تسلب الهند أراضي الهيمالايا. ونتيجة لذلك، أصبحت حماية حدود الهند أحد أهم أهداف السياسة الخارجية في البلاد. ولكن لإرسال قوات إلى مانيبور، اضطرت الحكومة الفيدرالية إلى سحب فرقة جبلية كاملة تتألف من نحو 15 ألف جندي بعيداً من الحدود الصينية – الهندية، مما أدى إلى إضعاف دفاعات الهند.
وبطبيعة الحال، قد لا تستفيد الصين من حال الضعف على الحدود الهندية،إذ إن بكين لديها أولوياتها وقضاياها الأمنية الخاصة. ولكن، حتى لو لم يسفر الصراع في مانيبور عن مساعدة الصين بشكل مباشر، فإن العنف سيؤدي إلى تدهور مكانة الهند الدولية. منذ استقلالها عن الحكم الاستعماري البريطاني في عام 1947، عانت الهند حركات تمرد انفصالية عديدة. على سبيل المثال، شن الانفصاليون السيخ حملة دموية فاشلة من أجل الاستقلال في ولاية البنجاب الشمالية خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. وقاتل المتمردون الماويون [شيوعيون هنود تابعون للصين] ضد الهند في أجزاء من شرق البلاد ووسطها. ولا تزال بعض هذه الجماعات موجودة، وهي تذكر الهنود في بعض الأحيان بوجودها من خلال القيام بأعمال عنف شديدة. وقد يسهم الانهيار الكامل للحكومة المركزية في مانيبور في تشجيع الجميع على تحدي نيودلهي، مما يضع المؤسسة الأمنية الهندية تحت ضغوط متزايدة ويحول طاقتها ومواردها [وتركيزها] بعيداً من التهديدات الخارجية الكبرى.
ولكن على رغم هذه الأخطار، أظهر مودي على نحو ملحوظ عدم مبالاته بالصراع. فهو لم يقم بزيارة مانيبور، كما رفض الاجتماع بممثلين منتخبين من الولاية. ولم يترأس اجتماعاً حول أعمال العنف، ولم يصدر بيانات مهمة تدين مقتل أهل مانيبور أو المعاناة التي تعرضوا لها. ولم يصدر أي رد فعل حتى عندما أحرق حشد كبير غاضب منزل وزير الدولة للشؤون الخارجية [سينغ] في [إمفال] عاصمة الولاية. ولم ينكسر صمت مودي إلا بعد 78 يوماً، عندما أمضى 36 ثانية كاملة في انتقاد العنف بعد انتشار مقطع فيديو لامرأتين من جماعة كوكي تتعرضان للتحرش وتجبران على التجول عاريتين أمام الجميع. ولم يتحدث مودي عن القتال مرة أخرى إلا بعد بضعة أسابيع، عندما طرحت أحزاب المعارضة قراراً بالتصويت لحجب الثقة عنه في البرلمان، وذلك لإجباره على التحدث عن هذه القضية. وحتى في ذلك الحين، أثار مودي الموضوع بعد مضي حوالى 90 دقيقة من بدء كلمته، في أعقاب انسحاب جميع المشرعين المعارضين وهم مصابون بالإحباط.
ملك الرماد
هنالك تفسيرات عدة لصمت مودي. الأول هو موقع مانيبور. في الواقع، ينظر إلى الولاية، الواقعة [المحشورة] في الركن الشمالي الشرقي للهند، على أنها أرض بعيدة ــ بالكاد ترتبط بالبلاد نفسياً وجغرافياً، والآن رقمياً. (قطعت الحكومة شبكة الإنترنت في مانيبور على نطاق واسع رداً على الاضطرابات). والسبب الآخر هو أن مانيبور موطن لـ3 ملايين شخص فقط، مما يشكل جزءاً صغيراً من سكان الهند البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة، وبالتالي فإن وسائل الإعلام الصديقة لحزب بهاراتيا جاناتا في البلاد يمكن أن تتجاهل سياسات الولاية بسهولة. والسبب الثالث هو أن مودي ربما يعتقد أنه قادر على حل الصراع من دون أن يقول أي شيء، وذلك ببساطة عن طريق إرسال مزيد من القوات والشرطة للتعامل معه.
ولكن التفسير الأخير لصمت مودي كان أكثر إثارة للخوف: فرئيس الوزراء لا يستطيع أن يدين ما يحدث لأن ذلك من شأنه أن يفضح التناقض المدمر بين مشروعه الأيديولوجي ورؤيته المتمحورة حول إنشاء هند قوية. يتلخص هدف حزب بهاراتيا جاناتا في خلق دولة هندية يكون فيها كل شيئ خاضعاً لسيطرة الهندوس، وفق التعريف الذي يعطيهم إياه الحزب. ويتلخص ذلك في الشعار الوحدوي القديم لحزب بهاراتيا جاناتا ــ “هندي، هندوسي، هندوستان” ــ ويتجلى في حملاته الانتخابية الشرسة المناهضة للمسلمين. (خلال الانتخابات الوطنية لعام 2019، وصف أميت شاه، وزير الداخلية الهندي الحالي والقائد الثاني بعد مودي، المهاجرين المسلمين من بنغلاديش بـ”النمل الأبيض”.) إن السماح لجماعة ميتي بالسيطرة على جماعة كوكي يتماشى تماماً مع هذه الرؤية التي تشجع حكم الأغلبية. بعبارة أخرى، قد يكون ذلك نتيجة طبيعية لسياسات مودي.
من المؤكد أن مودي تصرف وكأنه لا يمانع في هيمنة جماعة ميتي. وكان بوسع رئيس الوزراء أن يقيل سينغ، أو أن يستخدم نفوذه الكبير لحمل القوات المسلحة في البلاد على كبح أعمال العنف التي ترتكبها جماعة ميتي فعلياً. لكنه لم يفعل. وعوضاً عن ذلك، وضع مودي مصالحه السياسية قبل متطلبات الدستور الهندي. لقد قرر أنه على رغم أن سلوك حزب بهاراتيا جاناتا في مانيبور قد ينفر بعض الناخبين، إلا أنه من المرجح أن يكون مفيداً من خلال حشد جماعة ميتي وجعلها تنحاز للحزب. ففي نهاية المطاف، أسهم احتواء الأغلبية الهندوسية في البلاد والسيطرة عليها من خلال الخطابات والأفعال الإقصائية في فوز مودي الساحق في الانتخابات الوطنية.
ولكن في الأمد البعيد، سيؤثر مشروع مودي سلباً على سلطة الدولة الهندية وصدقيتها. فهو سيؤدي إلى تصدعات بين المجتمعات المتعددة في الهند وستتسع تلك الانقسامات وتتحول إلى فجوات دائمة. وقد تواجه البلاد في نهاية المطاف ما سماه الكاتب الترينيدادي البريطاني في. إس. نايبول “مليون تمرد” يهدد كيان الهند. وقد تبدأ المجموعات العرقية المختلفة الأخرى في الشمال الشرقي في الاقتتال بين بعضها. ومن الممكن أن تقوم الولايات الجنوبية في الهند، التي تملك لغات وهويات مميزة خاصة بها، بمطالبة نيودلهي بمزيد من الحريات. أما كشمير والبنجاب – اللتان لا تتمتعان بأغلبية هندوسية – فهما قد تشهدان تجدد العنف الطائفي وحركات التمرد، علماً أنهما تقعان على حدود الهند المضطربة، وبالتالي فإن الصراع في أي منهما لن يبشر بالخير بالنسبة إلى أحلام نيودلهي الدولية.
وحتى لو لم يسفر التفوق الهندوسي عن حرب أهلية واسعة النطاق، فإن البرنامج القومي الذي تتبناه الحكومة الهندية من الممكن أن يقوض مسعاها إلى الاضطلاع بدور ريادي عالمياً. تحب نيودلهي أن تزعم أن تطلعاتها سلمية، لكن منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانغ تحدثت منذ فترة طويلة عن محاولة إنشاء “أخاند بهارات”: الهند الكبرى الخيالية التي تحكم فيها نيودلهي كل أفغانستان، وبنغلاديش، وبوتان، وميانمار، ونيبال، وباكستان، وسريلانكا، والتبت، أو أجزاء من تلك الدول والولايات. وعندما كشفت حكومة مودي النقاب عن مبنى البرلمان الجديد في شهر مايو (أيار)، عرضت لوحة جدارية تمثل هذا التصور. وتقدمت دول عدة بشكاوى رسمية رداً على ذلك.
وبطبيعة الحال، لا يشكل أي من هذه البلدان جزءاً من الغرب، الذي ليس لديه ما يخشاه بشكل مباشر من أهداف الهند الإقليمية. وفي الواقع، يبدو أن الحكومات الغربية تعتقد أنها ستحقق مكاسب من ذلك. وتأمل الولايات المتحدة وأوروبا علناً أن تتمكن الهند، التي تتزايد قوتها، من العمل كرقيب قوي يفرض ضوابط على الصين. ونتيجة لهذا بذلتا قصارى جهدهما لتجنب انتقاد نيودلهي، بغض النظر عن سلوكها السيئ.
ولكن أعمال العنف في مانيبور تظهر بوضوح حدود إمكانات الهند في ظل حكم مودي. لن تكون البلاد قادرة على الدفاع بفعالية عن حدودها إذا اضطرت إلى توجيه قوتها العسكرية نحو قمع الاضطرابات الداخلية. ولا يمكنها أن تعمل كقوة موازية للصين ومضادة لها إذا كانت تثقل كاهل أجزاء أخرى من آسيا بالصراعات الداخلية. والواقع أن الهند ستواجه صعوبة من أجل أن تكون فعالة في أي مكان في العالم إذا ظلت حكومتها منشغلة إلى حد كبير بالصراع الداخلي.
وبالنسبة إلى شركاء نيودلهي الغربيين فإن عجز الهند عن الاهتمام بأمور خارجية سيكون مخيباً للآمال بكل تأكيد، لكنه سيشكل خيبة أمل أكبر للهنود أنفسهم. إن دولتهم هي أكبر دولة في العالم، وينبغي أن تكون، بحق، قائداً عالمياً. ومع ذلك، من أجل أن تكون الهند مستقرة بما يكفي لإبراز سلطة كبيرة، فإنها تحتاج إلى الحفاظ على السلام والوئام بين سكانها المتنوعين ــ وهو أمر لا يمكنها تحقيقه سوى من خلال التحول إلى اعتماد ديمقراطية شاملة، وتعددية، وعلمانية، وليبرالية. وإلا فإنها تجازف بالتحول إلى نسخة هندوسية من بلدان جنوب آسيا الأخرى، مثل ميانمار وباكستان، إذ أدت الهيمنة العرقية إلى اضطرابات وعنف وحرمان. لذا، يتعين على كل من يرغب في نجاح الهند أن يأمل في أن تتمكن نيودلهي من إدراك المشكلة الكامنة في رؤيتها ــ وتغيير مسارها قبل فوات الأوان.
* سوشانت سينغ محاضر في جامعة ييل وزميل أول في مركز بحوث السياسات في الهند
* مترجم من “فورين أفيرز” 4 سبتمبر 2023
المصدر: اندبندنت عربية