في خضم جو مزدحم بالتوقعات والترقب الغامض، في منطقة تعيش على التنجيم السياسي، والاستشراف التبشيري، فكل ما يتعلق بشؤون ومستقبل الشرق الأوسط تضرب حوله السرية، ابتداء من الأرشيف السري في الدول الكبرى، ذلك المتعلق بتشكيل الكيانات السياسية للمنطقة والصفقات الكبرى فيها، وصولاً إلى المأزق السياسي الحاصل حالياً، حيث لا شفافية ولا ديمقراطية ولا أحزاب سياسية أو لوبيات تضغط من أجل الكشف عن أي قضية أو مفاوضات.. لكن ما يتوقعه المراقبون من خلال بضع تصريحات للدول الديمقراطية مضافاً إليه تنقلات بعض الساسة والتصريحات الرسمية لهم يُنبئ عن تغييرات قادمة في المنطقة بعد جفاف الحل العسكري والإنهاك الجماعي الذي أصاب جميع الأطراف.
المصدر الرئيس في الحبكة السياسية والذي يلعب دور الشرير في المنطقة، هي إيران، التي بدأت تظهر بعضاً من المرونة في مواجهة الدول العربية (أم الولد) والتي بدورها فهمت اللعبة دولياً وإقليمياً. إذ إن رجالات الدبلوماسية فيها، أو الذراع التنفيذية في القرار الإيراني بدؤوا يتحركون بحرية أكبر مُمَثَّلِين بوزير الخارجية مندوباً عن الرئيس، وكلاهما من التيار المحافظ، ولكن بالمقارنة مع قادة الحرس الثوري المتشنجين والمتمسكين بعلاقاتهم مع الأذرع في لبنان والعراق وسوريا، يَظهران وكأنهما من الحمائم، ولكن لا ضيرَ من التفاوض والدبلوماسية بديلاً عن الحرب التي لا يريدها أحد من الزعماء في المنطقة بمن فيهم القادة في طهران. التصريحات التي أطلقها عبد اللهيان من الرياض غير مسبوقة، دعم وتأييد لمشاريع التنمية السعودية وتَبنٍّ ودعم لوجستي لاستضافة الرياض إكسبو 2030، على سبيل المثال، وهو حدث عالمي سيتوّج رؤية المملكة التنموية، ودورها السياسي في المنطقة بشراكة الدول الخليجية، بعد استبعاد دولي لهذه الدول من المنصات السابقة لحلحلة شؤون المنطقة وأهمها استبعاد الدول العربية عن الاتفاق النووي 2015، وتأثيراته الكبيرة، ومن ثم سقوطه على يد ترامب.
ما تريده إيران هو استباق كامل للغضب الشعبي الذي تراه الحكومة في طهران قادماً لا محالة، مع الانهيار المدوي للعملة وللاقتصاد الإيراني، إيران ترى مستقبلها الذي تخشاه في سوريا ولبنان والعراق، رغم كل قوتها وثروتها الاقتصادية، لكن سياساتها وإيديولوجية النظام كانت تخنق البلاد بشكل كامل، ودمرت البنية التحتية وعزلت المجتمع دولياً. لكن من وجهة نظر الحرس الثوري، فإيران قد كسبت استراتيجياً في أربعة بلاد عربية، وباتت تتحكم بجزء مهم من الشرق الأوسط، لكن الحكومة التنفيذية تدرك أن هذا الوهم لا يمكن أن يطعم الشعب أو أن يرفع من قدرة المواطن الإيراني الذي يراقب دول الجوار تزدهر وتعيش واحدة من أفضل أيام تاريخها، الدول الخليجية، تركيا، أذربيجان، الهند مثلاً.. بينما ينتشر العوز في أسواق إيران وسط تضخم وعجز تجاري وانهيار للقدرة الشرائية، لذلك بادرت الحكومة الحالية لتقديم تنازلات اقتراحية، بدأت مع السعودية في اتفاقها التاريخي برعاية الصين، من أجل الوصول إلى ثقة متبادلة مع الولايات المتحدة، فإيران تدرك تماماً ألا عودة للنظام إلى المجتمع الدولي من دون موافقة أميركية، وعلى ما يبدو حدثت انفراجات بسيطة تمثلت في الإفراج عن المعتقلين الأميركيين في إيران في مقابل ستة مليارات دولار كانت محجوزة لدى كوريا الجنوبية، توسطت بهذه الصفقة قطر، ومن خلفها تنسيق خليجي طبعاً.
تصريحات عبداللهيان عن استعداد طهران للبدء في بحث شؤون المنطقة فوراً، مع السعودية، هو إشارة إيجابية، وهو ما اقترحه سابقاً باراك أوباما، في حواره الشهير مع صحيفة أتلانتيك حينما دعا إيران والسعودية إلى تقاسم النفوذ في المنطقة، مما أثار موجة سخط ضده، وهو من يقدّم نفسه داعماً للحريات والديمقراطية.
لكن العوائق كبيرة، وكبيرة جداً، والهوّة بين الطرفين في هذا الخصوص لا مقدرة لتفاهم ثنائي أن يجبّها، ومع ذلك تمّتْ تنحيةُ الملف اللبناني أو تأجيله لموعد آخر، لأنه وحيداً قادر على نسف كل شيء..
الطرف العربي يريد اتفاقات تاريخية، تنهي الصراع العبثي الذي تقوده إيران في المنطقة وتفتح الباب واسعاً للتنمية الاقتصادية التي تراهن السعودية على أنها كفيلة بتنحية منطق القوة جانباً، فالأمم التي لا تنمية اقتصادية فيها مستعدة لخوض حروب مجانية، بينما العكس بحسب وجهة نظر القادة الخليجيين هو الصحيح. وفي هذا شيء من وجهة النظر إن نحَّينا جانباً تاريخ النظام الإيراني في المراوغة والتنصل من الاتفاقات والمعاهدات، ولكن الضامن الصيني يراقب من بعيد لمصلحة كبيرة جداً لديه في استقرار المنطقة وتحولها لأسواق واعدة مع تحسن القدرة الشرائية لدى المواطن الشرق أوسطي.
تتحدث الواشنطن بوست عن تجربة أداء قريبة ومتوقعة في منطقة شرق الفرات في سوريا، فهل ستقبل إيران بأن يتم فصل الحدود بين العراق وسوريا بهدوء وبلا تشويش من ميليشياتها. في هذه التجربة ستظهر جدية الطرف الإيراني في تنفيذ الاتفاقات.. بالطبع إيران تملك الخط الجوي الذي يضمن لها نقل أسلحتها من طهران إلى حزب حسن نصرالله.. عبر سوريا. ولكن طهران تفاوض على كل شيء، ولا تقدم شيئاً بالمجان، بل هي تختلق الأوراق فقط من أجل التفاوض عليها لاحقاً، من خطف مواطنين، إلى بناء قواعد عسكرية في جنوب دمشق، إلى احتلال دول عبر الوسطاء.
في المقابل تبدو إدارة جو بايدن مستعدة أكثر من أي وقت مضى لتقديم تنازلات هي الأخرى، فمع اقتراب الانتخابات الأميركية باتت واشنطن منفتحة في براغماتية كبيرة، على المضيّ في مسارين خاصين بالشرق الأوسط، الأول هو المفاوضات على توسيع الاتفاق الإبراهيمي، والثاني هو الاتفاق السعودي الإيراني الذي أسبغت عليه واشنطن تبريكات التأييد، في محاولة لسحب إيران من المعادلة في أوكرانيا، ووقف دعمها لبوتين. المقابل سيكون كبيراً، ولربما ستقدم واشنطن تنازلات كبرى، في مواجهة طلبات إيران. التفاصيل متشعبة وكثيرة جداً، ولكن هذه المرة سياسة الخطوة بخطوة تبدو هي المفتاح السري للطرفين، في ظل انعدام الثقة بين الأطراف، سوريا وحدها تحتاج إلى شهور من المفاوضات الجدية للوصول إلى حل يضمن عدم اندلاع المعارك من جديد.
لكن التاريخ يعلمنا أن الصفقات الكبرى إن لم يتم التوافق عليها، فحتماً ستخلفها حروب كبرى. التنازلات المؤلمة تمهد الطريق في حال فشلها أمام الآلة العسكرية لفرض قواعد جديدة قبل استئناف الدبلوماسية مجدداً.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا