منذ بداية ربيع الثورات العربية، انشغل صنّاع القرار ومراكز التفكير الإسرائيلية بمتابعة تداعياته على الأمن القومي الإسرائيلي، بما ينطوي عليه من إمكانية تغيير نوعي في معادلة الصراع العربي – الإسرائيلي، نتيجة الدور الجديد المحتمل للشعوب العربية.
بالنسبة للثورة السورية، اعتمدت إسرائيل مقاربات عديدة، تبعًا للتحولات التي شهدها الصراع في سورية وعليها، مع وضع خطوط حمراء مضمونها رفض الإخلال بميزان القوى العسكري، الذي يعكس تفوّق إسرائيل. وعلى مدى اثني عشر عامًا ونيّف من الثورة السورية، أظهرت إسرائيل “حيادية” إزاء الصراع، أي لم تنخرط بشكل مباشر في مسارات جنيف وأستانا وسوتشي، وإن استغلته لتحقيق أهدافها. خاصة الضغط من أجل تجريد سورية من أسلحتها الكيمياوية، وتوجيه ضربات لطرق إمداد حزب الله بالسلاح، ومحاولة تأكيد تبعية الجولان لإسرائيل. مع التركيز على سياسة الرضى عن إضعاف مركزية النظام السوري، دون إبداء موقفها الواضح من إسقاطه أو إبقائه، وهذا ما جعل موقفها تجاه الصراع السوري مبهمًا.
في السنوات الأولى للثورة، كان الإعلام الإسرائيلي يتحدث عن “المذبحة السورية”، ومنذ سنة 2013 أولى اهتمامه لمخاطر الوجود الإيراني على الأمن القومي الإسرائيلي. ونحاول في هذه الورقة تتبع سياسات إسرائيل في التعامل مع الصراع السوري (2011 – 2023): محدداتها وتحولاتها وتحدياتها.
أولًا: أهم المصالح الإسرائيلية في سورية (2011 – 2023)
تمثلت أهم مصالح إسرائيل في إضعاف الكيان السوري، كي لا يقوى على مواجهتها، عسكريًا ودبلوماسيًا. وفي عام 2021، تمت الدعوة إلى التصدي الإسرائيلي للمخاطر في ثلاثة مجالات استراتيجية[1]:
أ – جنوب سورية؛ “على إسرائيل أن تستغل ضعف نظام الأسد ومنافسة النفوذ بين إيران وروسيا كفرصة لضرب الفروع الإيرانية، وإقامة علاقات مع السكان المحليين المعارضين للنظام”.
ب – في شمال شرق سورية؛ “نوصي إسرائيل بتطوير قنوات تعاون، في الظل، مع القوات الكردية ومنحها مساعدة عسكرية واقتصادية، وإلى جانب ذلك بناء منصة لنشاط عملياتي متواصل في هذه المنطقة، لمنع السيطرة الإيرانية على هذا الإقليم الاستراتيجي الغني بمقدرات الطاقة والزراعة”.
ج – الحدود السورية – اللبنانية؛ “إن سيطرة حزب الله على الحدود السائبة بين سورية ولبنان تعبّر عن ضعف استراتيجي لإسرائيل. ونوصي بأن تصعّد إسرائيل نشاطها العملياتي في المنطقة، وأن تشجع تدخلًا دوليًا”.
من أجل تحقيق مصالحها، تغيّرت سياساتها تبعًا لحاجات أمنها القومي، بما فيه ادعائها بأنها واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط، تبعًا لتوصيات مراكز التفكير الإسرائيلية (المتعددة الاختصاصات) لصنّاع القرار الإسرائيلي.
وهكذا تغيّرت خطوطها الحمراء، طوال الإثني عشر عامًا: منع إنتاج أسلحة كيمياوية وصواريخ بعيدة المدى، وإخراج سورية من معادلة الصراع العربي – الإسرائيلي، وإبعاد نفوذ إيران وميليشياتها من جنوب سورية خاصة، ومحاولة تكريس اعتبار الجولان المحتل أرضًا إسرائيلية، ونشوء دويلات طائفية على أنقاض سورية الموحدة، ودعم بقاء بشار الأسد في السلطة، بعد أن رُجِّحت كفة مؤيدي بقائه على كفة معارضيه، طبقًا لما قاله رون بن يشاي في صحيفة (يديعوت أحرنوت)، إذ إنّ “أنصار بشار استندوا إلى عدم ضمان مجيء التغييرات لصالح إسرائيل، مع التخويف من التنظيمات الجهادية التي يرونها أخطر من نظيراتها التي تتبع طهران. أما أنصار التغيير فكانوا يرونها فرصة لمجيء نظام جديد، تربطه علاقات جيدة بواشنطن والغرب وحلفائهما العرب، ويمكن توقيع اتفاق سلام معه من دون الانسحاب من الجولان”[2].
السعي الى تجريد سورية من سلاحها الكيمياوي:
سعت إسرائيل منذ حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، لإفشال المسعى السوري لتصنيع الأسلحة الكيمياوية، وعندما استخدمها النظام ضد سكان الغوطة الشرقية، في صيف عام 2013، كانت فرصة لإسرائيل للضغط على أميركا وروسيا للتخلص من السلاح الكيمياوي السوري، وكان لها ما أرادت. وقد أكد أمل جمال، أستاذ العلوم السياسية في جامعة تل أبيب، أنّ لإسرائيل “مصالح كبيرة في كل ما يحصل بسورية، وتقوم بجني الأرباح وحصد الغنائم دون أن يكون لها أي تدخّل، حيث حصلت على أفضلية بمستوى توازن القوى الإقليمية، وحصدت أكبر غنيمة استراتيجية نتيجة أخطاء النظام السوري واستعماله للسلاح الكيمياوي ضد المدنيين.. من خلال توجّه المجتمع الدولي للتعجيل بنزع هذا السلاح من الجيش السوري”[3].
كانت صحيفة (هآرتس) في افتتاحية لها قد ذكرت أنّ “الاتفاق الذي حققته الولايات المتحدة وروسيا لنزع السلاح الكيمياوي السوري، إذا ما نُفذَّ نصًا وروحًا، ينطوي في داخله على فرصة كبرى لإسرائيل. فمخزونات غاز الأعصاب لدى نظام الأسد تعتبر تهديدًا استراتيجيًا على الجبهة الداخلية”[4].
موقف إسرائيل تجاه المعارضة السورية
رأت إسرائيل أنّ المعارضة السورية مشرذمة من جهة، إضافة إلى هيمنة الطابع الإسلامي عليها، وسقوط النظام يهدد بسيادة الفوضى في سورية، أسوة بليبيا، فكان من مصلحتها استمرار نظام الأسد، ولكن مع إضعافه، وقد رأت في الحرب السورية مناسبة لإضعافه دون سقوطه ودون انتصاره، ويفترض أنها عملت بقوة على هذا الخيار مع الإدارة الأميركية.
إخراج سورية من معادلة الصراع العربي – الإسرائيل
اعتبرت إسرائيل أنّ الحل الأمني، الذي اختاره النظام للتعامل مع الحراك الشعبي السوري، قد أدى إلى تفكك الجيش السوري، والتراجع في حصانة الأمن الوطني، وتشظّي بنية المجتمع والدولة، مما سيخرج سورية من معادلة الصراع العربي – الإسرائيلي، بحيث تبقى الدولة الإسرائيلية هي القوة الأكثر قوة وأمنًا واستقرارًا في الشرق الأوسط. ولعلَّ توصيف المحلل الإسرائيلي عاموس هرئيل كان الأكثر بلاغة في هذا الأمر، إذ يقول: “المعركة في سورية تجري بين معسكرين معاديين جوهريًا لإسرائيل. والاستنزاف المتبادل بينهما، من دون حسم في الأفق، مجدٍ لإسرائيل. إنّ عدم الاستقرار في سورية خطير، وكذا احتشاد ناشطي الإرهاب من منظمات الجهاد العالمي على الحدود في الجولان مقلق، ولكنه لا يوازي المنفعة التي تنشأ عن تآكل القدرة العسكرية السورية، التقليدية وغير التقليدية. لا يوجد لإسرائيل أي سبب يدعوها إلى تمنّي انتصار أي من الطرفين”[5].
وعليه، فقد كانت المقاربة الإسرائيلية تقوم على تغذية الصراع في سورية، بهدف دفع المجتمع السوري نحو مزيد من التشظّي، على طريق إخراج سورية نهائيًا من معادلة الصراع العربي – الإسرائيلي، بل الاعتراف بأسرلة الجولان المحتل.
إبعاد النفوذ الإيراني، خاصة في الجنوب السوري
مع بداية الحديث عن دخول عناصر حزب الله إلى سورية، بدأ التحذير الإسرائيلي من تغلغل الميليشيات الإيرانية، مما يهدد أمنها القومي ويؤسس لقواعد اشتباك تسمح لها باستهدافها. وظهرت أول حالة انتقال في الموقف الإسرائيلي حيال الأزمة السورية، من الصمت إلى التدخل الظرفي الجزئي، في 30 كانون الثاني/ يناير 2013، حيث “ضربت بصواريخ أرض جوّ موقعًا عسكريًا قرب دمشق، ادعت أنه يحتوي على مواد كيمياوية، وأنه ضالع بنقل أسلحة من سورية إلى حزب الله”[6].
وبعد نهاية معركة حلب لصالح النظام السوري، في كانون الأول/ ديسمبر 2016، وجدت إسرائيل نفسها أمام واقع توسّع وجود حزب الله وميليشيات أخرى موالية لإيران، بالقرب من حدودها في الجولان. مما دفعها إلى التنسيق مع قاعدة حميميم الروسية، من خلال غرفة عمليات مباشرة، لمنع التصادم بين الطرفين خلال الغارات الإسرائيلية على سورية.
يعمل الإسرائيليون على إحباط مخططات إيران، عسكريًا وسياسيًا[7]، فقد قال وزير الأمن الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، في 2 آب/ أغسطس 2018: “أعتقد أنّ الهدوء على الحدود يمثل مصلحة لنا ولنظام الأسد، فالنظام يعي تمامًا ماذا يمكن أن يحدث في حال لم تعد الأمور إلى ما كانت عليه قبل العام 2011، وأنا متأكد من أنّ الأسد يأخذ ما أقول بعين الاعتبار”. ويعكس هذا الموقف نجاح موسكو في تأمين المصالح الإسرائيلية في سورية، مقابل قبول الاحتلال ببقاء الأسد. وكان المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سورية، ألكسندر لافرينتييف، أكد “انسحاب القوات الإيرانية لـ 85 كيلومترًا من مواقعها السابقة في الجنوب برعاية روسيا، بغية عدم إزعاج قيادة إسرائيل”. وشدد السفير الروسي لدى تل أبيب، أناتولي فيكتوروف، على أن روسيا “ملتزمة بضمان أمن إسرائيل”[8].
سياسة العصا والجزرة
تستخدم إسرائيل سياسة العصا والجزرة في مواجهة النظام السوري، إذا تستمر بضرب تمدد وجود إيران في سورية، فقد حمل القصف الإسرائيلي المتكرر لمواقع إيرانية في سورية عدة رسائل لإيران، مفادها أنه لن يُسمح لها بنقل الصواريخ الدقيقة إلى حزب الله، أو بنقل مكوّنات دقيقة للصواريخ والطائرات بدون طيار إلى حزب الله وسورية.
تنطوي الغارات الإسرائيلية على أبعاد استراتيجية عديدة، من أهمها: تعزيز الدور الإسرائيلي في رسم مستقبل سورية، جنبًا إلى جنب مع القوى الإقليمية والدولية المؤثرة، بما يؤكد دورها في الترتيبات التي تجري لمنظومة أمن إقليمي في الشرق الأوسط الجديد. وفي ما يخص عمليات القصف التي ينفذها الجيش الإسرائيلي، قال أمير برعام، قائد منطقة الشمال: “نحن لا نقتل لمجرد القتل، ولا نصيب لمجرد الإصابة، ولا ندمر مخازن أسلحة عبثًا. جنوب سورية لن يكون جنوب لبنان، وهذا المهم”[9].
ترى إسرائيل أن ليس من مصلحتها تعريض وجود النظام للخطر، وبالتالي لا تريد أن تنال من قدرة إيران على دعم النظام. فوجودها على الأرض ووجود الحرس الثوري الإيراني ووجود ميليشياتها المتعددة اللبنانية والعراقية والباكستانية والأفغانية يشكل ضمانًا لعدم سقوط النظام. ومن جهة أخرى، تخشى إسرائيل أن تنال العقوبات الشديدة على النظام من قدرته على البقاء، لذا فمن مصلحة إسرائيل أن تخفف العقوبات على النظام، بحيث لا تهدد استقراره.
تكريس اعتبار الجولان المحتل أرضًا إسرائيلية
ارتاحت إسرائيل عندما أيقنت أنّ البديل الممكن لسلطة آل الأسد ليس ديمقراطيًا قادرًا على تجميع قوى المجتمع وإعادة إنتاج الدولة الوطنية السورية الحديثة، وإنما سلفية دينية وقبلية اجتماعية. إذ أيقنت أنّ سورية ستتفكك، بحيث يصبح من الصعب تحديد الجهة التي ستطالب بالجولان. من هذا المدخل “رأت إسرائيل أنّ دفع سورية نحو الانقسام والتفتت سيضمن التشكيك في المشروعية القانونية لمطالبة أي من الدويلات التي ستنشأ -حال تفكك سورية- بالجولان، وبالتالي يصبح ضمها ليس فقط أمرًا واقعًا بحكم الاحتلال الإسرائيلي لها منذ عام 1967، بل أمر بالإمكان إعطاؤه شكلًا شرعيًا وفق القانون الدولي في مرحلة لاحقة”[10].
عقدت الحكومة الإسرائيلية، في السابع عشر من أبريل/ نيسان 2016، اجتماعها الأسبوعي في هضبة الجولان السورية المحتلة، للمرة الأولى منذ وقوعها تحت الاحتلال قبل 49 عامًا. واستهل نتنياهو الاجتماع بالقول: “إنّ هضبة الجولان ستبقى بيد إسرائيل إلى الأبد، وأنّ إسرائيل لن تنسحب منها تحت أي ظرف”[11].
ثمّة مؤشرات حول تشجيع إسرائيل دولًا أخرى من أجل تقاسم سورية، ليكون احتلالها جزءًا من تقاسم إقليمي لأراضيها. فقد دعا تسفي هاوزر، وهو مقرّب من نتنياهو، وشغل منصب سكرتير الحكومة في السنوات 2009-2013، في مقال له بعنوان “فرصة تاريخية في الجولان”، إلى استغلال الظروف الجديدة التي نجمت عن الحرب في سورية، وانهيار الدولة السورية والتغييرات في الشرق الأوسط، للعمل، بكل جهدٍ، من أجل أن يعترف العالم بضم إسرائيل الجولان، ومنحه شرعية دولية.
في هذا السياق، أعلن وزير المخابرات، يسرائيل كاتس، في 23 أيار/ مايو 2018، أنّ إسرائيل “تضغط على إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، للاعتراف بسيادتها على هضبة الجولان المحتلة، وأنها تتوقع موافقة الولايات المتحدة على ذلك خلال الشهور القادمة”[12]. وهكذا، جاء قرار الرئيس الأميركي ترامب، في 25 آذار/ مارس 2019، باعتبار الجولان المحتل أراضي إسرائيلية، حاملًا احتمالات عديدة للمرحلة القادمة.
بالرغم من القرار الأميركي، ثمة عقلاء في أميركا وإسرائيل يدركون مخاطر هذا القرار، فقد نشر البروفيسور جدعون بيغر (عالم جغرافي ومؤرخ، وأستاذ فخري في جامعة تل أبيب، ومسؤول الحدود في المحادثات مع السوريين في مؤتمر شيبردستاون بالولايات المتحدة الأميركية عام 1999)، في 5 كانون الثاني/ يناير 2023، مقالة في (يديعوت أحرونوت)، قال فيها: “يتعيّن على إسرائيل الانسحاب من الجولان، وأن تخلي مواطنيها (30 ألف شخص) الذين يعيشون هناك.. إنّ هذه ستكون صدمة كبيرة بلا شك، لكننا مررنا بهذا بالفعل مع عودة شبه جزيرة سيناء إلى مصر وإخلاء قطاع غزة. لكن في المقابل، ستستفيد إسرائيل من مثل هذا الاتفاق من عدة جوانب، كإزالة التهديد من الشمال، إذ لن يقف حزب الله ولا الجيش السوري ضد إسرائيل، وستفقد إيران معقلها في سورية، مما سيقلل من العبء العسكري بالنسبة إلى إسرائيل، وستوجه الموارد إلى الداخل”[13].
كما كتب فريد هوف، الدبلوماسي والوسيط الأميركي، أنه في 28 شباط/ فبراير 2011 “بلغت الدبلوماسية الأميركية نقطة حاسمة لتحقيق السلام بين سورية وإسرائيل. وصرح الرئيس الأسد بأنه يعتزم قطع العلاقات العسكرية مع إيران وحزب الله وحماس، شرط أن تلتزم إسرائيل بإعادة كل الأراضي التي استحوذت عليها في حزيران/يونيو 1967، وأقر نتنياهو بجدية الوساطة، ووجه الأوامر إلى فريقه بالمضي قدمًا صوب المعاهدة، استنادًا إلى مسودة أميركية”[14].
يبدو أنّ وساطة هوف كانت شرطية – افتراضية، كما حصل في منتصف تسعينيات القرن الماضي، عندما قاد وزير الخارجية الأميركي الأسبق وارن كريستوفر مفاوضات تحت عنوان “ماذا لو؟”، وقتذاك، وضع رابين في جيب كريستوفر “وديعة رابين” التي تضمنت الاستعداد للانسحاب الكامل من الجولان، إذا وافق الأسد على مطالب تتضمن علاقات السلم وترتيبات أمنية.
الدفع في اتجاه المحاصصة الطائفية ونشوء دويلات على أنقاض سورية الموحدة
منذ انطلاق الحراك الشعبي السوري في عام 2011، رتبت إسرائيل أوراقها للتأثير في مستقبل سورية، إذ عملت على تكريس عملية سياسية قائمة على المحاصصة الطائفية ونشوء دويلات على أنقاض سورية الموحدة، لتسهيل الادعاء بحقها في ضم الجولان بشكل نهائي. وكان رهانها على مزيد من التشرذم الطائفي، كي لا تتحول سورية إلى نموذج ديمقراطي في المنطقة.
ففي تاريخ اهتمام مراكز التفكير الإسرائيلية، منذ العام 2011 إلى العام 2022، وجدت إسرائيل أنّ استقرارها الأمني مرتبط بتقسيم سورية، لا ببقائها موحدة، وبرهن على ذلك الخبير الاستراتيجي الإسرائيلي، جيورا إيلاند، في بحث بعنوان “الاضطرابات في الشرق الأوسط وأمن إسرائيل”، وقد نشره معهد الأمن القومي الإسرائيلي، حيث أشار إلى أنّ هناك 4 سيناريوهات مستقبلية للأوضاع في سورية[15]: الأوّل بقاء الأسد في السلطة، والسيناريو الثاني سقوط الأسد، ودخول سورية إلى فترة من عدم الاستقرار والصراع الداخلي، ما يفتح المجال لزيادة التأثير الإيراني في سورية، وتكوين جماعات مدعومة من إيران ضد إسرائيل. والسيناريو الثالث هو وصول التيّار السني للحكم في سورية، وهو ما يعني زيادة التشدد الإسلامي ضد إسرائيل، بالرغم من أن التيار السني سيكون فاقدًا للدعم الإيراني الشيعي. والسيناريو الرابع هو إقامة حكم ديمقراطي في سورية مؤيد للدول الغربية، وفي هذه الحالة، من الممكن أن تضغط الدول الغربية على إسرائيل لقبول الدخول في مفاوضات للتنازل عن هضبة الجولان.
وبالنسبة للسيناريو الثالث يرى موشيه معوز، المختص بالشؤون السورية، أن “صعود الإخوان المسلمين إلى السلطة في سورية قد يعيد موضعة سورية كركن في التحالف الإقليمي المكوّن من تركيا والسعودية، ولربما، أيضًا إسرائيل في مواجهة المد الشيعي”[16].
أما الباحثان جدعون ساعر وغابي سيبو، في معهد دراسات لأمن القومي، فقد أشارا إلى أنّ “سورية التي يعرفانها قد انتهت إلى غير رجعة، ولا يمكن توحيدها من جديد”. ووجدا أن تقسيمها يَصبُّ في مصلحة الجميع (اللاعبين الإقليمين جميعهم في المنطقة)، ويُسهم في كبح داعش. وأنه “يجب أن تقر جميع الجهود المبذولة لحل الأزمة السورية بأن سورية عام 2010، دولة ذات سيادة ذات حدود معترف بها دوليًا، لم تعد موجودة. ولن يتم إنشاء دولة ذات سيادة مع حكومة مركزية فعالة في المنطقة المعترف بها كسورية، في أي وقت قريب.. وأنّ دافع البعض في المجتمع الدولي لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء وتحقيق الاستقرار في سورية “القديمة” في ظل حكومة جديدة ليس له أي جدوى سياسية أو استراتيجية. يجب أن يكون لأي استراتيجية تصاغ بهدف وقف الحرب الأهلية في سورية وتشكيل مستقبلها افتراض بداية واضح: لا يمكن تجميع سورية المنهارة والمنقسمة معًا.. وعلى الرغم من أنّ المصالح داخل المجموعات الإثنية لا تتقارب تمامًا، فمن الناحية العملية هناك تقسيم واضح إلى مجالات ديموغرافية متجانسة نسبيًا… في ظل هذه الظروف، يبدو أن التقسيم القانوني لسورية إلى عدة كيانات عرقية ودينية هو الخطوة الأكثر طبيعية، لأسباب ليس أقلها أن هذا لديه فرصة حقيقية للمساعدة في استقرار الساحة ووقف الحرب”[17].
تطبيقًا لهذه الرغبة لدى أغلب مراكز التفكير الإسرائيلية وصنّاع القرار، أصدر مركز يروشليم لدراسة المجتمع والدولة، الذي يرأسه وكيل وزارة الخارجية الإسرائيلي السابق دوري غولد، تقريرًا أفاد بأن “إقامة إقليم يضم درعا وجبل الدروز (السويداء) والقنيطرة يُعدُّ من أفضل الخيارات التي يمكن أن تسفر عنها التسوية الشاملة للصراع في سورية”[18]. على أمل أن يتواصل الصراع كي تضعف السلطة المركزية، وتبرز قوى محلية قوية، بعد أن أضحى تقسيم الأمر الواقع، على أسس طائفية وقومية وجهوية، قائمًا.
دعم بقاء بشار الأسد على رأس السلطة في سورية
ثمة إدراك متبادل بين إسرائيل ونظام بشار الأسد، فمن جهتها عملت إسرائيل للإبقاء عليه، وفي المقابل أدرك النظام أهمية الغطاء الإسرائيلي لاستمراره في السلطة؛ إذ اتفقت أغلب مراكز التفكير الإسرائيلية على أنّ بقاء بشار الأسد على رأس السلطة يشكل ضمانة لأمن إسرائيل، بل إنه “مصلحة قومية عليا لإسرائيل”. انطلاقًا من أنّ نظام آل الأسد حافظ على حدود هادئة مع إسرائيل، وأنّ النظام الذي تعرفه أفضل من الذي لا تعرفه، فقد حذر رئيس الهيئة الأمنية والسياسية في وزارة الدفاع الإسرائيلية، الجنرال عاموس جلعاد، من “أنّ سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد سيترتب عليه حدوث كارثة تقضي على إسرائيل، نتيجة لظهور إمبراطورية إسلامية في منطقة الشرق الأوسط، بقيادة الإخوان المسلمين في مصر والأردن وسورية”[19]. ولذلك فإنّ الحفاظ على نظام بشار الأسد هو مصلحة إسرائيلية. بعد أن أبدى استعداده لاعتماده إسرائيليًا. وقد فضح رامي مخلوف، ابن خال بشار ومستثمر أموال آل الأسد المنهوبة من الشعب السوري، هذا التوجه للسلطة، كما ذكرنا سابقًا. وكذلك فعل وليد جنبلاط، في حديث إلى فضائية (روسيا اليوم)، في 25 نيسان/ أبريل 2019، حيث كشف عن أنه “يملك معلومات من دبلوماسي روسي أنّ الأسد أرسل رسالة لنتنياهو سنة 2012، قال فيها: في حال تقسمت سورية، فإنّ الدويلة العلوية لن تكون خطرًا على إسرائيل”، فكان الجواب الإسرائيلي: “نريد رفاة الجاسوس كوهين”. ويتقاطع حديث جنبلاط مع ما دعا إليه رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي السابق عوزي ديان، في 5 شباط/ فبراير 2012، حيث تحدث مع إذاعة الجيش الإسرائيلي، طالب المجتمع الدولي بدراسة إمكانية فكرة “إقامة دولة للأكراد شمال سورية، لحل مشكلة اضطهادهم في المنطقة”، وكذلك طالب بإمكانية “إقامة حكم ذاتي للأقلية العلوية في سورية”[20].
ويبدو أنه غاب عن صنّاع القرار الإسرائيلي أنّ التغيير السياسي الذي يؤدي إلى انتقال سورية، من الاستبداد إلى الديمقراطية، سيجعل سورية عامل أمن وسلام وتنمية في إقليم الشرق الأوسط والعالم، تستطيع أن تساهم في تقليص دور إيران، ومن ثم في تحسين الوضع الأمني لإسرائيل. ويرجع الباحث الإسرائيلي إيتمار رابينوفيتش، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط بجامعة تل أبيب، الذي شغل في السابق منصب سفير إسرائيل في الولايات المتحدة ورئيس فريق مفاوضات السلام مع سورية ورئيس جامعة تل أبيب، أسباب تضييع تل أبيب هذه الفرصة واستبعادها خيار الوقوف ضد نظام الأسد، إلى ثلاثة أسباب وهي[21]: ضعف المعارضة، والدور المبكر الذي بدأت تلعبه الجماعات الإسلامية والجهادية في الانتفاضة الشعبية، والخوف الإسرائيلي من محاولة التدخل في تشكيل السياسة الداخلية لسورية للدول العربية المجاورة.
وهكذا، فإنّ صنّاع القرار في إسرائيل يفضّلون بشار الأسد، الذي أضعف سورية، على عملية انتقال سياسي، يمكن أن تفضي إلى تهديد ادعاءاتها بأنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وكذلك بما يمكن أن تفتحه من أفق للنهضة والتقدم. ومن جهة أخرى، يتساءلون عن مدى قدرة النظام الجديد على ضبط الفلتان الأمني الذي قد يهدد الأمن الإسرائيلي.
وفي هذا السياق، رحّبت إسرائيل بعودة النظام إلى جامعة الدول العربية، آملة أن تكون هذه العودة تمهيدًا لابتعاده عن إيران، كما راقبت صمته عن تطبيع بعض العرب معها، آملة أن ينضم إلى مجموعة التحالف الإبراهيمي “لقاء النقب”، تلبية للتوجهات الغربية نحو شرق أوسطي جديد، وإمكانية إدماج النظام في الخريطة الجديدة، معتبرًا أنّ التطبيع كفيل بتليين موقف أميركا، بما يفتح الباب له لتخفيف العقوبات، بل الحصول على مساعدات مالية لإعادة الإعمار.
ثانيًا. أهم التحديات التي تواجه الدور الإسرائيلي في سورية
ثمة تحديات عديدة ستواجه إسرائيل في سورية، من أهمها:
– التقانة العسكرية للصواريخ بعيدة المدى التي تمتلكها إيران، إضافة إلى وجود أذرعها على الأرض في سورية، في مقابل انعدام القوة الميدانية الإسرائيلية، إذ إن الضربات الجوية، بالرغم من غاراتها المتعددة على المواقع الإيرانية، لن تفيَ بغرض لجم إيران، وستبقى المعضلة الأمنية الإسرائيلية مستمرة.
–انعدام الاستقرار، إذ إنّ استمرار حالة الاستنقاع في سورية سيترك آثارًا يمكن أن تهدد أمن منطقة الشرق الأوسط، بما فيها الأمن الإسرائيلي.
–احتمال أن تسود حالة فوضى عامة، بسبب تعدد مصالح قوى الأمر الواقع، التي تعتمد وكلاء لها، خاصة القوى المتطرفة (هيئة تحرير الشام، وداعش)، مما ينطوي على احتمال إنشاء جماعات مسلحة تعمل ضد إسرائيل.
–إنّ استمرار الصراع السوري لإثني عشر عامًا ونيّف، وتحوّله إلى حرب أهلية متعددة الداعمين، أثار لدى مراكز التفكير الإسرائيلية تساؤلات عن تقييم المصلحة في استمرار دعم بقاء نظام بشار الأسد. خاصة أنّ إسقاطه يُضعف محور إيران، إذ يُفقدها إمكانية الوصول إلى لبنان، مرورًا ببغداد ودمشق.
وهكذا، فإنّ تقييم صناّع القرار في إسرائيل للصراع السوري قد يكون ضلَّ الصواب، لانطلاقه من المقاربة الأمنية فقط، دون أن يأخذ بعين الاعتبار المقاربة السياسية والاقتصادية التي توجّه القوى المؤثرة الأخرى في الشرق الأوسط، وخاصة التوجهات الغربية تجاه الصراع السوري، بما له علاقة بتداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا.
ثالثًا. أهم الاستنتاجات
- رأت إسرائيل أن الحرب السورية يجب أن تخدم مصالحها العليا وأمنها القومي؛ فالحرب السورية تضعف سورية كدولة، وتضعف نظام الأسد، مما ييسر لها استكمال السيطرة على الجولان السوري المحتل، خاصة أن نظام الأسد قد حافظ على حدودها مع سورية هادئة وآمنة.
- ورأت في انتصار المعارضة المشرذمة، التي سيطرت عليها الصبغة الإسلامية، خطرًا يهدد أمنها القومي، فاستعملت نفوذها لدى الإدارة الأميركية للحفاظ على النظام.
- بقي الشاغل الأساسي لإسرائيل هو منع التموضع الإيراني على حدودها الشمالية في الجولان المحتل، وعدم استقرار الطريق بين طهران – بغداد – دمشق – بيروت.
- حققت الحرب لإسرائيل وضعًا إقليميًا يخدم تموضعها الجيو – سياسي في المنطقة، خاصة قضية عدم انسحابها من الجولان المحتل، بل سعيها للاعتراف بسيادتها عليه، وتحسن علاقاتها مع عدد من البلدان العربية.
- استثمرت إسرائيل الصراع في سورية، لاستنزاف القوى الإقليمية التي تنافسها في الشرق الأوسط وإضعافها، خاصة إيران وتركيا.
[1] أودي ديكل وكارميت بلنسي: إسرائيل توصي بتحول في النهج حول سورية وإزاحة بشار الأسد مقابل تحرك دولي للإعمار – الرابط https://2u.pw/wPkZDAR، شوهد بتاريخ 5 تموز/ يوليو 2023
[2] عمر قدور: مؤيدو بشار في إسرائيل – الرابط https://2u.pw/Vmn2vur، شوهد بتاريخ 3 تموز/ يوليو 2023
[3] محمد محسن وتد: هل تغيّر موقف إسرائيل من نظام الأسد؟ – الرابط https://2u.pw/uHBSHpC، شوهد بتاريخ 10 تموز/ يوليو 2023
[4] خالد خليل: إسرائيل في سورية.. كيف أثرت تل أبيب وتأثرت بالحدث السوري؟ – الرابط https://2u.pw/djoN7Rh، شوهد بتاريخ 3 تموز/ يوليو 2023
[5] ماجد كيالي: الصراع السوري من وجهة نظر إسرائيلية – الرابط https://2u.pw/oTe5WCt، شوهد بتاريخ 10 تموز/ يوليو 2023
[6] أبرز الضربات الإسرائيلية في سوريا منذ عام 2013، الرابط https://2u.pw/Q3QHfzx، شوهد بتاريخ 7 تموز/ يوليو 2023
[7] ترجمة نزار أيوب: تدخّل إيران في سورية 2011-2021، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، الرابط https://2u.pw/Ssna8fs، شوهد بتاريخ 31 كانون الثاني/ يناير 2023
[8] شراكة روسية إسرائيلية لمستقبل سورية – الرابط https://2u.pw/FCQMNfR، شوهد بتاريخ 5 تموز/ يوليو 2023
[9] أمال شحادة: إسرائيل تتحدث عن حرب صامتة لفرملة التموضع الإيراني في سوريا – الرابط https://2u.pw/1NuAzva، شوهد بتاريخ 8 تموز/ يوليو 2023
[10] عبد الله تركماني: الجولان في تحولات الموقف الإسرائيلي من الثورة السورية – الرابط https://2u.pw/nskzERP،
[11] المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات: إسرائيل تستغل الأزمة السورية لانتزاع شرعية دولية لضم الجولان – الرابط https://2u.pw/b9uGDkh، شوهد بتاريخ 5 تموز/ يوليو 2023
[12] مركز حرمون للدراسات المعاصرة: التناغم الأميركي – الإسرائيلي حول مستقبل الجولان المحتل، الرابط https://2u.pw/ZaSj0SJ، شوهد بتاريخ 3 تموز/ يوليو 2023.
[13] ترجمة نزار أيوب: الرابط https://2u.pw/G9ukDfe شوهد بتاريخ 1 تموز/ يوليو 2023
[14] إبراهيم حميدي: 10 أعوام على صفقة إيران الجولان – الرابط https://2u.pw/gSFPCLs، شوهد بتاريخ 7 تموز/ يوليو 2023
[15] مأمون كيوان: مراكز الأبحاث الإسرائيلية وتقسيم سورية.. التوقعات والتصورات والأهداف، مركز حرمون للدراسات المعاصرة – الرابط https://2u.pw/uykPO9، شوهد بتاريخ 8 تموز/ يوليو 2023
[16] يسرى خيزران: رؤية إسرائيلية للثورات العربية، الرابط https://2u.pw/hxkVHJE، شوهد بتاريخ 20 تموز/ يوليو 2023
[17] مأمون كيوان: المرجع السابق
[18] مأمون كيوان: المرجع السابق
[19] ماجد كيالي: سورية في النقاش الإسرائيلي – الرابط https://2u.pw/4iGuqfp، شوهد بتاريخ 4 تموز/ يوليو 2023
[20] رندة حيدر: كيف وظفت إسرائيل تعثّر الربيع العربي؟ – الرابط https://2u.pw/jgTm409، شوهد بتاريخ 4 تموز/ يوليو 2023
[21] ترجمة نزار أيوب: مركز حرمون للدراسات المعاصرة، الرابط https://2u.pw/zn3mLOj، شوهد بتاريخ 27 كانون الثاني/ يناير 2023
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة