كعادتهم الفطرية فى بلوغ الحقيقة من أقصر طريق ، تعود المصريون العوام على إطلاق صفة “أمريكانى” ، كلما صادفهم شئ أو سلوك زائف ، كأن يخون محامى موكله مثلا ، أو أن ترسل محكمة إعلان دعوى لمتهم مفترض على غير عنوانه ، أو أن يدعى أحدهم انجازا أو اختراعاً ، ثم يثبت أنه مجرد “فنكوش”، أو أن يبالغ أحد فى مظاهر التقوى والخشوع ، ثم يثبت أنه شيخ الفجار ، وقس على ذلك كل دعوى كذوب ، وقد لا يكون الأمريكيون وحدهم من يفعلونها ، ففى السياسة مصالح دائمة لاعدوات ولا صداقات دائمة ، كما قال “ونستون تشرشل” ذات يوم ، لكن الطابع “الأمريكانى” صار كالختم الرسمي والماركة التجارية المسجلة .
وهكذا كان الأمريكيون ويكونون ، مع التحفظ فى التعميم طبعا ، فقد وفدت وتفد أقوام كثيرة إلى أمريكا كبلد مهجر ، لكن الأساس الذى بنيت عليه هذه “الأمريكا” ، كان فاسدا بامتياز من أي وجهة نظر أخلاقية ، فقد قامت أمريكا على أنقاض حياة “الهنود الحمر” ، وقتل الرواد الأوائل عشرات ـ ربما مئات ـ الملايين ، بالسلاح والخداع والاغتصاب وسفك الدماء ، ، وبدهس واستعباد ملايين الزنوج ، وكانت تقوم كل فترة بدورات من غسل الضمائر ، من “إبراهام لينكولن” محرر الزنوج ، الذى انتهت قصته بالاغتيال ، إلى الرئيس “ليندون جونسون” ، الذى اضطر لإصدار قوانين العدالة والمساواة بعد اغتيال الزعيم الزنجى “مارتن لوثر كينج” ، ومن دون أن يرى أحد حتى اليوم ، أو يشم رائحة المساواة ، فى بلد قائم على سيادة ضمنية وظاهرة لل “واسب” ، أى البيض الأنجلو ساكسون البروتستانت ، بصفتهم صناعا أصليين للمذبحة الأعظم فى التاريخ البشرى ، ولم يكن لدى الأمريكيين ، حين انتقلوا من “مبدأ مونرو” القاضى بأولوية السيطرة على الحدائق الخلفية فى الأمريكتين ، إلى هدف الهيمنة على الكون كله بعد الحرب “العالمية” الثانية ، لم يكن لهم أن يقنعوا أحدا بمزايا أخلاقية تخصهم ، فلجأوا لإقناع الدنيا كلها بمزايا أخلاق الخضوع ، والخوف من رعب الموت الجماعى بتدمير “هيروشيما” و”نجازاكى” بالقنابل النووية ، وادعوا أن الدمار الذرى كان الطريق الإجبارى لصناعة عصر السلام الأمريكى ، وكلما رفع أحدهم رأسه اعتراضا أو تحديا ، عاجلوه بحرب إفناء ، ومن هنا سقط القناع ، وتوارى وهم أمريكا الضاحكة الغنية ، التى تغدق على المساكين بفوائض قمحها ودولاراتها ، وبأسلحتها التى بدت كأنها لا تقهر ، لكن أمريكا التى انكشفت كذبتها فى وعى العالم المعاصر ، راحت تتلقى الضربات ، وكانت الهزائم الثقيلة من فيتنام إلى أفغانستان ، وراحت تخون أصدقائها وتابعيها ، من حكام “سايجون” إلى حكام أفغانستان ، وكان هروب جيش افغانستان ، الذى صنعته أمريكا على عينها ، ثم هروب “أشرف غنى” الذى نصبته رئيسا لأفغانستانها ، ثم هروب الجيش الأمريكى المحتل لأفغانستان قبل سنتين ، وتركها لأصدقائها وخدامها إلى المصير المحتوم ، كان التصرف “الأمريكانى” عاديا وعفويا ، فهى لا تعرف صديقا ولا حليفا ، إلا أن يكون مفيدا لمصالحها ، ثم ترميه فى لحظة الضيق إلى أقرب سلة مهملات ، وهذا ما تكرر ويتكرر فى أربع جهات المعمورة ، وفى منطقتنا بالذات ، والأمثلة فوق أن تحصى ، لكنها تتجدد هذه الأيام ، خذ عندك ـ مثلا ـ مايجرى بين أمريكا وإيران ، الأخيرة تعتبر أن “واشنطن” هى الشيطان الأكبر ، لكنها لا تمتنع عن ملاعبته ، وواشنطن تبادل طهران براجماتيتها بالسلوك نفسه مزادا منقحا ، ولم يعجب أحد عاقل من الصفقة الأخيرة المعروفة بتبادل السجناء ، التى تحصل طهران بموجبها على سجنائها مقابل خمسة من السجناء الأمريكيين ، وتحصل ـ فوق الصفقة ـ على عشرة مليارات دولار ـ أو أكثر ـ من أموالها المحتجزة لدى أصدقاء أمريكا ، ولا نجادل هنا فى ذكاء المفاوض الإيرانى ، ولا حتى فى مدى صلابة النظام الإيرانى المشتبك فى عراك مع أمريكا عبر أكثر من أربعين سنة مضت ، فطهران تحصل على بعض أموالها المحتجزة ظلما وعدوانا ، لكن الصفقة التى تبدو كغنيمة لإيران ، قد تتلوها صفقات أكبر ، تسقط القناع عن الوجه الأمريكى القبيح ، الذى يوهم الآخرين باعتباره راعيا لقيم الحرية والعدالة الإنسانية ، وقدم ويقدم نفسه لبعض العرب كجدار حماية ضد التغول الإيرانى ، ثم يبيعهم عند أقرب ناصية ، ويخونهم وبراءة الأطفال فى عينيه ، ويواصل ابتزاز ثرواتهم التريليونية ، وتزيين “التطبيع” مع “إسرائيل” باعتباره طوق النجاة ، فى مسلسل لا ينتهى من الأكاذيب والخيانات المفضوحة ، وللحق والحقيقة ، فإن أمريكا الخائنة لأصدقائها ، وإن كانت تخص العرب بعنايتها الفضلى ، فإنها لا تحرم من خياناتها أحدا فى الدنيا الواسعة ، حتى من أصدقائها وتابعيها الأوروبيين الأقربين ، فقد دبرت عملية تفجير خطى “نورد ستريم” لنقل الغاز الروسى الرخيص لأوروبا ، ثم راحت تبيع غازها المسال للأوروبيين بأربعة أو بستة أضعاف السعر ، ومن دون أن نلقى بالا لجراح الاقتصاد الأوروبى ، الذى أرهقته تكاليف حرب أوكرانيا ، وحتى قبل نشوب هذه الحرب بشهور ، كانت أمريكا تخون فرنسا ، وتتفق مع بريطانيا واستراليا على إنشاء تحالف “أوكوس” فى مواجهة الصين ، وإلى هنا قد يكون الأمر مفهوما على خرائط الصدام العالمى الجديد ، لكن أمريكا صدمت فرنسا ، ودفعت استراليا لإلغاء صفقة غواصات مع باريس عقدت عام 2016 ، وأحلت محلها صفقة غواصات تعمل بالطاقة النووية مع واشنطن ولندن ، وخسرت فرنسا صفقة الأربعين مليار دولار ، وهو ما اعتبرته فرنسا “طعنة فى الظهر” ، لم يرتعش لها جفن أمريكا ، واكتفت بابتسامة صفراء فى وجه الرئيس الفرنسى “إيمانويل ماكرون” ، الذى يعانى هذه الأيام من خيانة أمريكية جديدة فى قلب أفريقيا هذه المرة ، وفى انقلاب “النيجر” الأخير ، كانت “النيجر” مستعمرة فرنسية ، وظلت كذلك حتى بعد جلاء الاستعمار “الكولونيالى” عام 1960 ، تضع رجالها فى الحكم بانقلابات أو بانتخابات ، وإلى أن أطاح أخيرا الجنرال “عبد الرحمن تشيانى” بالرئيس “محمد بازوم” رجل فرنسا فى “النيجر” ، التى كانت “منجم اليورانيوم” الأرخص لفرنسا ، فوق وجود قواعد عسكرية لباريس ، هربت إلى “النيجر” بعد طردها من “مالى” و”بوركينا فاسو” ، وحاولت فرنسا الدفع لغزو عسكرى يطيح بقادة النيجر الجدد ، الذين قرروا من طرفهم إلغاء الاتفاقات الأمنية والعسكرية مع فرنسا ، وقرروا وقف تصدير “اليورانيوم” لمفاعلات فرنسا النووية الكهربية ، لكن جهود فرنسا ظلت تتعثر ، وخذلها قادة المنظمة الاقتصادية لغرب أفريقيا “ايكواس” ، الذين يقدمون رجلا ويؤخرون عشرة فى خطة ردع حكم الجنرال الجديد ، الراغب فى نجدة روسية وربما صينية ، لكن واشنطن الخائنة كعادتها ، ضربت صفحا عن رغبات فرنسا الملحة ، وتمتنع حتى تاريخه عن وصف ماجرى فى “النيجر” بالانقلاب العسكرى ، وتقيم علاقات معقدة مع جنرالات “نيامى” ، ربما إعدادا لانقلاب معاكس عند الحاجة ، أو التفاهم مع من بيدهم الأمر رعاية لمصالحها هى ، وليس لمصالح فرنسا ، الذاهبة بأثر من الريح الأفريقية الجديدة ، الكارهة لأى وجود لباريس ، فيما راحت واشنطن تشيح بوجهها عن “أختها” فرنسا ، وتتحدث علنا عن أولوية “الحل الدبلوماسى” ، صيانة لمصالحها وقواعدها فى “النيجر” ، ولا مانع عندها ـ ببساطة ـ من ذهاب فرنسا إلى الجحيم .
وقد فعلتها أمريكا ، وكذبت وخانت الأصدقاء والعملاء ، حتى فى سيرة إيران نفسها ، عندما أطاحت بحكم الشاه الموالى للأمريكيين ، وحاول الشاه المخلوع اللجوء لرعاية ومكافأة نهاية خدمة فى واشنطن ، لكنهم رفضوا أن يفتحوا له بابا أو شباكا ، ورفضوا حتى أن يقدموا له فرصة راحة طبية من مرضه العضال الأخير ، وانتهى به الحال إلى الدفن فى مصر أواخر أيام الرئيس السادات ، وتكررت القصة ذاتها بصور متنوعة ، وعبر مئة دولة تدخلت بها أمريكا ، التى تجد نفسها اليوم عاجزة عن إخفاء طبعها الغريزى فى الكذب وخيانة الأصدقاء ، ولن يعجب أحد ، إن باعت واشنطن عميلها الأوكرانى “فولوديمير زيلينسكى” ذات يوم قريب ، فقد تغير العالم ويتغير فى صخب جارف ، لكن أمريكا هى ذاتها لم تتغير ، وظلت هى “الطاعون أمريكا” بوصف الشاعر الفلسطينى الراحل المرموق “محمود درويش” ، داومت على طبعها الوبائى فى السياسة العالمية ، مع أحاديثها المضجرة عن القيم والقواعد والقوانين والديمقراطية وغيرها من مساحيق التجميل ، التى لا يصدقها سوى البلهاء والعملاء ، فهى لا لاتعرف الحق بصفته ، ولا تعرف الباطل بصفته ، بل ما يضرها ويدمى أصابعها هو الباطل ، وما ينفعها هو الحق عندها ، ولا ضرر ولا ضرار عندها ، إن هى ألقت بأصدقائها طعاما لخصومهم ، وخيانة “العيش والملح” عادتها الأصلية ، وداء ولدت به وعليه تموت .
المصدر: القدس العربي